محمد عقيل.. شيخي، وأستاذي !! |
هو ((شيخي)) في العلوم الشرعية (تفسيراً، وحديثاً، وفقهاً، وتوحيداً) في المرحلة ((المتوسطة)) بمدرسة (معاذ بن جبل المتوسطة) بمدينة جيزان، في الفترة المسائية، أما في الفترة الصباحية فكنتٌ أعمل موظفاً !! |
وهو ((
أستاذي
))
في
((
علم البلاغة
)) عصراً، في مسجده بحارة ((الشامية)) على ((الطريقة السلفية)) التي كانت سائدة في حلقات ((الجوامع، والمساجد)) التي قرأنا عنها في تاريخنا العربي الإسلامي حين كانت الجوامع، والمساجد منارات تتلألأ بالعلوم، وتشع بالمعارف الإنسانية، دون مواد مقررة رسمياً لا يخرج المدرِّس عن دائرتها كما هو الحال في عصرنا، لقد كان الطالب يدرس كتاباً معيَّناً من الكتب في علم من العلوم على يدي عالم من العلماء، فإذا انتهى منه، وأجاده، حصل على ((إجازة)) ـ شهادة ـ من العالم بمثابة اعتراف على أنه جاز هذا الكتاب، ومن هنا جاء مصطلح ((إجازة)) مقابل ((شهادة)) بلغة عصرنا، حسب اعتقادنا. |
لمن نكن مجموعة من الطلبة، بل كنا أثنين من شداة الأدب، كنتُ أحدهما، ومعي الصديق العزيز (هاشم عبده هاشم) ـ الدكتور حالياً في علم المكتبات، ورئيس تحرير جريدة
((
عكاظ
))
اليومية بجدة ـ كانت سنوات كفاح مريرة طلباً للعلم، والمعرفة بمختلف الوسائل، والسبل، كنا من جيل بَنَى نفسه بنفسه، وصنع مستقبله بالأظافر، جارحاً ظلمة الليل
((
بالفانوس
))
مع السهر بصحبة الكتاب، جيل حفر الصخر بقوة إرادته، مشى على الشوك، ولسعته الرمضاء، وأحرقت الشمس جبهته، جيل لم يعرف الكهرباء، جيل عرف شرب الماء من
((
الزير
))
، والجرَّة
))
، جيل بعضهم سكن
((
العشة
))
، و
((
العريش
))
المبنيين من
((
القش
))
، وبعضهم سكن
((
البيت الشعبي
))
المبني من الطين والحجارة، لكنه كان سعيداً بكل أبعاد السعاده، مرتاح البال بالإيمان، والقناعة، جيل لم يعرف
((
الأسهم، والسندات
))
، وإذا مرَّت طائرة في الجو تابعها بعينيه مندهشاًَ لهذا الجسم لهذا الجسم المعدني الذي يسبح في الجو كما تطير الطيور !!
|
كان شيخي، وأستاذي العالم، اللغوي، الشاعر (محمد بن عقيل بن أحمد بن بشير بن حنين الهمداني) تغمده الله بواسع رحمته، عزوفاً عن الأضواء، لا يحب البهرجة، والشكليات، والحفلات الرسمية، هو من أبناء مدينة ((
جيزان
))
أم الصبر والصابرين، وُلِدَ عام 1331هـ. |
تلقى دراسته الأولى في ((
الكتاتيب
)) وفي طفولته حفظ ((
القرآن الكريم
)) على يد الشيخ الفقيه (عبد الله شمَّاخي)، ودرسّ ((
أصول الفقه
))، ((
والتوحيد
))، و ((
علم الفرائض
)) على يدي والده الذي كان عالماً، ثم درس ((
النحو
)) على يدي الشيخ (محمد السالم الشنقيطي)، أما ((
علم الحديث
)) فقد درسه على يدي الشيخ (حافظ الحكمي) الذي كان عالماً في عصره، وانتقل إلى رحمة الله، وهو في نهاية العقد الرابع، أو بداية العقد الخامس من عمره. |
كان شيخي، وأستاذي يتفرَّد بالنباهة، ويتميَّز بالقدرة على استيعاب ما يتلقاه من علوم، مما أثار إعجاب والده العالم الذي أهَّله ليكون خلفاً له في حلقة درسه بمسجد (المهدلي)، هذه الحلقة التي خرجت من معطفها كوكبة أصبح لها وزنها، ومكانها ومكانتها في المجتمع.
|
لم يكن يأخذ مقابلاً مادياً لقاء العلم الذي يجود به بكل أريحية، وكان من خطباء الجوامع في صلوات الجُمَع كل ما دُعي إلى ذلك، فهو لا يلتزم بجامع واحد، وإن كان ((
الجامع الكبير
)) الوحيد الواقع في ((الفرضة)) قرب البحر يحظى بخطبه المؤثِّرة التي تعالج قضايا دينية، واجتماعية، وإنسانية من حين إلى آخر، وكنتُ من الحريصين على صلاة الجمعة فيه، لأستمع إلى خطبه التي تعالج قضايا الساعة، وحين نخرج من الجامع كان يتكرَّم فيأخذني معه للذهاب إلى منزل صديق الجميع (محمد علي حربي) رحمه الله الذي يقرب من المسجد لقضاء ساعة قيلولة، مع حديثه الممتع بلهجته ((الجيزانية)) الممتعة، فهو يتمتع إلى جانب علمه بحبه للنكتة الممزوجة بالسخرية اللاذعة، فهو وقور في دعابة، ومداعب في وقار. |
قال عنه الصديق (حسن أحمد راجح) أحد تلامذته: كان طبيباً شعبياً، يداوي، ويعالج بالأعشاب بما لديه من خبرة، ومهارة في هذا المضمار)). |
وأضاف: أما إذا تحدثنا عنه شاعراً، وربما الكثير من أهالي المنطقة لا يعلمون ذلك إلا من لهم رابطة متينة، فهو إن قال ((نسيباً)) كان تقياً عفيفاً، وإن قال شعراً في ((مناسبة زواج)) ـ يقصد اجتماعية ـ أحد أبنائه كان عطوفاً حنوناً صادقاً)). |
وأعترفُ أنني حاولتُ معه حين كنتُ رئيساً لتحرير مجلة (الفيصل) أن أجري معه لقاء مطولاً، وأحضرنا مصوّراً ألتقط له عدة صور في خِفْيَةٍ منه، لكن اللقاء ظل معلَّقا ليس كالجرس، وانما كفانوس من فوانيس جيزان العتيقة، لم يتحقَّق، وقد راودتني فكرة إجراء اللقاء الصحافي بطريقة لا يعلم عنها من خلال الأحاديث الطويلة التي كانت تدور أثناء لقائي به ـ وما أكثرها ـ حيث كنتُ أجتمع به في منزل الصديق الباحث (عبد الرحمن محمد الرفاعي) كلما زرتُ جيزان، وهي زيارات كانت تمتد إلى نصف شهر، وإلى شهر، نجتمع به كل عصر، لكنني لم أفعلها خشية أن أغضبه، لأنه كما ذكرتُ كان عزوفاً عن الأضواء، ومع ذلك نجحتُ في نشر ثلاث قصائد له في المجلة اعتزازاً بأنها القصائد الوحيدة التي رأت النور من قصائده الكثيرة، متعددة الأغراض. |
نشرت القصيدة الأولى في العدد (145)، وهي قصيدة رثاء في شاعر الجنوب، الطائر المغرِّد للإنسان، والريف، والطبيعة، والوطن، والغزل، الأستاذ (محمد بن علي السنوسي) رحمه الله، ولتواضع شيخنا العالم (محمد عقيل) محور موضوعنا، وضع لها عنواناً، متواضعاً هو ((
قليل الوفاء، بحق الرثاء)) يقول في هذه الأبيات المختارة من القصيدة التي تبلغ (32) بيتاً: |
بأسى القلوب وفيض دمع العين
|
أرثي فقيد الشعر والتضمين
|
ورثاؤه دَينٌ عليَّ قضاؤه
|
وأراني فيه لم أفِ بالدَّين
|
إن المصاب له عظيم والقضا
|
خطبٌ أليمٌ في صميم وتين
|
لو كنت
((
شوقي
))
(1)
في براعة
((
حافظ
))
(2)
|
ما كُنتُ موفٍ واجب التأبين
|
أيوفى من كان الهزازُ مغرِّدا
|
في
((
الحفل
))
و
((
التخريج
))
و
((
العيدين
))
|
يلقي روائع حكمةٍ في نظمه
|
وبدائع الأنغام في التلحين
|
وأجلَّ شيء في المجالس ذكره
|
في النشر والتعليم والتدوين
|
وكفى به الإعجاب إن نادمته
|
في الشعر
((
غازي
))
(3)
الشعر في
((
البحرين
))
|
|
ونشرتُ القصيدة الثانية في العدد (148) موجهة إلى الشباب بعنوان ((إلى شباب أمتي)).. وهي من شعره الاجتماعي / الوطني تعكس حضوره الحميم، وأنه لم يعش حياته في ((برج عاجٍ)) أو ((صومعة)) منعزلاًً عن هموم وقضايا أمته، وهو هنا يرثي لحال شباب الأمة الذي جرفته رياح التغيير المجنونة فدفعته إلى تقليد ومحاكاة شباب الغرب في أسوأ ما عندهم شكلاً كارتداء الملابس الغرائبية، مذكِّراً الشباب بمجد أمتهم التاريخي الذي أضاء الدنيا بعلومه ومكتشفاته، والقصيدة طويلة تتكون من (25) بيتاً، نختار منها الأبيات التالية: |
يا شباب الطموح أين البناءُ
|
أين صرح الشموخ، أين الإباءُ
|
أين آثار ذكركم أين مجدٌ
|
كان قبلاً، والعزة القعساءُ
|
كان منَّا الهداة في كل أرضٍ
|
ودعاة الصلاح، والعلماءُ
|
كان هدي السماء يُؤخذ عنَّا
|
ومن الهدي سنة سمحاءُ
|
ذَهَبَتْ تلكمُ الصِّفات وَوَلَّت
|
واختفى العزُّ والصَّفا والوفاءُ
|
وبُلينا في وقتنا بشبابٍ
|
زيّهم والنساء فيه سواءُ
|
ولباس الثياب ضاقت عليهم
|
وكعوب بدت لِرِجلٍ حذاءُ
|
وظفور كمخلب النسر طالت
|
ونمت حتى ملَّ منها النَّماءُ
|
لست أدري إذا مشوا في سبيلٍ
|
أهمو القوم في الورى أم نساءُ
|
والذي ساءني وقوَّى انتقادي
|
أنكم في صفوفنا أذكياءُ
|
رب حي كميت، وهو يسعى
|
وكثير موتى، وهم أحياءُ
|
|
ولفلسطين، قضية العرب والمسلمين، همها الكبير، وجرحها الأكبر الذي يقتات من حشاشه قلبه، وكان للعمل البطولي الذي قامت به (سناء المحيدلي) أثره على نفس شيخنا فتفجَّرت شاعريته بقصيدة يحمل عنوانها اسم البطلة الفلسطينية تقع في (31) بيتاً، نشرت في العدد (150)، نختار منها الأبيات التالية: |
سجَّلْتِ أروعَ موقفٍ يا
((
سناءُ
))
|
فيه الخلود ورمزه وسماءُ
|
ووقفتِ أعظم ما يذاع بمشهدٍ
|
عن مثله يتقاعس الشجعاءُ
|
يزجيك حبُ للنزال وللفداء
|
والموت في شرف الفداء رضاءُ
|
لم يثن فيك العمر عزماً جازماً
|
كلا، ولا الأحلام والآراءُ
|
للفاتنات روائح عطرية
|
ولكِ مثار النقع و الرَّحْضَاءُ
(4)
|
ودخونهن العود يصلي ناره
|
ودخونك البارود واللفحاءُ
|
يا أمها لا تحزني لفراقها
|
ففراقها لو تعلمين لقاءُ
|
فابكي له فرحاً وغنِّي نشوةً
|
ولرب أفراح غنىً وبكاءُ
|
وأستقبلي فيها التهاني والعزى
|
فيمن أتوا موتى وهم أحياءُ
|
والقائمون على الأمور يهمهم
|
يبقى الهوان بهم وهم زعماءُ
|
يتوافدون على العواصم تارةً
|
مستجديون، وتارةً خطباءُ
|
خُطَبٌ يُردد في المحافل لفظُها
|
ويشم منها العجزُ والإعياءُ
|
|
ومما قاله عنه الصديق (حسن راجح): يتصف الشيخ (محمد عقيل) إنساناً، بدماثة الأخلاق، والتواضع، سريع البديهة، حاضر النكتة، لاذع السخرية لمن يحاول النيل منه، كبيراً مع الكبار، رحيماً بالصغار، محبوباً في كل مكان ومجلس، عالماً مرناً، ومحدِّثاً لبقاً، متذوقاً للشعر العربي قديمه، وحديثه، ملماً بأصول النقد الأدبي (نشرة أصوات ـ العدد الثاني ـ ربيع الآخر 1424هـ ـ ابريل 2003م ـ اصدار ـ نادي جازان الأدبي). |
كان شيخي، وأستاذي (محمد عقيل) يتمتع بكثير من المزايا التي أهَّلته لكيون نجماً كبيراً متلألئاً، وقمراً متألقاً في مجتمعه بحيث يندر أن تجد من لا يعرفه، يغشى مجالس البسطاء، ويأنس للحديث معهم، وبلهجتهم، يشاركهم أفراحهم، وأحزانهم، حيث يجلس يتحوَّل مكان مجلسه إلى صدر المجلس !! |
حين سألته مرة هل تنام بيسر وسهولة في هذا العصر ((البركان)) المرزوء بأمراض القلق، والاكتئاب، والخوف، والأزمات، والمجاعات، والحروب؟ |
أجاب بروح تسكنها راحة ((الإيمان)): إنني أنام قبل أن يصل رأسي إلى الوسادة، فأنت تعرف أنني أنام مبكِّراً، وأصحو قبل أن تغادر الطيور أعشاشها فجراً، إنني كما يقول الشاعر: |
دع المقادير تجري في أعنتها
|
ولا تبيتنَّ إلا خالي البال
|
|
ثم قال لي بأسلوب الحكماء الذين زهدوا في الحياة: المشكلة يا بني ـ وكنت أسر لهذه الكلمة ـ هي الإنسان نفسه، إنه مثل الطفل يكسر ((اللعبة))، أو يفجِّر ((البالونة))، ثم يبكي وينوح عليها، أصحاب المشاكل في الحياة بعضهم يعطون للأمور، والأحداث أكبر من حجمها ((ثم يحزنون، ويقلقون، ويكتئبون !! |
المشكلة ـ أي مشكلة ـ هي عدم وجود مشكلة، ولا طعم، ولا لون، ولا رائحة لها، إنها ((اللاشيء))، فلماذا يشغل الإنسان نفسه ((باللاشيء)) ؟! |
كنتُ أحب مناقشته كثيراً، خشيتُ من مضايقتي له، فاعتذرتُ له مرة، رَدَّ: بالعكس إنني أشعر بالسعادة، لأنه من خلال النقاش تنبثق الحقيقة ضالة المؤمن!! |
الإنسان لا يتعلَّم إلا بالنقاش الذي يوجب ((السماع)) الذي قامت ونمت عليه ثقافتنا العربية والإسلامية، قبل أن ينتشر الكتاب في صفوف المتعلمين، والمثقفين، السماع يصلح أعوجاج اللسان، ويحد من عثرته، لهذا قام التدريس والتثقيف في تاريخنا من خلال إرتياد حلقات الدرس، ومجالس العلماء، والأدباء، والنحويين، واللغويين. |
اليوم يتعلَّم ويتثقَّف الإنسان من خلال ((الكِتَاب)) فكأنَّه يستعمل حاسة ((البصر)) بينما في الماضي كان يستعمل حاستي ((البصر، والسماع)) !! |
وقد ذكَّرني كلام ((شيخي وأستاذي)) بموقف حدث معي في المرحلة المتوسطة بجيزان، حين كان أحد المدرسين الجامعيين من إحدى البلدان العربية يدرَّسنا ((المطالعة العربية))، وجاء دوري في القراءة فمررت بكلمة ((يقشعر)) طبعاً دون تشكيل، فسألت مدرسي عن نطقها فرد ((يقشعر)) بضم الياء، وفتح القاف، وسكون الشين، وكسر العين !! لا أدري لماذا لم أهضم نطق المدرِّس للكلمة، فلجأتُ بعد الدرس إلى ((شيخي وأستاذي))، وأخبرته عن المسألة، فوجدها فرصة لتأكيد أهمية ((السماع)) قائلاً: ((هذه من مشاكل التدريس الحديث القائم على القراءة، دون السماع))، ثم صحَّحَ لي نطق الكلمة على عكس ما نطقها المدرس. |
وقد سمعتُ أن أحد أبنائه ـ وهم كثر ما شاء الله ـ يقوم بجمع قصائده الشعرية التي لو تمت طباعتها لأضافت إلى ديواننا الشعري صوتاً كان متوارياً عن الأضواء. |
وأخيراً ليس لي إلا الدعاء بأن يغفر الله لشيخي وأستاذي (محمد بن عقيل بن أحمد بن بشير بن حنين الهمداني)، وأن يتغمده بواسع رحمته. |
* * * |
|