شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة المحتفى به الأستاذ الدكتور محمد عمارة ))
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلاةً وسلاماً على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته، وسار على طريق جهاده إلى يوم الدين.
أيها الأخوة الكرام.. هذا مقام من مقامات الشكر، الشكر لله سبحانه وتعالى ثم إليكم وبعد أن سمعت هذه العروض الطيبة والعميقة حول الجهود المتواضعة التي وفقني الله إياها، آثرت أن أقف معكم أمام بعض المحطات.. المفاصل في مسيرتي الفكرية التي لن تجدوها في الكتب، هناك في المسيرة الفكرية صفحات لم تكتب بعد، وأتصور أن فيها من العبر والدروس والعظات والخبرات ما يستحق أن ألقي بعض الضوء على هذه القضايا وهذه المفاصل والمحطات، بل قد يكون هناك أشياء لم أتحدث فيها من قبل، آثرتُ أن أفتح قلبي لهذه القلوب الطيبة التي تحتفي بي في هذه الليلة في هذا المكان الطيب.
أنا ولدتُ في الريف -فلاحين- الأسرة التي ولدتُ فيها أسرة لم يكن فيها من يقرأ ولا يكتب، يعني والدي لم يتعلم، فلاح، كل أخوتي يشتغلون بالفلاحة وأنا أصغر أخوتي الذكور، والدي عليه رحمة الله كان شديد التدين، كان فيه خلق الصالحين، وأنا حَمْل قبل أن أولد نذر لله سبحانه وتعالى أن هذا الحمل إذا جاء ذكراً يسميه محمداً ويهبه للعلم، العلم في ذلك التاريخ هو العلم الديني، في فترة مبكرة وأنا سني أربع سنوات تقريباً أحضر لي فقيهاً يعلمني القراءة والكتابة ويحفظني القرآن، ثم دخلت كتَّاباً، وكان المحفِّظ شديداً.. عنيفاً كرهت التعليم، وهربت من التعليم إلى الفلاحة، لكن والدي عليه رحمة الله قسا عليَّ في الفلاحة كي أدرك أن قسوة الكُتَّاب أقل من قسوة الفلاحة.
عدتُ إلى كتَّابٍ آخر كان معلماً بشوشاً مثقفاً، بلغ في التعليم في الأزهر إلى ما يقرب من الثانوية، كل ملكاتي تفتحت عندما وُجِد المعلم الصالح، ولذلك أنا دائماً أؤكد أن الإنسان ثمرة طيبة لمعلم طيب، أو ثمرة مُرة لمعلم سيئ، ثمرة طيبة لكتاب جيد أو ثمرة مُرَّة لكتاب غير جيد، دخلت بعد أن حفظت القرآن وجودت القرآن دخلت في التعليم الأزهري معهد الدين الابتدائي، وأنا في السنة الثانية الابتدائية منَّ الله عليَّ بمدرس لم يكن شيخاً تقليدياً، المشايخ في ذلك التاريخ كانوا تقليديين إلى حد كبير، جيلنا لم يكن يقرأ الصحف والمجلات وكان الطالب الذي يقرأ غير الكتاب المقرر يعتبر طالباً فاسداً، جاءنا هذا المدرس يدخل الفصل بالصحيفة يقرأ افتتاحية (جورنال) ويطلب منا أن نقرأ في غير الكتب المقررة، وذهبت فاشتريت أول كتاب في حياتي (النظرات) للمنفلوطي وطلب مني أن أحضر هذا الكتاب إلى الفصل، وأن أطالع في هذا الكتاب فتعلمت الخطابة في حصة المطالعة.
هذا الشيخ، الشيخ محمد كامل الفقي عليه رحمة الله، كان أديباً وشاعراً، ووصل إلى أن كان عميداً لإحدى كليات الأزهر، في ذلك التاريخ حدثت الحركة الوطنية في مصر، أنا دخلت المعهد سنة خمس وأربعين ميلادية، سنة ست وأربعين شاركت في أولى المظاهرات ضد معاهدة صدقي - بيفن مع إنجلترا، العمل السياسي لفتني إلى عالم غير تقليدي بالنسبة للطالب الأزهري، بالنسبة للشيخ المعمم في الأزهر، بدأت أقرأ دخلت حزب مصر الفتاة بعد ذلك كان اسمه الحزب الاشتراكي، بدأت أقرأ في الفكر الغربي وهذه قضية ميزت ثقافتي عن كثيرين، كثيرون من التيار العلماني يقرؤون أوروبا ويفقهون أوروبا فقهاً جيداً، لكن الواحد منهم لا يستطيع أن يكتب سطراً في تراثه الإسلامي، وعندنا مثقفون تراثيون يفقهون تراثهم فقهاً جيداً لكنهم لا يعرفون عن الآخر سطراً واحداً، ولذلك لدينا مثقف ينظر بعين واحدة، واحد لا يرى إلا تراثه، وواحد لا يرى إلا الغرب وهذه مشكلة، أنا منَّ الله عليَّ وأنا في مقام الشكر أذكر من نعم الله عليَّ أن ثقافتي تأسست تأسيساً إسلامياً وقرأتُ في الفكر الغربي فرأيت عظمة الإسلام في ضوء الآخر، ورأيت بضاعة الآخر في ضوء الإسلام.
عندما نبهني أستاذي هذا إلى أهمية الكتاب، أهمية الاطلاع خارج المقررات الدراسية، لفت ذلك نظري إلى قصة طريفة كان في قريتنا طالب تخرج من الأزهر، من كلية أصول الدين تخصص في الوعظ والإرشاد وشاء الله أن يُتوفى في العام الذي تخرج فيه، كان أديباً وشاعراً وخطيباً، وكان رجلاً بتعبيرنا في مصر (يقول لك ابن ليل) يعني يضرب نار.. شجاع، حتى الرجال الذين هم متميزون في القرية كان هو زعيمهم، كان شخصية متميزة، عالم، خطيب، أديب، شاعر، قارئ، وشجاع، وقائد في نفس الوقت، توفي في العام الذي تخرج فيه، وكانت لديه مكتبة غير عادية وأسرته أيضاً ليس فيها من يقرأ ولا يكتب، فعندما توفي أصبحت هذه المكتبة نهباً لمن يريد، الأطفال الذين يبكون يعطونه كتاباً ليلعب به إلى آخر هذا.
عندما أدركت أهمية الكتاب بدأت أشتري هذه المكتبة، أنا اشتريت أربعة آلاف كتاب مجلد، يكفي أن تعلموا أن هذه المكتبة كان فيها مجلة "الأزهر" كاملة، مجلة "الرسالة" كاملة، النسخة الأصلية لمجلة "العروة الوثقى" التي أصدرها الأفغاني ومحمد عبده، وفيها كثير من المترجمات من الفكر الغربي وعيون الفكر الإسلامي، شعراً وأدباً وفقهاً وحديثاً وتاريخاً إلى آخره، اشتريت أربعة آلاف كتاب كنا نشتري الكتاب بقرش، طبعاً يعني أربعين جنيه في ذلك التاريخ يشتروا أراضي، مع أن الفلوس أيامها كان لها قيمة غير الآن فاشتريتها بالتدريج، وقرأت هذه المكتبة وأنا طالب، أنا كان نظري في ذلك التاريخ ستة على ستة عينيَّ الاثنتين، كنت أقرأ إلى أن أجد سطور الكتاب تتوه أمامي حفظت العديد من دواوين الشعر، المتنبي، سقط الزند للمعري... غيره وغيره من هذه.. الرسائل.. نماذج للرسائل الأدبية البلاغية، هذه كانت مرحلة التكوين، مرحلة القراءة ومن أجل ذلك أنا لا زلت حتى الآن رغم الإنترنت ورغم الكمبيوتر وكل هذا أرى أن الكتاب هو الوسيلة الأولى والأساسية بالنسبة للثقافة، لأن الكتاب أنت تختاره وليست شبكة المعلومات التي تلتقي فيها بالفكر العشوائي الذي وضع كل من يريد ما يريد على هذه الشبكة، إنما أنت تقرأ الكتاب وهو طوعك وخير صديق، تلجأ إليه عندما تريد وتتركه عندما تريد.
هذا التكوين الثقافي في تلك الفترة المبكرة من حياتي صحبه أيضاً من منن الله سبحانه وتعالى عليَّ تجربة روحية عميقة، هذه التجربة كانت فيها مجاهدات روحية، منَّ الله عليَّ فيها برؤية اليقين عين اليقين، وعرفت معنى فراسة المؤمن التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أقول لكم في تلك الفترة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا، بل ورأيت ليلة القدر، وهي تجربة يعني لن أحكي لكم تفاصيلها لكن أقول لكم كيف كنت أستعد، فالإنسان يتعبد مئات الركعات في الموقف الواحد ثم دعاء صغير صَمَّمتَه لِلَّحَظَة (اللَّهم اغفر لي واجعلني من أهل العلم إنك على كل شيء قدير) هذا هو الدعاء.
التجربة الروحية التي مررتُ بها، جعلتني عندما التقيت في مرحلة من مراحل حياتي وأنا طالب بالتيار اليساري وقرأتُ أحدثَ ما في الغرب، الماركسية، ودرستها جعلتني هذه التجربة الروحية جعلتني أرى الآخر في ضوء الإسلام، وأدركُ في نهاية المخاض أن كل مشكلات الأمة لا يمكن أن يكون لها حل إلا في الإسلام، حتى المشكلة الاجتماعية التي كانت الماركسية في ذلك التاريخ تتصور أنها تقدم فيها الحل الذي لا حل آخر له، أو حتى الليبرالية في الغرب كل هذه التجارب لأنني خضت غمار هذا الفكر بعد أن منَّ الله عليَّ بهذه التجربة الروحية، ولذلك أنا الآن وبعد مسيرتي في الحوارات التي أشار إليها أخي العزيز الدكتور عبد القادر طاش مع رموز الفكر العلماني والفكر المادي والإلحادي، أدركت أنها كانت حكمة إلهية، أن أقوم بِبِعثة لأرى هذا الآخر حتى أمتلك مفاتيح فكر هذا الآخر، حتى إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن أحاور مفكراً أو أن أرد على مفكر من هؤلاء المفكرين أن تكون لديَّ القدرة على فهم مفاتيح هذا المشروع الفكري.
ولذلك عندما كتبت كتاباً صغيراً عن التفسير الماركسي للإسلام لنصر أبو زيد، كعادتي لا أقرأ ما كُتب عن الشخصية التي سأحاورها إلا في النهاية، يعني أقف أمام كتبه، أمام كل ما كتب حتى الأحاديث الصحفية وأدركت أن هذا الرجل يفسر الإسلام تفسيراً مادياً، أنا قرأت الماركسية وأعرف مفاتيح هذا الفكر الذي يرى القرآن نصاً بشرياً وجزءاً من الثقافة وأنه ديالكتيك صاعد وليس ديالكتيكاً هابطاً، وأن الشريعة صنعت في مجرى التاريخ إلى آخر كل هذا الذي قاله في كتاباته، إذاً قراءتي للفكر الآخر أدركتُ أنها كانت إرادة إلهية، هذه بعثة لكي أُدرك ما لدى الآخر من أطروحات ولكي أدرك مفاتيح هذا الآخر حتى أُدرك عظمة الإسلام في ضوء هذا الآخر.
المشروع الفكري الذي توفرتُ عليه وهذا أنا انقطعت له وآثرت ألا أدخل في سلك الوظائف ولا في التدريس في الجامعات، ولا السفر إلى الجامعات العربية أو غيرها، وأردت أن أمتلك كل وقتي لهذا المشروع. كان هاجسي تكوين عقل عربي ومسلم أصولي، بالمعنى الأصلي لكلمة "أصولي" أنه يعود إلى المنابع النقية والجوهرية لهذا الدين ولهذه الأمة ومستقبلي في ذات الوقت، يعني يفقه الأحكام ويفقه الواقع، ويعقد القِرانَ ما بين الأحكام وما بين الواقع وهذه هي مشكلتنا، نحن لدينا من يفقه، كثيرون من يفقهون الأحكام لكنهم لا يفقهون واقعهم، ولدينا من يفقهون واقعهم لكنهم لا يفقهون تراثهم ولا يفقهون تراث أمتهم ودينهم، ولدينا من يفصلون ما بين فقه الواقع وما بين فقه الأحكام، أنا كان هاجسي الأول في مشروعي الفكري أولاً أن أبعث تراث علماء وقادة وروّاد اليقظة الإسلامية الحديثة، وأن أختار من تراثنا القديم النصوص والشخصيات التي مثَّلت عطاءً لا يزال صالحاً للعطاء في هذا الواقع الذي نعيش فيه، إذن نحن نريد أن نمحو هذا الفصام النكِد بين أصولنا الحضارية وبين واقعنا الذي نعيش فيه وبين المستقبل الذي نستشرفه.
نحن فُرِضتْ علينا منذ الاحتكاك بالحضارة الغربية الحديثة مرجعية وضعية علمانية لا دينية تزاحم المرجعية الإسلامية، وهذه أصبحت من النوازل، يعني لا نستطيع أن نلغي أن في مجتمعاتنا آخر لا ينطلق من المرجعية الإسلامية، ونحن لا نستطيع أن نصادر فكر هؤلاء الناس، لأن القرآن الكريم يعلمنا بمنهجه أنّ مصادرة الآخر لا تحل المشكلة، بل القرآن هو الذي كان يستدعي ما لدى الآخر، حتى الآخر، الآخر عندما يكون دهرياً وعندما يكون مشركاً يقول له: قل هاتوا برهانكم، هل عندكم من علم أو أثارة من علم؟ بينما الذين كانوا يصادرون الفكر الآخر هم المشركون هم الذين كانوا يقولون لا تسمعوا لهذا القرآن، إذاً منهاج القرآن يعلمنا أن فكر الآخر وضعَهُ القرآن في سوره وآياته نتعبده بها حتى الآن، قالوا ساحر، قالوا مجنون، قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا، أجعل الآلهة إلهاً واحداً، كل هذه المقولات التي كان يقولها الآخر، الدهري والمشرك لم يتجاهلها الإسلام، لم يغض الطرف عنها، لم يدر ظهره لها، وإنما أخذها وحاورها وفندها، ولذلك نحن الآن نعيش مع مرجعيات غير إسلامية ولا نستطيع أن نتجاهلها وإنما علينا أن ندرس هذه المرجعيات، وهذه الثقافة وهذه الأطروحات وأن نحاورها وأن نرى الإسلام في ضوءها وأن نراها في ضوء الإسلام.
ولذلك عندما نتكلم عن مشروع حضاري نتكلم عن مشروع يقدم تميزَ الإسلام كنمط وكمشروع نهضوي حضاري لهذه الأمة، ونتكلم عن الإسلام الذي ينطلق من أصوله الجوهرية والنقية، والمقدَّسُ لدينا هو البلاغ القرآني والبيان النبوي لهذا البلاغ القرآني، ما عدا ذلك في تراثنا نسترشد به.. نستهدي به.. نحتضنه.. نحنو عليه، لكننا لا نقدِّسه ولسنا ملزمين به، وإنما نأخذ منه ما يفيد ما هو صالح للعطاء للإجابة على علامات الاستفهام التي يطرحها واقعنا المتغير، إذاً لا بد في التراث.. في الموروث من التمييز بين المقدَّس القرآن الكريم والسنة النبوية، وما عدا ذلك فهو فكر نحتضنه بتياراته المختلفة، يعني أنا من الذين تجدون في كتبي تيارات الفكر التراثية موجودة، ستجد أن للسلفية مقاماً عالياً في هذه الكتب، احتضان تراث الأمة لأن هذا التراث تراث أمة ونحن جزء من الأمة والتعصب المذهبي يضر صاحبه ولا يفيد هذا الذي يتعصب لمذهب من المذاهب.
العلماء في قرونهم الماضية كانوا يجتهدون لعصورهم ولو كانوا في عصرنا لما وقفوا عند اجتهادات الأقدمين، لا نهدر أيَّ اجتهاد من الاجتهادات، لكننا لا نكون عبيداً لاجتهاد من الاجتهادات كما يقول الإمام محمد عبده عن الإنسان: أنه عبدٌ لله وحده، وسيدٌ لكل شيء بعده، ما عدا الوحي والبيان النبوي لهذا الوحي كل هذه أشياء مسخرة للإنسان، يعني تراثنا مسخر لنا كما سخر الله لنا سبحانه وتعالى كل آيات الكون وكل قوى الكون وملكات الكون.
بعض الأخوة تحدثوا عن موضوع العقلانية، وهذا للأسف الشديد موضوع مُشْكِل لدى قطاع من الأمة، ليس فقط قطاعاً تراثياً يتحسس مسدساته إذا ذكرت كلمة العقلانية وإنما أيضاً تراه قطاع علماني لأنه أيضاً هناك في حياتنا الفكرية من يريد العقلانية بمعناها اليوناني، عقلانية لا علاقة لها بالنقل، أو يريد العقلانية بالمعنى النهضوي الأوروبي عقلانية ثورة على النقل وعلى الوحي، نحن أمة تميَّز موروثها الفكري أن عقلانيتها نابعة من النقل من القرآن الكريم، النقل في الإسلام وهو القرآن الكريم معجزة عقلية أتت لتحتكمَ إلى العقل وليس لتدهش العقل، قبل رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم، كانت المعجزات مادية تُدهِشُ العقل فتشله عن التفكير، بينما جاءت معجزة الرسالة الخاتمة معجزة عقلانية تحتكم إلى العقل تستنفر العقل، تجعل العقل مناط التكييف، ولذلك الذين يجعلون من قضية العقلانية مشكلة في حياتنا الفكرية هؤلاء لا يدركون أن لنا كما أسميه دائماً عقلانية مؤمنة تقيم الأدلة العقلية على النقل، وهذا النقل هو معجزة عقلية، بل إن لغتنا العربية لا تعرف المقابلة بين العقل والنقل، المقابل للعقل هو الجنون وليس النقل، ولذلك هذا افتعال لمشكلة لا وجود لها في تراثنا ويجب ألا يكون لها أثر في مشروعنا الفكري.
حتى قضية السلفية، بعض الناس يتصور أن السلفية نقيض للتجديد، نقيض للتقدم وفعلاً هناك من يفهمون السلفية هذا الفهم سواءً أكانوا تراثيين أو كانوا من العلمانيين، يعني هناك علمانيون أصبحت كلمة السلفية عندهم.. سُبَّة وكلمة يسبون بها الآخرين، بينما السلف هو الماضي، وليس هناك إنسانٌ بلا ماضٍ وليس هناك إنسان إلا وهو سلفي، لكن القضية هي من هو سلفك؟ هل سلفنا عصر التراجع الحضاري أو عصر الازدهار الحضاري؟ وكيف نتعامل مع السلف؟ هل نهاجر إلى السلف؟ أم أننا نسترشد بالسلف، إذاً لدينا سلفيات متعددة ولذلك أنا فيما كتبت، كتبت عن السلفية العقلانية المستنيرة، يعني هناك تيار يعود إلى الأصول ويرى الأصول بعقل عصري مستنير، ويقدم هذه الأصولية الإسلامية بمعناها الحقيقي وليس بمعناها الغربي المرذول، ولذلك هذه المصطلحات.. هذه الإشكاليات التي طُرِحتْ في حياتنا الفكرية مطلوب أن يكون لها حل إسلامي.
وأنا رأيت أن كل المجددين في تاريخنا وفي تراثنا كانوا سلفيين بهذا المعنى، هو يعود إلى المنابع الجوهرية في الدين وهنا يكون سلفياً، لكن في الدنيا لا يمكن أن يكون سلفياً، في الدنيا يجب أن تكون واقعياً وعصرياً ومستقبلياً، ولذلك الذين أرادوا أن يجعلوا نظرتهم للدنيا وللمدنية وللعلوم المدنية نظرة سلفية هؤلاء هم الذين وقفوا ضد التمدن وضد التقدم، والذين أرادوا الانفصال عن الموروث الحضاري هؤلاء ظنوا أن السلفية سُبَّة، وأنه لا يجوز أن يكون الإنسان سلفياً، إنما كيف نوفّق بين السلفية الدينية بمعنى أن تعود إلى المنابع الجوهرية وليس للتعصب المذهبي، وبمعنى أن تكون مستقبلياً في رؤية واقعك وفي رؤية المشروع الحضاري والعلوم المدنية والعلوم الأدبية والآداب والفنون إلى آخره، إذاً كثير من الإشكالات التي طرحت للأسف الشديد نتيجة وجود ثقافتين مرجعيتين مختلفتين، مرجعية تراثية، ومرجعية غربية، كل هذه الإشكالات أتصور أنه كان من هواجسي في المشروع الفكري أن أقدم الحلول التي رأيتها حلولاً إسلامية لهذه المشكلات.
أنا طبعاً لا أريد أن أطيل عليكم لأن موضوع الأسئلة أتصور أنه موضوع أساسي، حتى الكلام عن التنوير أنا كتبت كلاماً كثيراً في هذا الموضوع هناك خلط بين التنوير بمعناه الغربي وتنوير وضعي علماني يعزل السماء عن الأرض، يحرر الحياة والدنيا من الشريعة الإسلامية والتدبير الإلهي، ويفهم عمل الذات الإلهي كما فهمه الجاهليون، رأوا الله سبحانه وتعالى مجرد خالق بينما كانت الأصنام والشركاء يستشيرونها في الأمور الدنيوية، وهي نفس الرؤية الأرسطية أن الله خلق العالم ثم تركه للأسباب الذاتية المودعة فيه، فالله مجرد خالق عندهم ليس مدبراً للكون، بينما الرؤية الإسلامية مختلفة عن هذا تماماً، ألا له الخلق والأمر، له التدبير، قال فمن ربكما يا موسى؟ قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، يعني ليس مجرد خالق وإنما هو خالق وراعٍ وهادٍ ومدبر لهذا الكون، ولذلك كثير من المصطلحات الثقافية والفكرية في حياتنا فُهمت عند التراثيين وأهل الجمود والتقليد فهماً خاطئاً، وفُهمت أيضاً عند العلمانيين والوضعيين فهماً خاطئاً، ولذلك نحن مطلوب أن نعيد فهم وعرض تراثنا مرة أخرى حتى نستطيع أن نرى الآخر في ضوء هذا التراث.
تحدثت كثيراً في كتاباتي عن الآخر، وربما من أحدث الكتب التي أصدرتها أخيراً في هذا العام، كتاب عنوانه "الإسلام والآخر" مَنْ يعترف بِمَنْ ومَنْ ينكر مَنْ؟ لأنهم يبتزوننا على النطاق العالمي وكأننا نحن الذين لا نعترف بالآخر، بينما الإسلام لا يكتمل الإيمان به إلا إذا آمن المسلم بكل الرسل والأنبياء، والإسلام يعتبر التعددية سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، فالواحدية والأحدية فقط للذات الإلهية، وما عدا الذات الإلهية في عوالم النبات والحيوان والإنسان والأفكار والجماد، كل هذا يقوم على التعددية وعلى التنوع، وبالتالي نحن الذين نرى وجود الآخر سنةً من سنن الله سبحانه وتعالى، بينما الآخرون هم الذين لا يعترفون بالإسلام، لا اليهود يعترفون بالإسلام، ولا النصارى يعترفون بالإسلام، ولا الحضارة الغربية تعترف بغيرها من الحضارات.
ولذلك مطلوبٌ أننا عندما نتحاور مع الآخر، حواراتنا أغلبها مع الآخرين حوارات طُرشان، لماذا؟ لأنك تتحاور مع من لا يعترف بك، كيف يكون حواراً إذا لم يكن هناك اعتراف وقبول متبادل؟ تتحاور مع اليهود وهم لا يعترفون بك ديناً، تتحاور مع النصارى لا يعترفون بك ديناً، تتحاور مع الحضارة الغربية لا تعترف بغيرها من الحضارات والنزعة المركزية الغربية لا تعترف بغيرها، إذاً لا بد أن ندرس الإسلام والتنوع والتعددية في الإسلام كسُنَّة من سنن الله سبحانه وتعالى حتى نستطيع أن نتحاور مع هذا الآخر، وحتى يكون هناك قبول متبادل بيننا وبين هذا الآخر.
أنا أقول الوسطية الإسلامية وهذه هي النقطة الأخيرة أنا أوليتُها الكثيرَ من الاهتمام، لأن مشكلتنا أن الذين لا يدركون حقيقة الوسطية الإسلامية لم يستطيعوا رؤية حقيقة الإسلام، أنا أُشبِّه الوسطية بالمنظار، الإنسان يرى العالم من خلال هذا المنظار، لن تستطيع أن ترى حقيقة الإسلام إلا من خلال الوسطية، ولذلك إذا أدركنا الوسطية لن تكون هناك مشكلة بين الدين والدنيا، بين الدين والدولة، بين الدنيا والآخرة، بين الفرد والمجموع، لن تكون هناك مشكلة بيننا وبين الآخر، لن تكون هناك مشكلة بين العقل والنقل، ولذلك الذين أخطأوا من شبابنا ودخلوا في تيارات الجمود أو في تيارات العنف، أنا أوليت هذه القضايا بعض الاهتمام لأني أقول: إن الوسطية تجعل صاحبها دائماً يحارب في جبهتين، جبهة الغلو الديني والغلو اللاديني، لأن الوسطية هي التي تنفي هذا الغلو بشقيه ولا بد أن نكون صرحاء وأن تكون لدينا شجاعة، كما تكون لدينا شجاعة لنقد الآخر العلماني وكسر شوكته لا بد أن تكون لنا الشجاعة لكي ننقذ أبناءنا وشبابنا من الجمود والانغلاق، ومن تيار العنف الذي رأينا جميعاً كيف كان وبالاً على هؤلاء الشباب، وأنا كان لي الشرف أنني كنت أول من كتب دراسة نقدية لكتاب جماعة الجهاد، كتاب "الفريضة الغائبة" ودراسة موضوعية حتى عندما قرأوها وهم يحاكمون في قضية مقتل السادات، قالوا لي أنك كنت أميناً في عرض مقولاتنا، بل عرضتها أجود مما عرضها كتابها، لكن أنا عرضتها ونقدتها وكتبت حولها الملاحظات. نحن لا نقدِّس التراث، عصرنا يطرح علامات استفهام جديدة لأن الواقع تاريخي، الواقع يتغير، بينما نصوص الكتاب المقدس ليست تاريخية ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، لكنّ فهمَنا نحن هو الذي يتغير كما يقول ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" عن تغير الفتاوى والأحكام بتغير الزمان والمكان والعادات والمصالح إلى آخره، إذاً لا بد أن تكون الوسطية هي النبراس الذي يحكم المشاريع الفكرية الحقيقية والذي بها نعالج كل الانحرافات سواءٌ أكانت غلواً دينياً أو غلواً لا دينياً.
أنا قلت لكم هذه الخواطر السريعة من باب ذكر نِعَمِ الله سبحانه وتعالى عليَّ، لأنه في هذا المقام الذي هو مقام من مقامات الشكر الذي أشكر لكم فيه هذا التكريم الذي تطوقون به عنقي، أردت أن أذكر بعض نعمَ الله سبحانه وتعالى عليَّ في النشأة وفي التكوين، وفي أن أراني عين اليقين، وفي أن عصمني من أن أضل طريقي وفي أن جعلني وهذا دعاء أدعو الله سبحانه وتعالى به "اللَّهم اجعل لي لسان صدق لدينك، اللَّهم أعني على نصرة دينك، اللَّهم أيدني بالحق وأيد الحق بي" هذه بعض الأدعية التي دائماً أدعو الله سبحانه وتعالى بها لأنني ما أنا إلا ذرة في هذا الكون العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى ميداناً لإبداع العقل العربي والمسلم والإنساني، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه. أشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :648  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 85
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج