شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
علي عمر جابر
الطفل اليتيم، الذي أصبح ((دكتوراً)) في الجامعة !!
الآمال، والطموحات الكبيرة، لا تتحقَّق من خلال أحلام ((النوم)) أو أحلام ((اليقظة))، ومن يتصوَّر غير ذلك، لا فرق بينه، وبين من يرعى في أرض يباب، لا شجر فيها، ولا طير، ولا زرع، ولا نبات !!
والطامحون في الحياة كثيرون، لكن ظروفهم، وقدراتهم تتباين، وتختلف !! البعض يحقِّق ما يطمح إليه لأن ظروفهم، وقدراتهم تساعدهم، وتوفِّر لهم الفرص المناسبة دون بذل كبير جهد، ومر معاناة، ووخز شوك، ويُتم حرمان !!
لكن الذين يطمحون، والفراغ يحدث بهم، والمعاناة تحيط بهم من كل جانب، ومع ذلك ينجحون، هم الذين يُحْسَبون من (( الصُنَّاع )) الذين يحقِّقون من (( اللاشيئية )) شيئاً كبيراً يعد في مسيرتهم نوعاً من (( المستحيل )) ، هذه المسيرة التي يفترشها الشوك، والحسك، يعانون، ويكتوون، ويكابدون، لكنهم يصمدون، ويسبحون ضد التيارات الذي يواجههم، لا يتوانون، أو يتوقفون، أو يتراجعون، بل يكتسبون ((صلابة)) الصمود الطامح إلى غاياتهم، مع إدراكهم أن دون ((العسل)) الشهي إبر ولسع ((النحل))، ودون ((الزهر)) وخز ((الشوك)) !!
والغايات الكبيرة لا ينالها، أو يطالها إلا ذوو ((الهمم)) الكبيرة، كما يعني ((المتنبي)) شاعر العصور في قوله:
على قدر أهل (( العزم )) تأتي (( العزائم ))
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وصديقنا واحد من أهل ((العزم)) الذين كابدوا ((أيام)) الحياة بمرها، و ((لياليها)) بعلقمها، فلم يستكينوا، ولم يخنعوا، ولم يستسلموا، ولم ترهبهم ((ظلمة)) الطريق، ولم تثن عزمهم ((خفافيش)) الظلام ـ وما أكثرها ـ. ولم تهزمهم أساليب الحاقدين، والحاسدين ـ وقد تعرضوا لها ـ !!
ساروا بعزيمة لا تفل، وإرادة لا تكل، رغم كل المعوقات، والمثبطات، والاحباطات، والدسائس، فوصلوا إلى ما كانوا يطمحون إليه بكل جدارة، وقدرة، واقتدار، فأصبحوا في مجتمعهم ((أرقاماً)) لها قيمتها، ((وكينونة)) في مجالهم العلمي !!
عاش صديقنا طفولته، وجزءاً من شبابه على الجانب ((المعتم)) من الحياة، حيث الحفر، والحرمان، و ((اليُتم)) المبكِّر، جاب شوارع، وأزقة مدينته الصغيرة المظلمة حيث لا كهرباء يومذاك، عاش مع من يعيشون ظروفه البائسة، من أترابه !!
لكن هذا الحرمان الإنساني المبكِّر لم يزرع الحقد في نفسه، ولم ينم روح ((العدوانية)) ضد الآخرين، بل حوَّله إلى إنسان مسكون بعاطفة كبيرة، لازمته طوال حياته، يبادر لخدمة من يلجأ إليه دون تردد، وفي أي وقت من الأوقات، إنه سلوك ((التعويض الإيجابي، الإنساني)) !!
شقيقه الوحيد الذي يكبره، كانت له ظروفه ومسؤولياته الشخصية، لكن الله قيَّض له أحد وجهاء مدينته الصغيرة، فعوَّضه بعض ما كان يفتقر إليه، أما نفسه فظلَّت توَّاقة الى الاعتماد ((الذاتي)).
حين نال (( الشهادة الابتدائية )) وأنتقل شقيقه الأكبر إلى مدينة ((جدة)) حيث فرص العمل أكبر، وأوسع، لم يجد أمامه إلا اللحاق بشقيقه.
وفي مدينة ((جدة)) نال (( الشهادة المتوسطة )) فدفعته إلى مواجهة الحياة، بعد أن أنضجته الظروف التي مرَّ بها عقلياً، ونفسياً.
هاجس في أعماقه يتنامى طموحاً للاستقلال بذاته، والاعتماد على نفسه، لم يعد طفلاً، عمره ((العقلي)) سبق عمره ((الزمني)) !!
جرّته قدماه إلى جريدة (( البلاد )) حين كان صاحبها، ورئيس تحريرها الأستاذ الراحل (حسن عبد الحي قزّار)، قبل عهد (المؤسسات الصحافية) وكان معروفاً عنه تشجيعه للشباب، ويعد واحداً من رواد الصحافة في بلادنا، تغمده الله بواسع رحمته.
أما لماذا اتجه إلى الصحافة ؟ فهذا ما لا نعرفه !! أهو الميل الذاتي، أم مجرد الرغبة في العمل المستقل ؟
المهم، أنه وجد العمل الذي ناسبه بداية ((مصححاً))، فاستمرَّ فيه لعدة سنوات اكتسب خلالها ((خبرة)) عملية في الصحافة، وشؤونها، من خلال ((البروفات)) التي تمر به، واكتسب كيفية صياغة ((الأخبار)) وكيفية إعداد ((الاستطلاعات)) الصحافية، وإجراء ((الحوارات)) مع الآخرين، على اختلاف اهتمامهم، واختصاصاتهم، كما تعرَّف على أساليب رواد الأدب، وكُتَّاب الصحيفة الكبار.
ويبدو أنه كما يقول المثل العربي (( وافق شن طبقه ))، فقد لقي صديقنا نفسه في الصحافة، لهذا حين صدر (نظام المؤسسات الصحافية) عام 1383هـ وبموجبه تم إدماج الصحف بعضها ببعض، شاء له قدره أن يعمل محرِّراً في جريدة ((عكاظ)) اليومية التي صدرت عن (مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر).
أمام عمله الجديد شعر بتحدٍ جديد، ومواجهة لم يمر بها، كأنه خلق للتحديات، والمواجهات، شعر أنه لكي يكون إسماً يُذكر في مستقبله الصحافي فإن عليه أن يثقّف نفسه ثقافة ذاتية، من خلال الإدمان على قراءة الكتب، والإطلاع على الصحف والمجلات العربية، وهذا يعني زيادة أعباء مصروفاته، فتمكَّن من المواجهة بالتقشف، وإيثار الكتاب على الثياب، فكان كما عرفت ـ والاعتماد هنا على ما سمعت وتذكَّرت ـ يغسل ثيابه بنفسه، ويرتق ما أنفتق منها بالخيط والإبرة، مؤمناً أن الإنسان جوهر ومَخَبَر، لا شكل ومنظر !!
في هذه الفترة انتقلتُ شخصياً للعمل والدراسة بجدة، حيث كنتُ أعرف من السابق الأصدقاء (أحمد عبد الواحد، وهاشم عبده هاشم)، وغيرهما، ومن خلال هؤلاء الأصدقاء تعرفتُ بقطب، أو محور موضوعنا (( الطفل اليتيم )) ، الذي أصبح دكتوراً في الجامعة (علي عمر جابر).
من لقاءاتي المكرورة به شعرتُ أنه شخصية تتسلّل إلى جوانحك لطفاً، وتواضعاً، ومودة وألفة.
ما قلته عنه في ثنايا هذا الموضوع ليس مجاملة تغلِّفها المبالغة، لقد عشتُ معه في سكن واحد لعدة أشهر، عرفتُ عنه خلالها ما لم يعرفه شقيقه، وعاصرتُ ما مرَّ به من مكائد، ومنغِّصات، وعداوات، ((مضمرة))، وغيره ((مضمرة))، ومع ذلك لم يتذمَّر، أو يتشكَّى، أو يصيبه القلق على شأن من الشؤون، كبيرها، وصغيرها، بل كان ينام مرتاح البال بمجرد وضع رأسه على وسادته، محتضناً جهاز المذياع يشدو على صوت ((أم كلثوم)) فأقوم بإغلاقه بعد إحساسي أنه يسبح في نهر نومه، لأنني عصي النوم منذ طفولتي.
انضم للدراسة معنا في الفترة المسائية ((بمدرسة الشاطئ الثانوية))، الواقعة في ((السبخة)) بجدة، ثم نُقِلتُ إلى الرياض 1387هـ، وبعد اتمامه ((الثانوية العامة)) عمل مديراً لمكتب جريدة ((الجزيرة)) بجدة، في الوقت الذي كان يدرس المرحلة الجامعية، بجامعة الملك عبد العزيز بجدة ـ كلية الآداب ـ قسم (( التاريخ )) فهل اختياره للتاريخ عن ميل، ورغبة ذاتية، أم أنه كان متأسِّياً بما قاله الشاعر ؟
ومن وعى (( التاريخ في صدره
أضاف أعماراً إلى عمره
وبعد الانتهاء من دراسته الجامعية التي أهَّلته جهوده، بأن يكون ((معيداً)) في الجامعة نفسها التي أبتعثته بعد حصوله على (الماجستير) لنيل (الدكتوراه) في جامعة ((تونس)) حيث إرتحل رغم ظروفه القاسية، وارتباطاته العائلية، بعد أن أصبح أباً لعدد من الأبناء والبنات، فشد المئزر، واكتفى بالقليل.
موضوع أطروحته كان عن (( الحرب بين الحبشة وإيطاليا )) وهو موضوع شائك، ومشتَّت كلَّفه كثيراً من العناء، ومشاق السفر بحثاً عن المراجع، والمصادر، والوثائق، والمخطوطات متنقِّلاً بين (روما، وأديس أبابا، والقاهرة، واسطمبول).
كان يخرج من فندقه صباحاً، ليعود في المساء أشعث أغبر، كأنه قادم من القرون الخوالي، فالبحث لم يكن سهلاً، والوصول إلى ما يبحث عنه أمر صعب، لكن هذا لم يفت في عضده، ولم يفل من عزيمته، فحصل على (الدكتوراه) ليعود مدرِّساً في التاريخ بجامعته التي إبتعثته، عاد ليضيئ العقول الشابة المتطلعة إلى الفجر، والقمر، والنجوم !!
ومن منطلقات (( العصامية )) الذاتية التي كان (( الصِّفر )) بدايتها، والجلد والتجلد طريقها، أصبح الصديق العزيز (علي عمر جابر)، الطفل اليتيم، وابن المدينة الصغيرة، وأزقة الحارة الضيقة المظلمة، يحمل أعلى شهادة، ويمارس التدريس بالجامعة، وهي شهادة قد لا يحصل عليها أبناء الذوات من الأثرياء !!
هذا إلى جانب أنه كانت له بصمته على صحافة بلادنا، فلم يكن حرفاً ساكناً، بل كانت ((بَيْدَقَاً)) متحرِّكاً على رقعة ((شطرنجها))، وكانت له زاوية يومية يحرِّرها بعنوان (موقف): كما أنه أعطى الفرصة لعدد من الشباب الواعد الذين أثبتوا جدارتهم، فلم يضع تشجيعه لهم، وتعهدهم بالرأي، والمشورة.
صلتي به ما تزال مستمرة، وتزداد بالتقادم متانة، ورسوخاً دون أن يكون لأحد منا فضل على الآخر، ويبقى الفضل ما بقي الوفاء الذي يعد رأس هرم الصداقة، والصدق والمودة، والإخلاص.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :657  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 35 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج