شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
غازي القصيبي.. شاعر انتفاضة الشهداء
عرفناه أول ما عرفناه شاعراً يتلفَّعُ بضوء القمر، ويلتحفُ سماء النجوم، ويتوسَّد رمل الصحراء، ويغتسل على شاطئ الخليج، ويعزف على (( ربابة )) حزينه مكلومة تحت أفياء النخيل، ويصطاد صوره الشعرية من (( جزائر اللؤلو )) ، وينظِّم عقود قصائده من (( لؤلؤ الجزائر )) ، ومن (( المحارات )) التائهة على الشاطئ المهجور يختار (( قوافيه )) ، ومن (( الأصداف )) تنداح تشبيهات شعره !!
في البداية، وهو يصطاد عصافير شعره المهاجرة نحو الموجة، والريح والنسيم، والآهة، والالتياع، وقوارب الصيد الشراعية، قبل أن يقف بعد على ((مرسى))، أو شاطئ معيَّن، ألتقي بالشاعر (نزار قباني) الذي كان يأسر قلوب العذارى، ويتسلَّل من خصاص النوافذ إلى مخادع المراهقين، والمراهقات، كأنه طائر ((الرخ الأسطوري)) أو أحد ((الأطباق الطائرة)) التي ما تزال مصدر حيرة العلماء !!
تعلَّق به خياله الشعري، رافقه زمناً قصيراً من الوقت، اجتاحته أزمة، وأبتلعته موجة، ألقت به على يمٍ شَعُرَ معه بالألفة، فترك (قباني) شرع في صناعة شَبَك صيد مستقل، وجد نفسه سمكة من أسماك شبك الصيد المستقل بذاته، وبنفسه، تمرَّد على ذاته (( المتأثِّرة )) حين وجد ذاته (( المؤثِّرة )) ، صار يبحث لنفسه عن (( معجم شعري )) خاص به، كان مغامراًً، فذاق حلاوة (( المغامرة )) ، اكتشف أن أعماقه تنزع إلى (( المغامرة )) حيث وجد نفسه الطامحة إلى (( الاستقلالية )) تبحث عن (( الجديد )) وهاجسه يتطلع إلى (( التجديد )) !!
وجد نفسه بين صفتين متناقضتين هما ((الالتزام)) و((التمرد)) فهو ملتزم في تمرد، ومتمرد في التزام، لكنه يكره الإلزام وقف طويلاً أمام (( المتنبي )) شاعر كل العصور في حالة انبهار، رغم ((أنوية)) المتنبي وتضخم ((الذاتية)) عنده!!
نظَّم القصيدة (( الخليلية )) كما نظَّم قصيدة (( التفعيلة )) ، جمع بين (( الأصالة )) وبين (( المعاصرة )) كان تاريخاً في (( حاضر )) ، وحاضراً في (( تاريخ )) .
ارتدى (( البنطلون )) ، تقبَّع (( بالبرنيطة )) ، واختنق (( بالكارفتة )) ، لكنه لم يتخل عن (( الغترة )) ، و (( العقال )) ، و (( العباءة )) !!
أكل (( الكافيار )) ، و (( الهمبورجر )) ، لكن حنينه إلى (( الجريش )) ، و (( المرقوق )) ، و (( الفول )) ، و (( المطازيز )) ظل متأصلاً في أعماق أعماقه !!
وقف على الخليج متغنِّياً به نشأة، ومعاشاً، وطفولة، كان في شباب الحُب، وحُب الشباب !!
ثم وقف على (( التايمز )) ليفجِّر أنشودة (( انتفاضة الشهداء )) في فلسطين العربية، جرحنا التاريخي الكبير الذي لم يندمل، بل ازداد إتساعاً، استشرى كالوباء الذي لم يكتشف علاجه، كالمرض الخبيث الذي يسمونه (( السرطان )) !!
كادت هذه ((الأنشودة)) أن تثير أزمة سياسية، أصبح شاعر الدبلوماسيه العربية، ودبلوماسية شعر الانتفاضة الفلسطينية العربية.
الشعر (( الهادر )) لا يلتقي مع الدبلوماسية (( الهادئه )) ، لا يتفقان منذ تاريخهما الموغل في القدم، ولأن (( المتنبي )) كان شاعراً ثائراً )) فقد خسر معركته (( الدبلوماسية )) !!
الخصومة بينهما تمتد عبر كل حقب التاريخ البشري، قديمه، وحديثه، هما كالليل والنهار، والشمس والعتمة، والحقيقة والخيال، والنار والماء، والثعلب والدجاجة، وصدق الشعور وكذب الشعر الأعذب، مع أنه ـ حسب تفسيري الشخصي ـ يرى أنها مجرد مقولة انطباعية لنا قد ((طوباوي)) فاشل !! ربما أراد مخالفة المألوف والمعتاد لعبارة أكل الدهر عليه، ولم يشرب !!
وعموماً فهي وجهة نظر تظل قابلة للجدل والنقاش، شاء أم أبى !! وهو بتكوينه النفسي مثير للجدل!!
في بداية حياته حين تولَّى التدريس الجامعي تعارفنا حين كنتُ أكتب في مجلة (اليمامة) تحت توقيع ((مسمار)) الذي ظلَّ معجباً به، وبجرأته، إلى اليوم، ويحثُّني على طبع رسائله الموجهة للأدباء، وقد استطاع أن يفتح الكلية التي كان يدرِّس فيها على المجتمع، فأقام المحاضرات والندوات، والأمسيات الشعرية، فلقي ما لقي من ((المحنَّطين))، وباعة الكلام الذين يضرون أكثر مما يفيدون ويرفضون الجديد المجدي، ولا يهدمون الذي يرمز إلى التخلف.
كان أول (( وزير للصناعة والكهرباء )) عند تأسيسها، ثم ضُمَّت إليه (( وزارة الصحة ))، فكسب شعبية كبيرة جعلته رجلاً مثيراً للجدل في الصحافة بعمله الرسمي، وبصفته شاعراًً أصبح له صوتاً مسموعاً.
إنه الشاعر الروائي الصديق الدكتور (غازي عبد الرحمن القصيبي) الذي قال عنه الدكتور (محمد بن حمد القنيبط) في زاويته ((أكاديميات)):
إن ((الدكتور غازي القصيبي ظاهرة فريده للبيروقراطي، أو التكنوقراطي تستحق الدراسة الأكاديمية)) (مجلة ((اليمامة)) تاريخ 13 /3 /1424 هـ).
ولم يكتف د.القنيبط بالعبارة التي أوردناها آنفاً، بل عاد في عدد آخر ليقول: ((منذ أن ظهر غازي القصيبي على الساحة السعودية، لم يغب عنها، بل شغلها وأشغلها ـ كأنه المتنبي، وهذه من عندنا ـ ثم شغل الساحة الخليجية اثناء احتلال الكويت، وأخيراً أنتقل إلى الساحة العربية منذ انتقاله للعمل سفيراً في بريطانيا، وإلى الساحة العالمية منذ كتابته قصيدة (لعيني آيات)، قبل أن يعود العام الماضي إلى مجلس الوزراء على تذكرة وزير المياه ثم الكهرباء) (1) .
وأضاف: وفي كل ساحة من هذه الساحات المحلية، والإقليمية، والعالمية، يشغل غازي القصيبي القاصي، والدَّاني، إن لم يكن بالأدب، فهو بالشعر أو النثر، وإن لم يكن بالسياسة، فهو بالتأليف القصصي)).
ثم قال: ((باختصار، يرفض غازي القصيبي أن يتقاعد عن الساحة المحلية والعربية، شأنه شأن شيخ الشمل، تأبى عليه الشيم العربية الأصيلة أن يتقاعد ؟ ولعمري فإلى الآن يظل غازي القصيبي شعلة من النشاط، والحيوية الإعلامية، يرفض أن يترجَّل عن صهوتها، بل تراها هي التي تخطب وده (مجلة اليمامة العدد (1763) في 5/5/1424 هـ الموافق 5/7/2003 م).
وأقول للأخ الدكتور (القنيبط): لماذا تريد هذا الفارس الأصيل أن يترجَّل عن صهوة حصانه العربي، ما دامت كل الأشياء التي ذكرتها تخطب وده ؟
إننا نحن العرب أهل الصحراء بطبيعتنا نعشق الأحصنة العربية الأصيلة، ونردِّد ذكر الفرسان ومواقفهم في الملمات، وحين تدلهم الخطوب، ويتطاير الغبار من وقع الحوافر، ونتغنَّى بهم في شعرنا، ونغذِّي بها أحلام أبنائنا، فهل تحرمنا من هذا التاريخ المترسِّخ في ذاكرتنا، في عصر رمادي (( تكسَّرت فيه النصال على النصال )) كما يقول شاعرنا العربي ؟
في إحدى المرات طلب مني أحد أصدقائي من أثرياء (( الطَّفْرَة )) التي مرَّت بها بلادنا، كانت له مشكلة مع وزارة الصناعة، تعشَّم في ورمي شحماً، طلب مرافقته إلى وزيرها الصديق ((القصيبي)) بحكم معرفته بصداقتي الأدبية أعرف أنه كان متواضعاً في رأسماله، في سوق شعبي أكثر تواضعاً، ذهبتُ معه إلى الصديق الوزير، فاسترسلنا طويلاً في أحاديث الأدب، وشؤونه، وشجونه، وهمومه !! تحدثَّنا عن السرقات الأدبية الصغيرة، والكبيرة، وغياب قانون وسلطة حقوق التأليف والمؤلفين في شرقنا العربي، مستشهداً بذكر شخصيتين تعدان من رموز الأدب على ساحة الوطن العربي، أحدهما أعتدى على أفكار (مارجليوت)، ونسبها لنفسه، والأخر ترجم عشرات الكتب إلى العربية لأنه يتقن أربع، أو خمس لغات أجنبية، واهماً القارئ العربي أنها من تأليفه !! وإبداع ذهنه ((الخنفشاري)) المسكون بالغرور !! إنه كاتب ((أُرزقي)) لا موقف له، ولا فكر، ولا أدب، يُعد وصمة عار على جبين تاريخ الكتاب في بلاده !!
وأنا أتفق مع كل ما قاله الصديق ((القصيبي))، واختم بأصابعي العشر، وإن كنتُ أتمنى عليه أن يكشف المستور لتعريف القارئ؛ ولمعلومية القارئ فإن الكاتب الثاني يري نفسه طاؤوساً، والآخرين مجرد دجاج !!
صديقي الثَّري كان يتململ كأن تحته كانوناً من جمر النار، في الوقت الذي كنتُ فيه في منتهى السعادة، لأنني وصديقي الوزير هذه بضاعتنا، وثروتنا، ولأن كلاً منا يمتلك ((المناعة)) الطبيعية ضد ((ميكروب)) الثراء والثروة، وأرصدتنا تتمثَّل، وتتجسَّد في الكتب، وقراءة الكتب، لا في البنوك، والمشاريع، والصفقات التجارية والصناعية، وعزاؤنا كما تقول الحكمة ((العلم يحرسك، والمال تحرسه))!!
ولكي أكون واقعياً أكثر من الواقع أعترف أنني ذهبت مع صديقي ثري ((الطَّفْرَة)) دون أن أعرف ماهية مشكلته لئلا أجلب لرأسي الصداع في حديث أجهل أبعاده، وأفتقر إلى خبرة معرفة دهاليزه المتشعبةالملتوية !!
فضَّلت أن يرويها للصديق الوزير مباشرة بنفسه، وبطريقته الخاصة، وكانت النتيجة أن صديقي ثري الطفرة ((خرج من المولد بلا حمص)) كما يقول أشقاؤنا المصريون في أمثالهم، لأن الوزيركان على علم بالقضية، ويرى أن الوزارة على حق في قرارها، بينما صديقي كان يعتقد أنه بمثل هذه الواسطة يستطيع أن يلوي ذراع المسؤولين في الوزارة اعتسافاً بوجاهة الوزير الذي وقَّع القرار بنفسه بعد إلمامه بالقضية، ومخالفتها الصريحة للنظام، ومصلحة الوطن، وقد أكبرتُ موقف الوزيرالوطني، لأن التهاون في قضايا الوطن من أجل المصالح الفردية فيها خيانة لمصالح الوطن، وللمسؤولية السامية التي ينهض بها أي مسؤول في المرفق الذي يقوم به، صغيراً كان، أم كبيراً !!
والوساطة عندي نوعان (( وساطة خير )) لا تصادر أو تعتدي على حق آخر، أو حقوق آخرين، ولا تضر بمصلحة الوطن والعمل الوطني، و (( وساطة نفعية )) تسلب حقاً، أو حقوقاً لآخرين، وضد مصلحة الوطن، والعمل الوطني، النوع (الأول) يضع الرجل المناسب، في العمل أو الوظيفة المناسبة وهو (( مطلوب )) والنوع (( الثاني )) من الوساطة فيه إعتداء على كثير من الحقوق وهو (( مرفوض )) ولا أزيد توضيحاً لواضح.
وبعد شهرين أو ثلاثة، أو أكثر ـ لا أتذكر ـ جاء إليَّ صديق آخر أعرف أنه في الماضي كان ميسور الحال، لكن هذه الميسرة لا تصل الى المليون الواحد !! جاءني للذهاب معه إلى صديقي الأديب وزير الصناعة، والكهرباء ((القصيبي)) وكان يرتدي ((مشلحاً)) من المشالح ((السوبر)) الغالية الثمن، وحين حدَّثني عن جزء من مشكلته لدى وزارة الصناعة، كان يتحدَّث بلغة عشرات الملايين، وبأسلوب من يمتلك عشرات الملايين فقلتُ في نفسي سبحانه الذي يرزق، ويغدق في الرزق للإنسان العادي، وسبحانه الذي يقدر في الرزق على من يسهر ليله من أجل المعرفة، وزيادة علمه فيجعله فقيراً ينام على الحصير لحكمة لا يعلمها الا هو جل وعلا.
ثم، وهو يحدِّثني كان متأفِّقاً من الكرسي الذي أقعدته عليه لأنه غير مريح، ولون الغرفة لا يدعو إلى البهجة، سألَنَي: ما مقدار الراتب الذي أتقاضاه؟ أستغربتُ سؤاله الشخصي، لكنني بحكم صداقتي القديمة به، لم أبخل عليه بالإجابة، فتبسَّم، وحين سألته عن سر ابتسامته، أجابني بكل وقاحة: إنه أقل من راتب ((السوبر فايزر)) الذي يعمل عنده في قصره !!
ضغطتُ على أعصابي، وسألته في نفسي ساخراً منه: هل يعني هذا عرضاً للعمل ((سوبر فايزر)) لديك؟ وودتُ لو صفعته، لكنني ضغطتُ على أعصابي مرة أخرى تقديراً للصداقة القديمة التي تربطني به، رغم معرفتي أنه لا يحمل غير الابتدائية، وأنه لا يجيد لغة أجنبية، ولكن سبحان المغيِّر الذي لا يتغيَّر، وعرفتُ من حديثه، كيف صنع ثروته، فاذا هو واحد من مئات أثرياء مرحلة ((الطَّفْرَة)) !! فأنا أعد هذه المرحلة مثل حالة ((الحرب)) التي يغتني بسببها الكثير حتى أصبحت مضرباً لمثل مشهور هو ((أثرياء حرب)) !!
ذهبتُ معه لأثبت له أنه وهو ((المليونير)) في حاجة لوساطتي، ووجاهتي رغم دخلي المحدود، وأنني مجرد موظف من ناحية، ولأشعره، بأن مكانتي الأدبية أكبر من كل الملايين التي يمتلكها من ناحية ثانية، وأن بعض الرجال إذا كانت لهم مئات المواقف التي يحكمونها بثروتهم، فإنهم في بعض المواقف، وعند بعض الشخصيات يحتاجون لغيرهم ممن هم ليسوا من الأثرياء من ناحية ثالثة، وتقديراً للصداقة الإنسانية من ناحية رابعة، كل هذه الأسباب دفعتني لمرافقته.
لكنني لم أذهب معه مثل ((الأطرش في الزفَة)) بل حرصتُ أن أعرف مشكلته قبل مقابلة الوزير، كان للمشكلة شقان: أحدهما رأيت وجاهته وقدَّرتُ ـ من منظور إلمامي ببعض الأنظمة ـ أن الصديق الوزير من الممكن أن يحله، لأنه منطقي وموضوعي، ولايحتاج إلى وساطة، أما الشق الثاني فأحسستُ من خلال تقديري، ومعرفتي الجيدة بأسلوب الصديق ((القصيبي)) الإدارية أنه غير ممكن حله فطلبتُ من صديقي ((المليونير)) عدم إثارة الشق الثاني من المشكلة لان الوزير لن يحله، فوافق على طلبي.
حين قابلنا الوزير كان لطيفاً كعادته، فعرَّفته بالصديق الشيخ ((المليونير))، مع أنني أعرف أن صفة ((الشيخ)) كانت تطلق حينذاك على الوزراء، والأثرياء، ووجهاء المجتمع البارزين فصدر أمر سام ـ كما أذكر ـ بعدم إطلاق صفة ((الشيخ)) على غير القضاة، ورجال الدين، ولهذا أصبحت صفة ((الأستاذ)) تأخذ مكان صفة ((الشيخ)) بالنسبة للوزراء، أو غيرهم، وصارت ((تقليداً)) في الصحف، بإستثناء، من يحمل شهادة ((الدكتوراه)) فإن صفة ((الدكتور)) تسبق اسمه على أساس أنه حق علمي (أكاديمي).
استطراداً لذلك حين تسلَّم الصديق الدكتور (غازي القصيبي) وزارة الصحة كان يطلق على كل طبيب صفة (الدكتور) حتى لو لم يحمل شهادة (الدكتوراه)، فأصدر قراراً وزارياً حكيماً باستعمال صفة (طبيب) عوضاً عن (دكتور) إلا إذا كان الطبيب يحمل شهادة (الدكتوراه) في الطب، إلا أن الصديق (القصيبي) لم يستمر طويلاً وزيراً لوزارة الصحة التي أشهد أنه رفع من مستوى العناية الصحية، وتطوَّر إيقاع العمل الصحي في المستشفيات أو المشافي من حيث اهتمام الأطباء بالمرضى من المواطنين فقيرهم، وميسورهم، ومن حيث نوعية الرعاية الصحية، وتوفير الدواء، وكان يقوم بزيارات مفاجئة ليلاً ونهاراً على المستشفيات، وأقسام الطوارئ، وكانت قراراته الوزارية التصحيحية تتوالى باستمرار، بل أذكر أنه لم يهمل الجانب الإداري، وعيَّن وكلاء للوزارة ممن يثق بهم، وبعضهم من طلبته في كلية التجارة، ثم سافروا للخارج وعادوا بشهادات تخصصات عالية، وأذكر أنه أوجد خطاً هاتفياً ساخناً يستقبل شكاوى المواطنين الصحية يعمل على مدار الساعة !!
كما قلتُ لأن عمله في وزارة الصحة لم يطل، ((فعادت)) حليمة إلى عادتها القديمة، كما يقول المثل، وهذه شهادة للتاريخ عاصرتها، وعشتُ آثارها الممتازة، وقد أشار الدكتور ((القصيبي)) عن كيفية توليه وزارة الصحة في كتابه المعروف (( حكاية.. في الإدارة )).
معذرة لهذا ((التداعي)) لأن الذكريات يأخذ بعضها برقاب البعض الآخر، لكنها لا تنفصل عن بعضها، لتعلقها بالشخصية التي تمثِّل محور الذكريات، وقطبها الرئيس.
وحين شرحتُ للوزير بطريقتي الخاصة عن شق المشكلة الذي كنتُ أتوقع حله، تحقَّق ما توقعته إذ وافق على الحل، وفي الوقت الذي كنتُ أزمع توديع الوزير إذا بصديقي ((المليونير)) ينتهز الفرصة ليحدِّث الوزير عن الشق الآخر الذي واجهه الوزير بالرفض الصارم، وألتفت إليَّ قائلاً: ((ما حكايتك مع الأثرياء، قبل أشهر جئتُ مع ثري، واليوم تأتي مع ثري، هل أنتَ شريك الأثرياء دون أن نعلم ؟ كان سؤالاً استفزازياً مصحوباً بالنكتة، فَرَدَدَتُ عليه: إنني حاطب ليل، أو ((تأبط شراً))!! فأنا بريء من الثراء براءة الذئب من دم يوسف، فلا خيل عندي أهديها، ولا مال، فاشل في شؤون الثروات، وكيفية جمعها، ليلي كنهاري، ونهاري كليلي، لكن بعض أثرياء ((الطَّفْرَة)) اليوم، كانوا أصدقاء الأمس، قبل أن يصبحوا أثرياء !!
وإذا كانوا يقولون: من صادق السعداء يُسعد، واستتلاء لذلك فإن من صادق الأثرياء صار ثرياً، فإنني لم أنجح في الحالتين !! فردّ بدعابة محببة: وهلى من صادق الوزراء استوزر ؟! فضحكنا، وكان في طريقه للخروج من مكتبه، وفقال لمدير مكتبه مداعباً: إذا طلب الأخ علوي مقابلتي في المكتب مستَقْبلاً فلا تسمح لأحد بالدخول معه!!
حين زرته في السفارة بلندن عندما كان سفيراً للمملكة للسلام عليه كواجب تمليه الصداقة التي تربطني به أعْتَذَرَ عن مقابلتي يومها (يوم الاثنين) عندما حادثه سكرتيره بوجودي، طلب من سكرتيره أن أحضر (يوم الأربعاء) مساءً، وعندما سألت السكرتير لماذا يوم الأربعاء مساء بالذات ؟ فردَّ عليَّ: هو الوقت الذي يستقبل فيه الطلبة السعوديين للتعرف على مشاكلهم، وسيرهم الدراسية !! قلت للسكرتير: لكنني لستُ طالباً، وقد جئتُ من المملكة لزيارته، والسلام عليه كصديق لا كسفير، فليس من عادتي وطبيعتي زيارة أي سفير لا تربطني به علاقة صداقة!!
لكنني خرجتُ من السفارة، وذيول الخيبة تلفني، لا ألوي على شيء، وضاقت بي مدينة (لندن) على سعتها، واتجهت فوراً إلى غرفتي في الفندق لأخلو إلى نفسي المتأزِّمة، فكَّرت طويلاً في هدوء، محاولاً التخلي عن مشاعري الحسَّاسة، أقنعُ نفسي ببعض الحِكَم العربية نثراً، وشعراً، قلتُ لنفسي ((لعل له عذراً، وأنت تلوم)).
وأخذتُ أوازن بين السفير (( غازي )) في البحرين حيث أكرمني بتناول طعام الغداء في منزله، وعرَّفني بصديقه المفكر البحريني (( الدكتور الأنصاري )) ولم يكتف بذلك، بل دفع مصاريف إقامتي في الفندق عن اليومين اللذين مكثتهما في البحرين لزيارته، والاستئناس بحديثه الممتع، وبين السفير (( غازي )) في لندن الذي أعتذر عن مقابلتي له لدقائق معدودة رغم أنني قطعتُ آلاف الأميال لتجديد العهد بصداقتنا !! أهو فارق الظرفين ((الزمكانية)) ؟ وهل انتظر في لندن يومين حتى يأتي يوم الأربعاء مساء، فأذهب إليه ؟
وأخيراً، رسا مجداف تفكيري على أنه من العقل والحكمة الانتظار إلى يوم الأربعاء مساء، فالصداقة تبنى وتترسَّخ في سنين، أما القطيعة فتنشأ خلال دقائق طائشة، يحكمها الانفعال السريع !!
ذهبتُ حسب الموعد، فوجدته محاطاً بمجموعة من طلابنا الشباب رحَّب بي بحرارة، وصدق غير مفتعل، فذاب الجليد اللندني الذي يسكن ذاكرتي، ويسيطر على مشاعري، ونسيتُ كل شيء، وانتحى بي جانباً بعيداً عن جمع الطلبة، وسألني كصديق عن أحوالي، ومشاريعي الأدبية، ثم ودَّعني كما استقبلني، وكما عرفته من عشرات السنين، وحمدتُ الله أنني انتظرت، ولم أغادر لندن قبل أن أراه، فالناس معادن، والمعادن النفيسة لا تتغيَّر، ولا تُبلى وتظل محتفظة بقيمتها وروعتها كالأحجار الكريمة طوال وجودها، والرجال الرجال كنوز لا تتناقص، والأصدقاء أروع أرصدتنا في الحياة !!
من لندن أطلَّ علينا روائياً من خلال روايته ((شقة الحرية)) التي قال عنها بعض النقاد إنها ليست رواية، بل ((سيرة ذاتية)) وعجبت لهذا الرأي لقناعتي بأن أي عمل إبداعي شعراً كان أم رواية، أم قصة قصيرة هو في واقعه وجه من وجوه ((السيرة الذاتية))، وفيه من حياة المبدع، والظروف التي أحاطت به.
المبدع ليس جهاز (( كومبيوتر )) يعمل بطريقة آلية خالية من المشاعر والأحاسيس (( الذاتية )) وهو لا يكتب من فراغ، إنه شريحة إنسانية فاعلة، متأثِّرة، ومؤثِّرة، يعيش بين جماعة من الناس لهم طباعهم، ونزعاتهم المختلفة !! وحين يبدع لا يستطيع أن يفصل ذاته عما يبدعه، لأنه إنسان يحب، ويكره، يَعْشَقَ، ويُعْشَق، يبكي، ويضحك، يفرح، ويحزن، يفشل، وينجح، يجوع، ويشبع، يفترق، ويغتني، ينتصر، وينهزم، يسقط، ويرتفع، فكيف نفصله عن عمله الإبداعي الذي يحمل فكره، وتفكيره ؟ كيف نجرِّده من ذاته؟ وسيرته الذاتية؟
وإذا افترضنا اعتباطاً أن رواية ((شقة الحرية)) مجرد سيرة ذاتية، فماذا عن بقية الروايات مثل (( حكاية حب )) و (( العصفورية ))، وغيرهما، هل نعدهما خالية من ذات المؤلف ؟ سؤال استنكاري ينتصب في وجوهنا !!
لقد قيل عن رواية (( موسم الهجرة إلى الشمال )) إنها سيرة ذاتية لمؤلفها (( الطيب صالح ))، كما قيل عن بطل ثلاثية (( نجيب محفوظ )) (السكرية، بين القصرين، قصر الشوق) هو نجيب محفوظ نفسه !!
ولو نظرنا من خلال هذا المنظور الغريب لصادرنا كل الأعمال الإبداعية لصالح ((السيرة الذاتية))، وبهذا تنقلب الموازين، وتصبح كل الاتجاهات اتجاهاً واحداً، وهذا ما لايتفق مع منطق سليم، وحكم عادل يفرز الأجناس الأدبية بعضها عن البعض الآخر، واختلاط الأوراق على الناقد لا تجعله بمنأى عن الخلط العشوائي، بحيث تبعده عن التنظير التطبيقي للنقد الموضوعي غير المحكوم بالآراء المتسرعة.. هذا مع اعترافنا بتمازج، وتداخل الأجناس الأدبية، وهو ما هو سائد في الغرب وبخاصة في فرنسا.
ولاهتمامي بالدرسات المقارنة فقد وجدتُ تشابهاً تأثيراً بين رواية (( قصة حب )) لأريك سيجال، ورواية (( حكاية حب )) لغازي القصيبي، ابتداء من العنوان، بتوافر بعض شروط ((الدراسات المقارنة)) من حيث اختلاف اللغتين اللتين كتبتُ بهما الروايتان، فالأولى كُتبت باللغة الإنجليزية، والثانية كُتبت باللغة العربية، ولأن الأولى هي الأسبق في الظهور بثلاثة عقود تقريباً، أو أكثر، والثانية ظهرت قبل سنتين تقريباً، فتحقَّق شرط الفارق الزمني، واختلاف اللغتين.
وقد ثبت أن ((القصيبي)) أطلع على رواية ((أريك سيجال)) قبل أن يكتب روايته ((حكاية حب)) بدليل إشارة ((القصيبي)) في روايته عن رواية ((سيجال)) في ثنايا روايته، ولأن الأخير أسبق بروايته فهذا يدل على تأثر ((القصيبي)) بها.
أما من حيث ((المضمون)) فلا يتماثلان فنجد أن ((القصيبي)) قد حوّل (( الصراع الطبقي )) في رواية ((سيجال)) إلى (( صراع فكري )) في روايته ((حكاية حب)) كما جعل البطل في روايته هو الذي أصيب بمرض عضال لِكبر سنه، بينما البطلة الشابة في رواية ((سيجال)) هي التي أصيبت بمرض عضال.
ولا نستطيع أن نجزم الآن كل الجزم على تأثر ((القصيبي)) برواية ((سيجال)) ومحاكاتها رغم توافر بعض شروط الدراسة المقارنة التي أنوي القيام بها بعد حصولي على نسخة من رواية ((قصة حب)) لمؤلفها ((أريك سيجال)) باللغة العربية لعدم وجودها في مكتبتي، فإذا كان لدى الصديق ((القصيبي)) أو غيره نسخة منها باللغة العربية فأرجو مساعدتي بتزويدي بها، لأتمكن من إجراء الدراسة المقارنة الموضوعية، إذا كنتُ على حق فيما أشرتُ إليه.
والقليل الذين يعرفون أن غازي القصيبي يتحلَّى بالسخرية اللاذعة، والظرف والنكتة في غير ما خبث !! ولم يسعدني الحظ بمرافقته في رحلة إلى خارج المملكة لاكتشاف الوجه الآخر له.
رسالة تعقيبية من القصيبي
بعد نشر هذا الموضوع عن صديقي العزيز الكبير الدكتور (غازي عبد الرحمن القصيبي) تلقيتُ منه رسالة ((شخصية)) أنقلها هنا بالنص للأمانة والتوثيق، لأنه لم يرسل منها صورة للمجلة الثقافية (الملحق) التي نشر بها موضوعي عنه، بدليل عدم نشرها، ولم أفكر في إرسال صورة منها للنشر بعد انتظاري عدة أشهر، ولتعلق الرسالة الشخصية بالموضوع رأيت من حقه عليَّ نشرها مع الموضوع لأنها تتضمن وجهة نظره التي أحترمها، بل أشكره لتجاوبه مع الموضوع رغم كثرة مشاغله الحياتية، وارتباطاته العملية كوزير،.. وهذا نص الرسالة حرفياً:
((سعادة أخي الكريم الأستاذ علوي طه الصافي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ـ
بادئ ذي بدأ، أشكرك على ما تلطَّفت بكتابته عني، وهو كما يقول الأستاذ ((جهاد الخازن)): فوق ما أستحقه، ودون فضلك ـ هذا تواضع رفيع من شاعر أرفع يتمثل في شخصية صديقنا ((القصيبي)) ـ.
وقد أعادتني كتابتك إلى أيام الصبا والشباب، وذكرت قول المتنبي:
سقى الله أيام الصبا ما يسرها
ويفعل فعل البابلي المُعتّق
وما يهمني أكثر من الكتابة عني، عودتك إلى الكتابة بشكل منتظم، عن ذكرياتك، وعن مواضيع أخرى، وكنتُ مشفقاً عليك من كآبة شديدة لمستها فيما أرسلته إليَّ من رسائل قبل سنوات، والكتابة أيها العزيز، هي الشفاء الناجع لمن ابتلي بالفكر والأدب:
كل الدروب أمامنا مسدودةٌ
وخلاصنا في الرسم بالكلمات
فإلى مزيد من الرسم، ومن الكلمات.
بقيت قصة روايتي ((حكاية حب)) وشبهها بالقصة الشهيرة ((قصة حب)) التي لا يوجد لديَّ للأسف نص عربي لها، والواقع إن ((التشابه)) لا يكاد يتعدَّى ((التسمية))، وكنتُ ترددتُ قبل اختيار الاسم حتى لا يحصل الاشتباه.
وباختصار شديد، فقصة حب تتحدَّث عن زوجين شابين، ماتت الزوجة في عمر مبكرَّ، بداء قاتل.. والقصة تروى بلسان الزوج.
أما ((حكاية حب)) فأشد تعقيداً، فالبطل أرمل في الخمسينيات من العمر، والمرأة متزوجة برجل آخر، ولم يلتقيا إلا مرات قليلة، ولا تشابه سوى موت البطل في نهاية الرواية.
على أية حال ((التناص)) ـ إذا وقع ـ لا يعيب، ولكنه.. لم يقع !! لك تحيات أستاذنا معالي الدكتور (( عبد العزيز الخويطر )).. وتمنياته وتمنياتي لك بدوام الصحة، والنشاط، والانتاج المتدفق
أخوك
غازي عبد الرحمن القصيبي
الرد على الرسالة
أستاذي الكبير الشاعر الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي حرسه الله
أحييك بتحية الإسلام شاكراً ومقدراً رسالتك المفعمة بالود الصادق الذي أحمل لك أضعافه ولأستاذي الكبير في علمه، وتواضعه، وسلوكه الإنساني الرفيع الدكتور (عبد العزيز الخويطر) الذي أتصور أنه كان بجانبك حين كتبتَ رسالتك الرقيقة التي أعتز بها.. أما قبل: على طريقة الرافعي:
ما مررتُ به من حالة مرضية فهي في الدرجة الأولى ابتلاء من الله قابلتها بالإيمان، والصبر، أما أسبابها فترجع إلى ما جوبهتُ به من جحود، ونكران، من الأقربين، والأبعدين على السواء، اكتشفتُ من خلالها أن الوظيفة والمنصب كانا يحجبان عني سلوكيات الناس، وهي حالة مرَّ بها الملايين، ويمرُّ بها بصورة خاصة رجال الفكر، والأدب، والشعر، والفن، وهذا ما أكده لي بروفسور اختصاصي كبير في الطب، ولو أردتُ ضرب الأمثلة لأشخاص قرأت عنهم لطال بنا الحديث، وكنتُ خلالها في حاجة إلى تشجيعك !!
أما حكاية ((الدراسة المقارنة))، ولم أقل (( تناصاً )) فأنا في موضوعي لم أجزم بوجودها بين روايتك، ورواية ((اريك سيجال))، ولو عُدتَ لموضوعي لوجدت أنني قلتُ بالنص:
((ولا نستطيع أن نجزم الآن كل الجزم على تأثر ((القصيبي)) برواية ((سيجال)) ومحاكاتها، رغم توافر بعض شروط الدراسة المقارنة)) !!
وفي نهاية الفقرة قلتُ ((إذا كنتُ على حق فيما أشرتُ إليه)).
وهاتان الفقرتان تعنيان ((عدم الجزم كل الجزم على التشابه)).. و ((أنني قد لا أكون على حق)).
وما قلته لا يخرج عن ((دائرة الشك))، والشك وجهة نظر شخصية غير حاسمة في أي قضية من القضايا، وإذا تأكد ما قلته ـ وهو لم يتأكد ـ لأجزمت على رأيي، وأصررتُ على أنني على حق بأسلوب موضوعي علمي.
لهذا أعد القضية معلَّقة لافتقارها إلى سند موضوعي، ودراسة معمقة، كما تدعونا إليه عمليات ((التقعيد))، و ((التأصيل))، و ((النقد الموضوعي)) مع ((الإنصاف)).
ولا أنفي ان روايتك ((حكاية حب)) الرومانسية قد توفَّرت لها كل عناصر النجاح، من بناء معماري فني، وأسلوب رشيق، وحوارات ذكية بعيدة عن المباشرة، والتقريرية، ولربما جاءت على رأس قائمة رواياتك الأخرى مثل ((شقة الحرية))، و ((العصفورية)) مثلاً، هذا مع الاعتراف بأن لرواياتك الأخرى نكهتها المتميزة، إذ لا يشترط أن تكون أعمال المبدع على مستوى واحد، لأننا لو أخذنا بهذا الرأي على اطلاقه لحكمنا على المبدع بالركود، والمراوحة في نطاق دائرة واحدة، وهذا منتهى ((التحجر)) وانغلاق المبدع على ذاته، بمنأى عن فضاء الأفق الرحب !!
وعلى ذكرك للتناص، وذكري للمقارنة، فقد قرأت بعد استلامي رسالتك ان الناقد السوري، والكاتب (( أحمد يوسف داوود )) نشر دراسة عقد فيها مقارنة بين رواية ((موسم الهجرة إلى الشمال)) للروائي السوداني المعروف ((الطيب صالح))، وبين رواية (( قضية ضائعة )) للروائي الانجليزي (( غراهام غرين )) كأن الطيب صالح قرأ قبل ذلك رواية غرين، وأنها لامست أفكاره لمساً مباشراً، مما جاء التشابه، والتناص بينهما كما قال على النحو التالي:
1 ـ رجل غامض اسمه ((كيري)) يصل إلى منطقة في قلب أفريقيا، في سفينة تمخر مياه أحد روافد نهر ((الكونغو)) حيث تتوقف عند مستعمرة للجذام يديرها، ويشرف عليها رهبان، ومبشِّرون.
2 ـ يستقر الرجل ((كيري)) في المستعمرة حيث الدكتور ((كولين)) والأب ((توماس)).. وغيرهما، ويقرر كما لو أنه مرغم على ذلك، وراغب فيه بأن يبقى، ويسهم في رعاية المجذومين.
3 ـ يتعرف أثناء ذلك إلى ((سيوريكيه)) وزوجته الصغيرة التي تقع في حب ((كيري)).
4 ـ فجأة يصل صحافي مغمور اسمه ((باركنسون)) إلى مستعمرة الجذام باحثاً عن ((كيري))، ومن حوار بينهما نفهم أن ((كيري)) عبقري في الفن المعماري في أوروبا كلها، وأن امرأة اسمها ((ماري)) قد ماتت بسببه، ثم يوحي الكاتب ضمناً أنه قتلها، وأنه هارب من آثام شبابه بعد أن ملَّ الحب والشهرة والثرثرة !!
وبعد أن يشي ((باركنسون)) الصحافي بأن ثمة علاقة بين ((كيري))، و ((ميري)) زوجة ((سيوريكيه)) وفي الحقيقة لم يحصل ذلك، يقوم ((ريكيه)) الزوج بقتل ((كيري)) بمسدس معه، وتختتم الرواية بقسوة حياة المستعمرة، إلى رتابتها.
(هذا ملخص مجتزأ جداً لرواية غرين) فما ملخص رواية الطيب صالح ؟
1 ـ هنا يوجد راوية ـ شاهد على الأحداث ـ قادم من دراسته في أوروبا، ثم يعود إلى جنوب السودان، أي إلى الجانب الثاني من قلب أفريقيا بالنسبة إلى الجانب الذي دارت أحداث رواية غرين. فالمكان واحد تقريباً، إذ البلدة متخلفة ومعزولة، عزلتها تشبه هنا من باب المجاز عزلة مستعمرة الجذام، وهنا نهر ((النيل)) مقابل روافد ((الكونغو)) هناك !!
2 ـ في الصفحة الثانية يتعرف الراوية إلى ((مصطفى سعيد))، القريب الذي جاء إلى البلدة منذ خمسة أعوام، واشترى مزرعة، وبني بيتاً، وتزوج ابنة محمود، ولا يعرف عنه شيئاً تقريباً، إنه شخصية غامضة منذ الصفحات الأولى.
3 ـ يصبح مصطفى سعيد صديقاً للراوية رغم غموض شخصيته، حيث سنكتشف لاحقاً معرفته بالشعر الانجليزي، الأمر الذي يحوِّل الراوية ـ بفضوله ـ إلى ما يشبه الصحفي ((باركنسون)) الذي رأيناه يبحث في معرفة ماضي ((كيري))، ونشر مقالات عنه، ويعطيه مصطفى أوراقاً تدل على أنه من مواليد 1898م، وجواز سفر مجدداً في لندن سنة 1926م، وأخرصادر في لندن سنة 1929م وعليه اختام أوروبية وصينية، ثم يسرُد مصطفى قصته، وفي لندن يقوم مصطفى بالكثير من الموبقات، لكنه بعد ذلك يصبح مشهوراً جداً في بحثه عن الاقتصاد المبني على الانسانية.
4 ـ يختفي مصطفى سعيد، أو يموت كما يشاع في القرية تاركاً زوجة وولدين.
5 ـ ونعرف أن مصطفى سعيد ترك رسالة للراوي في ظرف مختوم يطلب منه فيها أن يكون وصياً على زوجته وولديه.
6 ـ يزور الراوي بيت مصطفى سعيد، ويقابل زوجته، ثم يبدي رغبته بالزواج منها.
7 ـ يتم إجبار زوجة مصطفى من (ود الريس) فتقتله، وتقتل نفسها !!
ثم يقول الناقد السوري (أحمد يوسف داوود) (إن الطيب صالح نجح في تبييء هذه المعطيات كلها بلعب فني راق، وجاءت روايته أغنى بتفصيلات الوصف للعمق الخفي للحياة السودانية بسبب كونه سودانياً، بينما لم يتمكن ((غرين)) من مثل ذلك لأنه أوروبي، وغاز في النهاية.. وثمة ما يمكن قوله في الكثير من التفصيلات البسيطة في إطار التشابه، وحتى التماثل (مجلة اليمامة.. العدد 1784 تاريخ 12/10/1424هـ الموافق 6/12/2003م).
الغريب في الأمر أن نشر هذه الدراسة تزامن مع احتفاء بيروت بالطيب صالح، دون أن نقرأ أي تعليق له على الدراسة نفياًَ، أو إثباتاً.. والسكوت نأخذه من منطلق القاعدة القانونية.. الفقهية ((لا يُنسب قول لساكت))!!
وإذا كان شاعر الهند ((طاغور)) يرى في ((الأدب المقارن)) إنه ((أدب السرقات العالمية)) فإننا نرى ما يراه بالنسبة ((للتناص))، أو ((الاقتباس)) كما يطلق عليه صديقنا الناقد المعروف الدكتور (عبد الله محمدالغذَّامي) الرأي نفسه !!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :989  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 36 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج