محمد حسين زيدان.. أستاذ الجيل !! |
رائد مبدع في الأدب، فيلسوف في التاريخ، عاشق للبطولة، وأبطال التاريخ لأنهم صناع التاريخ، فالتاريخ عنده هو
((
البطولة
))
، و
((
الأبطال
))
، والتاريخ عنده
((
منظومة
))
من الأحداث الخاطئة، والصائبة، يصنعها الأبطال !!
|
ونحن قد نعاصر بعض هذه الأحداث، ونقرأ بعضها الآخر، ونمتلك حق ((الاستقراء))، و ((الاستنتاج))، و ((الاستنباط)) حين نقرأ التاريخ. |
التاريخ عنده
((
ظالم، ومظلوم
))
، لأن كثيراً من حقائقه يلفها النسيان، أو تغيب بغياب صانعيها أو مؤرخيها !!
|
والمؤرِّخون عنده نوعان: أحدهما موظَّف في السرايا، والصالونات الرسمية، يحيك الأحداث وفق ((سلطان)) الأهواء، وينسجها تحت ((سلطة)) الحكام !! والآخر صامت لا يتكلم، ولا يكتب إلا من خلال ((الوثائق))، و ((المخطوطات)) فيما لو سلمت من العبث، والدس، والتزوير، والضياع، والمصادرة، وتم الاحتفاظ بها في أيد أمينة، في هذه الحالة تصبح مصدراً علمياً موثقاً لأمانة التاريخ، وتاريخ الأمانة !! |
بعض حقائق التاريخ لا تُعرف في وقتها، فإذا ماتت في صدور رواتها بعد رحيلهم إلى الدنيا الآخرة فإن حلقات عقد التاريخ لا تكون مكتملة، ويصبح العقد ناقصاً، لهذا فهو يرى ضرورة إعادة صياغة التاريخ البشري من جديد، في هذا العصر الذي توفَّرت له وسائل التحقيق، مثل ((الوثائق))، و ((الحفريات))، و ((النقوش))، وغيرها من وسائل الكشف العلمية الدقيقة !! |
ولأن أستاذنا يرى كما يرى غيره مثل ((
ابن خلدون
))
، و
((
هيجل
))
أن التاريخ بوابة كبيرة مفتوحة أمام كل المعارف الإنسانية، والعلوم البشرية، فالأدب تاريخ، والصناعات تاريخ، والمكتشفات، تاريخ، والفنون تاريخ !!
|
ولأن المسرح أب للفنون، واستتلاء لذلك فإن التاريخ أب كل ما ومن في الحياة بكل ما تضطرم به من أحداث !! |
لقد قال ((ابن خلدون)) في الماضي بما معناه ان التاريخ ((أس))، كل ما في الحياة.. وقال ((
هيجل
))
من بعده
((
إن التاريخ هو الأب الشرعي الوحيد لكل حقائق البشر
))
.
|
وقد تعدَّدت تعريفات التاريخ لأهميته المتعددة في حياة البشر.. ومع هذا التعدد تنوعت التعريفات بتعدد، وتنوع العصور، فقد عرَّفه الأقدمون أنه
((
معرفة البلاد
))
و العادات، والآثار الماضية والحاضر
)). |
أما المؤرخون
((
العرب
))
، ومنهم
((
السخاوي
))
الذي عرَّفه بأنه
((
فن يبحث عن وقائع الزمان من حيثية التعيين، والتوقيت
))
.
|
والمؤرخون في الغرب، وفي ((العصور الوسطى)) عصور الظلام والتخلف عندهم يعرِّفون بأنه ((دراسة تعاقب أحداث الماضي)). |
أما مؤرخو العصر الحديث فيجعلون من تعريفهم ما يشبه ((المعادلة الكيميائية))، موادها المتفاعلة ((الانسان + الزمان + المكان)) وناتجها هو التاريخ !! |
والتعريف الحديث للتاريخ هو ((دراسة الماضي الحي)).. أي دراسة أعمال الإنسان وأقواله المهمة، وتدوينها، وهي التي تركت أثراً في الوقت الذي حدثت فيه، وامتد أثرها في الأجيال المتعاقبة !! |
وتركيزنا على التاريخ يأتي من منطلق اهتمام أستاذنا الكبير محور موضوعنا.. أو كما أطلقتُ عليه صفة ((
أستاذ الجيل
)) وهي صفة يستحقها عن جدارة، إنه (محمد حسين زيدان) الذي أحببناه، واحترمناه نحن الشباب المجايلين لنهاية مرحلته. |
ثقافته تتسم بالشمولية، وهو أستاذ جيل لأنه يفرح لظهور أي صوت أدبي جديد، يزد هي به في مجالسه التي يتحلَّق حولها شيوخ الأدب، وشبانه كأنه قادم من عصر حلقات الدروس العلمية المعروفة في ماضي تاريخنا العربي الإسلامي، يأخذ بيد الشاب ((الطُلعة)) التوَّاق إلى المعرفة. |
لا يشعر بالنقص حين يجلس معهم، يشجِّع بعضهم، ويوجِّه البعض الآخر، لا يغضب، أو يتعالى إذا راجعه أحدهم مصححاً، أو معارضاً على حقيقة. |
مرة قرأت له موضوعاً يختلف عما كنتُ أعرفه عن هذا الموضوع، اتصلتُ به هاتفياً مفتتحاً رأيي على طريقة التلميذ المهذَّب الذي يناقش أستاذه في مسألة من المسائل، حريصاً على عدم جرح مشاعره الأبوية الكبيرة، شكرني على التصحيح الذي أوردته، ثم انتهت المكالمة الهاتفية، معتقداً أنتهاء المسألة، فإذا به يفاجؤني بعد يومين بكتابة ما دار بيننا على الهاتف منشوراً في كلمة كتبها لجريدة ((عكاظ)) العدد (6621) تاريخ غرة ذي القعدة عام 1404هـ الموافق 29 يوليو 1984م.. هذا نصها: |
((وفي ليلة مضت تلفن إليَّ الابن الصديق الأستاذ علوي طه الصافي رئيس تحرير مجلة
((
الفيصل
))، فدهلز للتخطئة تأتي بعد أن يثني على الكلمة التي افتتحت بها العدد الأول من مجلة
((
الدارة
)) في سنتها العاشرة، كأنما أراد أن يتطرَّى بذلك، يحسبني لا أفرح بالتصويب، مع أني لم أفرح بالثناء ساعتها قدر فرحي بأن وجدتُ قارئاً في وزن علوي الصافي يقرأني، يقبل
((
الصواب
))
، ويبصِّرني
((
بالخطأ
)). |
قال يقصني: قرأتُ الصورة التي نثرتها في مقالك ((
مع الأيام
))، يوم الأحد الماضي ولقد نسبتُ بيت الشعر الذي استملحته إلى ((
الشريف الرضي
)).. بينما هو
((
للمعري
)).. واستطرد يذكر سنده في القصة التي جرت بين إنسان، وإنسانة في بغداد. |
فالإنسان إذا رأى الجميلة ترحَّم على ((
علي بن الجهم
))، يسمع الفتاة.. فأجابته الفتاة تترحَّم على ((المعري)).. فالفتى أرد قول ((
ابن الجهم
)). |
عيون المهابين الرصافة والجسر
|
جَلَبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
|
|
والفتاة عالية الثقافة أرادت قول ((المعري)): |
ايا دارها بالكرخ إن مزارها
|
قريبٌ، ولكن دون ذلك أهوالُ
|
|
ذَكَر هذه القصة سنداً له، فشكرته على هذا ((التصويب)).. مع أن الخطأ ليس من حافظتي، ولكن من مخزون محفوظي، فقد سمعتُ هذا البيت من بعض أشياخنا في ((
المدينة المنورة
)) هكذا: |
يا دارها بالخيف إن مزارها
|
قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالُ
|
|
فالشيخ لم يذكر اسم الشاعر، وكلمة ((الخَيْف)) جعلتني أخطئ، لأنها تليق بالشريف الرضي.. ومع هذا فكلمة ((الخيف)) مليحة مليحة استحليها أكثر من كلمة ((الكرخ))) انتهى. |
وهذه الكلمة ((المليحة)) تدل على تواضعه الجم، واعترافه بالخطأ إذا أخطأ، مع فرحه بالتصويب أكثر من الثناء، ولو جاء من أحد تلامذته ـ مثلي ـ، كما تدل على قدرة حافظته، رغم أن التصويب جاء في مكالمة هاتفية قصيرة، رحمك الله يا أستاذنا وأبانا الروحي
((
الزيدان
))
لقد افتقدنا برحيلك كثيراً من الأشياء الجميلة، أيها الأجمل !!
|
الثقافة عنده ((سلوك حضاري متواضع)) لا عنجهية، وكبرياء وتكبر، والأستذة عنده لا يتعالى صاحبها أن يأخذ معلومة من أحد تلامذته، وهكذا كان شيخنا العلامة ((الباقعة)) (أبو تراب الظاهري) كما عرفته، تغمدهما الله بواسع رحمته. |
يحمل داخل ذهنه
((
ذاكرة
))
لاقطة لا تنسى،
((
ذاكرة
))
لا تتفلَّت، حاضر البداهة، والبديهة، له حضوره الدائم !!
|
يتخطَّى بثقافته حدود ((الاختصاص العلمي))، ومحدوديته، يملي ارتجالاً كل ما ينشر له، لأنه لا يحب أن يكتب، يختار الأشخاص الذين يملي عليهم، وعلى رأسهم ابنه ((الروحي))
الصديق
((
عبد الله الجفري
)). |
إذا تحدَّث في مجلس أنصت له كل من في المجلس، يفاخر باعتزاز انه كان مدرساً في
((
دار أيتام
))
المدينة المنورة وقليل من يعرف أنه يبكي إذا ذُكر اليتيم، والأيتام، كأنه عاش يتيماً، وذاق حرقة ((اليتيم)) وعذاباته !! |
وعلى ذكر البكاء اذكر انني زرته مرة في مكتبه بمجلة ((الدارة)) وكان قبلها قد نُشر رأي لأحد الأدباء الكبار شتمه فيها، فسألته هل قرأت ما نشره ذلك الأديب عنه ظناً مني أنه لم يقرأه، فإذا بدموعه تسبق رده عليَّ فشعرتُ بالندم لإثارة الموضوع، ولم يكن أمامي غير الاعتذار والمواساة فردَّ عليَّ بما معناه: إنني لم أبك لأنه شَتَمني، وإنما أبكي من أجله كيف احتملت أخلاقياته أن يشتمني، لقد شَتَم نفسه قبل أن يشتمني، لأن الشتيمة ضعف، وانحطاط، وسلوك غير حضاري مهما كانت الأسباب الداعية للشتيمة!!
|
فسألته: هل سترد عليه ؟ أجاب: يا عيب الشوم يا ابني كما يقول أخواننا أهل الشام..فأنا لستُ شتَّاماً، ولا لعَّاناً!! |
إنني بقدر ما أشفق عليه، أخاف عليكم، لأننا نمثِّل القدوة لكم، ماذا ستقولون عنا في المستقبل؟ |
واستاذنا ((الزيدان)) منفتح على الحياة والأحياء، وعاشق حين يلقى العاشقينا!! |
الحياة عنده هي ((الحب))..أما ((الكراهية)) فهي طلب المزيد من الحب ـ حسب فلسفته ـ الأصل في الحياة هو
((
الحب
))
أما
((
الكراهية
))
فهي
((
الاسثتناء
)) أو الشذوذ الذي يؤكد القاعدة ((الأصل))
الكراهية نوع من الصداع الطارئ الذي تزيله حبة دواء!!
|
والحياة عند أستاذنا ((الزيدان)) يراها دائماً نهاراً مضيئاً، أما الليل فهو مجرد عباءة يرتديها لفترة قصيرة ليعود الضوء، والناس عنده يفترض فيهم أن يكونوا سعداء، أما الذين يشعرون بالتعاسة فمشكلتهم أنهم يسبحون ضد التيار لامعه، وطبيعة الأشياء، والأمور ينطبق عليها ما قاله الشاعر: |
ومكلّف الأشياء ضد طباعها
|
متطلب في الماء جذوة نار
|
|
وأستاذنا
((
الزيدان
))
لم يكن غضوباً، ولم يحمل ضغينة ضد أحد، لا يحيا بالشحناء، ولم يتعامل بالحقد، يذكّرك بفلسفة
((
ميخائيل نعِيمة
))
في كتابه
((
مرداد
))
، لكنه يأخذ علي
((
نعِيمة
))
هروبه من زحمة الحياة والناس فتحوَّل إلى
((
ناسك الشخروب
))
، وكان نباتياً رغم مباهج الحياة، لهذا فأستاذنا
((
الزيدان
))
لا يؤمن بانعزال الناس، بل يغشى مجالسهم، ويشاركهم مشاعرهم، ويسعد بهم !! |
العزلة عنده هروب، وهو لا يميل إلى سلوك الهروب، مع أن اشتداد المرض عليه في آخر عمره جعله يلزم منزله حتى انتقل إلى رحمة الخالق، داعين له بالمغفرة، والرحمة، مع أن فقدنا له كان كبيراً، ترك فراغاً لا يملؤه غيره، وما أكثر خسائرنا في الحياة إلى حد تحولت نفوسنا إلى مساحة من الحزن، والنجيع !! |
* * * |
|