عبد العزيز السالم أديبٌ، جارت عليه الوظيفة !! |
سمعتُ عنه قبل أن أعرفه شخصياً، وحين عرفته ((صدَّق الخَبَرُ الخُبْرَ)) كما تقول العرب. |
وجدتُ فيه كل مزايا الخير، والسلوك النبيل، وتعامل الرجل الشهم، فهو من الجيل الذي لا يتكرَّر، جيل آبائنا وأجدادنا المسكون بالإيثار، وحب مساعدة الآخرين، ولو كان بهم خصاصة، جيل تربَّى على الفضائل، والمكارم، والبرَّ والتَّقوى.
|
أول مرة قابلته فيها عندما حَلَلْتُ بمدينة ((الرياض)) قبل ثلاثة عقود في ((
صالون الرفاعي
)) الخميسي، تغمده الله بواسع رحمته. |
بعد أن توطَّدت بيننا أواصر الصداقة، والمودة، ورابطة الأدب، رغم فارق السن، والمنصب بيننا، دعاني لتناول طعام العشاء في منزله بالرياض أحتفاء بالأستاذ ((المحقق)) (محمود شاكر) رحمه الله، كما دعا صديق الطرفين الأديب المؤرخ الدبلوماسي المغربي الدكتور (عبد الهادي التازي) عضو هيئة
((
جائزة الملك فيصل العالمية
))
.
|
قبل أن نتناول طعام العشاء انتحى بي جانباً، وفي يده ((قصاصة)) من جريدة، طلب مني أن أقرأ ما فيها، بعد أن انتهيتُ من قراءتها، وجدتُ كاتبها ((النَّكِرَة)) قد نال من بلادنا ـ وما أكثرهم ـ.. وقد عزَّ عليه ذلك، فسأَلَني ما رأيك في الرد عليه ؟ قلتُ له إنه لا يستحق الرد لأنه كاتب كالنَّبت الشيطاني، يبحث عن شهرة، وبالرد عليه نحقَّق له نَزَقه، فهو كاتب مغمور ((أُرزقي))، ويوجد مثله كثيرون، ومن الخير لنا ولبلادنا أن نتركهم ((يهوهووا)) بما ((هووا)) وبما هم عليه من أمراض نفسية، والقاعدة العربية كما تعرف تقول ((القافلة تسير، و... الخ)).. وذكرته بقول الشاعر: |
لو كل (...) عوى ألقمته حجراً
|
لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
|
|
وبردِّنا عليه وعلى أمثاله من ((النَّكِرَات)) سوف يتطاولون أكثر، ويركبهم الغرور، ردَّ عليَّ بحكمته، وهدوئه عندك حق، فالكاتب ((الدون، يظل في مكانة ((الدون)) !! |
وهذا الموقف الذي أذكره للقارئ ليس إلا صورة من الصور التي يتحلَّى بها في صدق انتمائه الوطني، وعمق هذا الانتماء الذي يتغلغل في أعماق كل مواطن يعيش على أرض هذا الوطن الغالي والكيان الكبير، وما يحتوي عليه من أماكن مقدسة، إنه صديقي وأستاذي الكبير (عبد العزيز عبد الله السالم) الأمين العام لمجلس الوزراء حالياً.
|
كان خلال تناولنا طعام العشاء واقفاً يخدم ضيوفه بنفسه، ويتفقَّدهم بتقديم الأطباق المحلية المشهورة مثل ((
المرقوق
))
، و
((
الجريش
))
، و
((
المطازيز
)) يقوم بهذا دون أن يجلس رغم وجود من يخدم الضيوف الذين كان يشرح لهم محتويات، ومكوِّنات كل نوع من أنواع الوجبات المحلية، مشيراً إلى أن بعضها ورد ذكره في كتب التراث العربي مثل ((الجريش)). |
الصديق ((التازي)) هَمَسَ في أذني سائلاً: لماذا لا يشاركنا الأستاذ (السالم) تناول الطعام ؟ رَدَدْتُ عليه من سعادته أن يقوم على خدمة ضيوفه بنفسه، وهذه من العادات السائدة في بلادنا !! |
قال الصديق ((التازي)): بدأت مثل هذه العادات العربية في إكرام الضيف تندثر، أو تنقرض، ولدينا في المغرب رغم الاستعمار، وما تركه من آثار ((الفرنجة)) ما تزال توجد بعض الأكلات مثل ((
الكَسْكُسِي
)) التي تشبه ((
الكَبْسَة
)) عندكم مع بعض الاختلاف، كما أننا نحرص على تقديم
((
اللبن، والتمر
))
للضيف، قلتُ له: وتقديم التمر مع القهوة العربي، ما تزال سائدة في بلادنا. |
في فترة ليست بعيدة كان صديقنا (عبد العزيز السالم) يكتبُ في يوميات جريدة ((الرياض)) (حروف.. وأفكار) أسبوعياً باسم مستعار هو (مسلم عبد الله المسلم)، وهو اسم يجسِّد أعتزازه بدينه الإسلامي الحنيف، وعمق انتمائه الإسلامي الذي يحكم تصرفاته، وسلوكياته، وتعامله مع الآخرين بحيث لا تجد شخصاً له قضية، أو معاملة في إدارته، أو الأقسام التابعة لإدارته يراجعه إلا وحلَّها، وأنهى موضوعها فيخرج صاحبها بالانطباع الحسن، والتقدير لموقفه الإنساني، مع الدعاء له بطيب الدعاء. |
ويبدو أن صديقنا (السالم) اعتاد على قضاء الأيام الأخر، أو بعضها من شهر رمضان الكريم في مدينة الرسول عليه الصلاة، وأتم التسليم، بجوار مسجده الذي يعد أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرِّحال، كما جاء في الحديث الشريف، لأنني سعدتُ بلقائه لدقائق في زحمة الزائرين، والمصلِّين، مكتفين بالتحيَّات، والسؤال عن بعض، كان موقفاً مغسولاً بالروحانية التي يشعر بها كل من يوفِّقه ـ الله بالصلاة فيه، وهي تعادل ألف صلاة في غيره من المساجد. |
كان هذا آخر لقاء. وبعده تسنَّم منصباً رفيعاً حسَّاساً، وقبله تنقَّل في أكثر من منصب، ولم أتمكن من زيارته في عمله الجديد، لأنني لا أحبِّذ زيارة الأصدقاء في مقار أعمالهم، حتى لا أشغلهم، كما يبدو أن منصبه، ومسؤولياته الكبيرة تأخذ عليه كامل وقته، إلى حد أنه توقف عن مشاركاته الكتابية في الصحافة، وهذه من سلبيات الوظيفة التي عدَّها ((العقاد)) نوعاً من ((العبودية))، لهذا لم يلتزم في حياته بوظيفة، فألَّف كتباً بعدد سنوات عمره. |
أذكرُ حين كان يكتب باسم مستعار في جريدة ((الرياض)) كتب دراسة عن الشاعر العراقي ((بدر شاكر السيَّاب))، من خلال شعره، ربما خالف فيها كل من كتب عنه، مما يعكس استقلالية فكره، وتفكيره، وأن له صوته النقدي المميز، لا يهمه اتفاق من يتفق معه، أو مخالفة من يخالفه، وهذه ميزة تحسب له، لا عليه، فهو مؤمن صادق، ضالته الحق، والحقيقة. |
في كتاباته تجد اهتمامه الخاص بشؤون الشباب والتربية كأب وصاحب تجارب واسعة، فهو يجمع بين
((
الفكرة
))
و
((
التجربة
))
فيما يكتب.
|
حين أقرأ له أشعر أنني أقرأ ((لعبد العزيز السالم)) من خلال معرفتي به، فهو لا يتلوَّن، ولا يلبس ((الأقنعة))، ولا يرتدي ((طاقية إخفاء))، أو أشكال ((تنكرية)). |
في كتابته تلمس أنه
((
موجِّه إجتماعي
))
لاهتمامه بقضايا
((
التربية
))
، و
((
الشباب
))
إيماناً منه أن في صلاح الشباب صلاح المجتمع، وأن في صلاح المجتمع، صلاح الشباب، لهذا يخلو أسلوبه من التقعُّر، والبهرجة، والحذلقة، والتَّزويق، والتسويغ، فلا جفاف في أسلوبه السهل الواضح، ولا يستعمل ((المصطلحات الغربية)) التي يتفيقه بها بعض الكتاب حتى لا يغرق القارئ والمتلقي في فك طلاسمها الغامضة، ورموزها المغلقة على الفهم، كأنه يشعرك أنه يريد أن يوصل رسالته إلى قارئه دون مواربة. |
وأسلوبه يتسم بالهدوء دون نزق، أو
((
فانتازيا
))
، وبالمعالجة غير الحادَّة، مستمداً ذلك من شخصيته، وأسلوبه في الحياة، مقرِّراً قاعدة
((
الأسلوب هو الرجل
))
، وهي قاعدة جدلية، قديمة، أُشبعت نقاشاً، اختلافاً و اتفاقاً، وبين بين !!
|
لا يسفِّه آراء غيره ممن يعارضون رأيه، على طريقة مقولة الكاتب الفرنسي الشهير (فولتير) التي تعني ((إنني أخالفك الرأي، لكنني أبذل دمي من أجل أن تقول رأيك
))، أو على طريقة مقولة (شوقي) التي تعني ((
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية
))، ورغم ما ترمز إليه هاتان المقولتان من رقي حضاري، وسلوك فكري سام، وأخلاق إنسانية رفيعة، إلا أنهما اليوم لا تصمدان أمام واقع أي جدال، أو نقاش، مهما كان نوعهما، بحيث صار الاختلاف بين المثقفين يفسد للود ألف قضية، وقضية، بل يزرع الشحناء، والخصومة، وفقدان علاقات صداقات عمرها عشرات السنين ـ مع الأسف الشديد ـ بل تجد أن بعض نقاد الأدب هم أقل تقبلاً للنقد، وإذا بحثت عن السبب ستجد أنه ناتج عن ربطهم النقد، واختلاف الرأي بأشخاصهم، ومكانتهم الأدبية، والاجتماعية، والنقدية، كما أنهم يعدّون الرأي المخالف لآرائهم له مساس بكراماتهم الشخصية، والتقليل من مكانتهم، وتسفيه آرائهم أمام القراء، فتنشأ المناوشات، والمناقرات، والمعارك الأدبية الهامشية، وتضيع موضوعية القضية منشأ الخلاف، ويتحوَّل الجدل بالتركيز على الأمور الشخصية، والخصوصيات الذاتية، فتحتد هذه المعارك، ويثار الغبار، وتعتم الرؤية، فيكون ((السقوط)) !! |
وهذه ((الظاهرة)) القميئة لا يختص بها أدبنا العربي الحديث، بل لها إفرازاتها في أدبنا القديم مثل ((
نقائض
))
جرير، والفرزدق، كما أن أدب الغرب لا يخلو من هذه السفاسف الأدبية !! |
معذرة لاطالتنا الحديث عن هذه الظاهرة، وقد أوردناها لنقول إن صديقنا الأديب (السالم) لم يدخل معركة أدبية تجرح، أو تخدش الحياء، فهو لو يتورّط في جدل
((
بيزنطي
))
، أو خصومات أدبية، أو نقاش
((
سفسطائي
))
، كان صاحب قلم نظيف، وأسلوب أنظف.
|
وصديقنا العزيز (السالم) من مواليد عام 1351هـ ـ 1932م، تخرَّج في جامعة القاهرة ـ كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية وآدابها.
|
ليس له من الكتب المطبوعة ـ سوى كتاب
((
مأزق القِيَم
))، وكتيب صدر حديثاً بعنوان ((
وقفات مع الأستاذ عبد الله القرعاوي
))، لهذا ندعوه مطالبين بجمع ماله من كتابات عديدة في الصحافة. |
من نبله، وتقديره لأصدقائه، أساتذة، وتلامذة الذين أحسب نفسي واحداً من هؤلاء التلامذة، تلقيتُ منه في أحد الأيام مكالمة هاتفية يطلب مني فيها تغيير عنوان الزاوية الذي أكتب تحته، لم أسأله لماذا ؟ لثقتي أن طلبه هو نصيحة أبوية مخلصة غير مباشرة، وحين حلَّلت العنوان بكل أبعاده، ودلالاته أدركتُ ((المغزى)) النبيل الكريم من نصيحته، فقدَّرت له هذه النصحية، وغيَّرت العنوان، فالدين النصيحة، ومن لا يتعظ يتعثر في حياته، فلم أركب رأسي، وأحرص على خطأ حتى لو كان عن غير قصد، والكمال لله وحده. |
* * * |
|