عبد الله منَّاع.. الأديب، مالك الحزين !! |
حين تعرّفتُ عليه شخصياً في بداية ((الثمانينيات)). الهجرية بعد القرن الثالث عشر وبالتحديد عام 1382هـ ـ على ما أذكر ـ كان يعمل مشرفاً على تحرير جريدة
((
الرائد
))
لصاحبها، ورئيس تحريرها الصديق الأستاذ (عبد الفتاح أبو مدين)، الذي كان في لندن لدراسة اللغة الإنجليزية، وقد كان حديث ذكريات أوردته في إحدى حلقات مذكراتي الصحافية بعنوان ((
مذكرات صحافي.. ناقص الذاكرة
)) التي تُنشر مسلسلة في ((
المجلة العربية
)) الشهرية التي تصدر في الرياض والتي يرأس تحريرها الصديق الوديع ((
حمد عبد الله القاضي
)) الذي أحرجني بكتابة مذكراتي الصحافية فقط، وكنت أريدها ((
سيرة ذاتية
)) ترصد حياتي الستينية، منذ الطفولة، فكأن حبيبنا ((القاضي)) برغبته قد شطر حياتي إلى شطرين !! ولأنني ضعيف أمام الأصدقاء الذين أحبهم فقد استجبت لرغبته، وكنتُ أشعر بشئ من المعاناة أثناء الكتابة لحرصي على فصل ما يمس حياتي الإنسانية المرتبطة ارتباطاً حميماً بالأعمال التي قمتُ بها، وما مرَّ على حياتي من جراح، وأمل، وألم، وحزن، وفرح، وفشل ونجاح، وكسب وخسارة، ومن مرَّ عليَّ في حياتي من الناس ((الطيبين)) والناس ((والوحشين)). |
ورب ضارة نافعة فقد فتحت لي هذه المذكرات المشطورة أن أكتب هذه الذكريات في
((
المجلة الثقافية
))
ذكرياتي عن الأشخاص الذين عبروا على جسر حياتي المتواضعة، وكانت لي معهم بعض المواقف.
|
ولأنني قلتُ شيئاً في مذكراتي المشطورة عن شخصية هذا الموضوع، فانني سأحاول كتابة ما لم يرد في تلك المذكرات تجنباً للتكرار، وأملاً في أن أوفق في هذا الفصل الانشطاري، في تذكر بقايا ذاكرة قديمة !! |
صديقنا شخصية هذا الموضوع، هو الدكتور الأديب المبدع (عبد الله منَّاع)، أو كما أميل الي إطلاق لقب
((
مالك الحزين
))
عليه لأسباب سترد فيما بعد.
|
في مدينة ((الإسكندريه)) المليحه ببحرها، وشواطئها الرملية الساحرة التي تذكِّرك بشواطئ ساحل ((الريفيرا)) في فرنسا، أو شواطئ ((هاواي)) و ((هونولولو)) في أمريكا!! |
شواطئ تلك المدينة العربية المليحة التي شهدت مرحلة مهمة، بل أجمل مراحل عمر صديقنا، هي ((
مرحلة الشباب
)) حيث تفتَّقت ذاكرته، وتشكلَّت عقليته، وخَفَقَ قلبه الشاب أول ما خَفَقَ فيها، شهدت طموحاته، و تطلعاته، أنكسارات مشاعره، وجراح أحاسيسه، كما شهدت ((مواويل)) عشقه، وغرامه، مع ليالي ((
أم كلثوم
)) الطويلة، ((وسجا)) دندنات ((
محمد عبد الوهاب
)) على ((جندول)) يختال مزهواً كعريس يعيش أولى لياليه المشرقة بالزهور!! |
الاسكندرية التي أنجبت الموسيقار العبقري المبدع الفذ ((
سيد درويش
)) بموشحاته الجديدة، المتجدِّدة، كما ضمَّت أكبر مكتبة في التاريخ.. وعانقت دموع وشهقات الشاعر ((الزجلي)) الثائر (بيرم التونسي). وحين ترتبط هذه المعالم بحياة صديقنا
((
مالك الحزين
))
فإن الفصل بينه، وبينها هو فصل بين
((
الأَثر، والمؤثِّر
))
الإنسان والمكان، وبين مصادر إبداع الشخص المتأثِّر، لهذا نجد أن مثل هذا
((
الفصل
))
فيه إعساف وتعسف!!
|
فالأمكنة ليست الحجارة الخرساء، والمباني الصم، والشوارع الصامتة المعطوبة بالأخاديد والحفر، الأمكنة هي الناس، وبالناس، الأمكنة هي ذكريات الناس، وحياة الناس النابضة بالحركة والحيوية.
|
إذن، فإن الفصل بين الأمكنة، وبين الناس يعد ((ذبحاً)) مثل الغربة للأحرار، ألم يقل الشاعر
((
ابن النحاس المدني
))
..
((
إنما الغربة للأحرار ذبح
)) ؟ ويعد ((بتراً)) إن لم يكن ((وأداًَ)) جاهلياً، لكل ما هو جميل، وإنساني، في هذه الأماكن التي تتحوَّل بدون الناس، وذكريات الناس إلى ((خرائب))، و ((أطلال)) ينعق في جنباتها ((البوم)) وتسكنها ((الخفافيش)) وتزحف في قيعانها، وأرضياتها، وسطوحها ((الأفاعي))، و ((الأحناش))، وتعشش فيها ((الهوام))!! |
لهذا حين يتحدَّث الدارسون والباحثون، وأصحاب الذكريات عن شخصيات أدبية، أو علمية، أو فنية، فإن من المهم جداً جداً الحديث عن البيئة المحيطة بالشخص المدروس، وروافده الثقافية، والاجتماعية، والإنسانية، والحياتية، والعاطفية، بقدر الإمكان، لأن هذه الروافد هي ((المؤثِّر)) الرئيس في تشكيل ذهنيته، ونفسيته، فالإنسان ـ أي إنسان ـ يتأثَّر بالبيئة، ويؤثَّر فيها، كما يرى الجغرافيون. |
والإنسان بطبيعته ((كائن اجتماعي)) لا يستطيع العيش في جزيرة نائيه، منفياً بنفسه، وبذاته مثل ((
حي بن يقطان
)) و ((
روبنسون كروزو
)) لأنهما شخصان متخيلان نابعان من تخيلات ((
ابن طفيل الأندلسي
)) وتصورات ((
دانييل ديغو
)). |
معذرة للتجنيح بالذكريات الشخصيه في عناقها الحميم مع التاريخ، وما ذلك الا لقناعتنا بأن حديث الذكريات الشخصيه في عناقها الحميم مع التاريخ المعاصر يتعلَّق من رموشه بالتاريخ السابق عليه، إذا كان هذا التاريخ يرتبط به ارتباطاً حميمياً يثريه، ويغنيه. |
وإذا كان صديقنا العزيز (المنَّاع) عاش طفولته ـ كما نتصوَّر ـ بين أزقة حارات ((جدة)) المزدانه بمبانيها التاريخيه، المتميزة برواشينها التي تغرِّد عليها ((القماري)) وتتعاشق، وتتحابب، وتتناسل، كأنها تروي لأهلها الذين يسكنون هذه المباني المتلاحمة، المتناغمة، كتلاحم مجتمعها بنسيجه المتعددة الأنواع، وألوان طيف غروب شمسها في سحر ودلال. تروي لهم ملحمة لم يسجلها تاريخ !! |
كأن تلك ((
القماري
)) على ((
الرواشين
)) المشرعة تحكي للناس حكايات الحب الذي لم يُكتب، وقصص العشق والسهد التي تفوق تخيلات الشعراء، الحالمين، وتصورات المبدعين، وآهاتهم، ولوعاتهم !! |
هذه هي روافد صديقنا ((المنَّاع)) الأولى، وهذه هي الصورة ((البانورامية)) التي عاشها في جدة، والإسكندريه طفلاً، ويافعاً، ورجلاً، ورمزاً من رموز المجتمع ((الجدَّاوي))!! |
كانت له عيادته لطب الأسنان في أكبر، وأهم شارع في جدة، هو ((
شارع الملك عبد العزيز
)) حين تدخلها تظن أنك ستدخل عيادة طبيب أسنان، لكنك تتراجع القهقري عائداً إلي حيث كنت، لأنك لن تجد ممرضاً أو ممرضة تستقبلك، وإذا وقفت تراقب وتسمع عن بعد فإنك ستتصور نفسك داخلاً أحد المنتديات، أو الصالونات الأدبية، رجالاً، وشيوخاً، وشباباً، لم يأتوا لعلاج أسنانهم، وإنما هم جماعة أدركتهم حرفة الأدب، كما تقول العرب، يتوسطهم ((
وجه البقشة
))
صديقنا (المنَّاع) كما سماه
((
بابا عزيز ضياء
))
رحمه الله، لهذا قلتُ عنه: إنه أديب فَقَدَ طريقه إلى الطب كما فقد قبله طريقه شاعر الأطلال
((
إبراهيم ناجي
))
بدراسته للطب. ويوسف إدريس، وسومر ست مومَ.
وتسيخوف وغيرهم، وقد تصورت أن صديقنا (المنَّاع) كان يسهر ليله في قراءة القصص والروايات والمسرحيات أثناء الدراسة أكثر من مطالعته كتب الطب، الجافة، ولا أستبعد أن حصيلته، أو نتيجته في امتحان السنة النهائية كانت ((متوسطة))، إن لم تكن ((مقبولة)) مثلي في دراسة الحقوق !! |
وكنتُ أتوقع أنه سيأتي يوم يُغلق فيه العيادة التي يأتي إليها الناس لعلاج قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم بالشعر والأدب لا لعلاج أسنانهم، وحدث ما ما توقعته، فقد أقفل العيادة، وعاد إلى مناخه النفسي والعقلي، وجوه الأدبي !! |
و (المنَّاع) حين يكتب لا يكتب دون معاناة، فإذا عانى كتب، وإذا كتب عانى، لأنه لا يكتب بقلمه، بل يكتب بكل مشاعره، وأحاسيسه، ويغرق في نهر من التفكير، وبحر من التأمل بحثاً عن عبارة شاردة، أو صورة مجنحة، أو مفردة جديدة، وبعد أن ينتهي من الكتابة يحس أنه ركض عشرات الكيلوات، وينظر إلى منفضة السجائر ليجد أنها قد أمتلأت بعشرات الأعقاب !!
|
في حرفه ((
أنين الحيارى
))
(1)
، وفي عبارته ((
قمم الشقاء
))
(2)
، وفي نفسه ((
شيء ما
))
(3)
، وطريقه ((
معتم ومضيء
))
(4)
، وحياته ((
العالم رحلة
))
(5)
!! |
يغيب عن الكتابة سنوات، ثم يعود إليها لأشهر، فهو كاتب مزاج.. وحالة نفسية، ((
إذا كتب مقدمة لكتاب أَفْسَدَ على صاحب الكتاب كتابه !! تصبح مقدمته هي الكتاب، ويتحوَّل الكتاب إلى مشروع هامشي، أو
((دولاب خامس)) بحيث يكتفي القارئ بقراءة المقدمة ليلقي بالكتاب جانباً، ويصبح مؤلف الكتاب مجنياً عليه، ومغلوب على أمره !! |
شخصيته تجمع بين المظهر ((
الكلاسيكي
))، ونموذج الرجل ((
الأرستقراطي
))، وهو كلاسيكي المظهر لأنه لا يستعمل ساعة اليد، بل يستعمل عوضاً عنها ساعة ((الجيب)) التي كان يستعملها أبي، ويسميها ((رأس كوب)) ويضيف إلى ذلك تعليقها بحبل أسود رقيق يضعه على عنقه، البعض الذين لا يعرفونه يتصوَّرون أن هذا الحبل الأسود الرقيق ينتهي إلى مسجل صغير جداً يضعه في جيبب ثوبه العلوي !! |
وهو ((
ارستقراطي
)) لأنه دائم الأناقة، حتى طريقة وضع غترته على رأسه قلَّده فيها بعض من عمل معه !! |
وهو ((
مالك الحزين
)) نوع من طيور ((البلشون)) باللغة ((
الهيروغرلوفية المصرية
)) المنقرضة، وهو طائر نادر الوجود ((آبد)) يحرص على صيد الأسماك، لهذا فهو بالنسبة لصيادي السمك طائر غير مرغوب فيه لأنه يهاجم ((مصائد الأسماك)). |
وصديقنا العزيز (المنَّاع) يأخذ من هذا الطائر ظاهرة ((الحزن))، رغم أنه يقهقه أحياناً، بضحكة مرتفعة لها خصوصيتها المشوبة بالحزن !! |
ويأخذ منه ((اللون الأبيض)) لأنه يحب الشواطئ الرملية البيضاء، ومن تواقيعه المستعارة ((
ابن الشاطئ
)) أما ((اللون الرمادي)) فيذكِّره بجو مدينة لندن التي لها تاريخ معه، صوَّره من خلال أسلوبه الخاص به في أدب رحلاته الممتع، لكنه بالنسبة له فهو ((الحزن)) الذي يعده الحياة ((بداية ونهاية))، فالطفل حين يولد يصرخ حزيناً، والإنسان حين يموت يصرخون عليه حزناً، فإذا كان للحزن لوناً فلونه رمادي !! |
مرة دعتنا ((
وزارة المواصلات
)) عند افتتاح عقبة
((
شعار
))
في
((
أبها
)) وحين ألتقطوا لنا صورة كوفد صحافي لذكرى الرحلة وقف خلف الجميع، فظهر في الصورة بارزاً، أكثر ممن كانوا أمامه لطول قامته التي يغبطه عليها كثير من الرجال، والعرب تقول ((العز في العلالي)) كأنه واحدة من نخيل المدينة. |
من حبه للموسيقار ((محمد عبد الوهاب))، وأغانيه سمىّ ابنته ((سجا)) لأنها مفردة من إحدى أغاني عبد الوهاب، ((سجا الليل)) !! |
يحب الاختلاء بنفسه، وإذا ضاق صدره ركب سيارته على سماع موسيقى إحدى أغاني ((أم كلثوم))، هرباً من الضوضاء، كأنه الشاعر الكبير ((كامل الشناوي)) الذي كان مصاباً بالأرق والاكتئاب، فحين تنتهي سهرته يطلب من سائق سيارته الذهاب به إلى طريق الإسكندرية، فإذا طلع النهار، وألقت الشمس ذؤاباتها الشقراء على الأرض، طلب من السائق العودة إلى القاهرة، حيث يخلد إلى النوم في شقته وحيداً لأنه لم يتزوج !! |
مرة حضرنا حفل جائزة (الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز) أمير المنطقة الشرقية للتفوق العلمي.. نزلتُ صباحاً لتناول طعام الفطور، فوجدتُ الصديق (عبد الله منَّاع) يجلس في ((الكوفي شوب)) وحيداً، كانت فرصة للجلوس معه مستأنساً بحديثه الرقيق الهامس العذب، سَأَلَنَي: هل تَعَوَّدَتَ على الصحو مبكِّراً؟ رددتُ بالنفي، سألني مرة أخرى بحديثه الرقيق الهامس العذب، ما الذي أيقظك مبكِّراً؟ رَدَدْتُ عليه: لم أَنَمْ !! |
وبروح الصديق المحب سألني: لِمَ لَمْ تَنَمْ ؟ قلت له: عوَّدني العمل في الصحافة، ومسؤوليتها، وبمرور الزمن تغيَّر إيقاع ساعتي ((البيولوجية)).. صرت مثل الشاعر ((كامل الشناوي))، فنحن لا نعمل في الحياة، بل نلهث مع طاحونة الصحافة التي لا ترحم، في النهار نعمل كثور الساقية، وفي الليل نفكِّر فيما سنعمله غداً لتقديم الجديد للقارئ الذي لا يعجبه العجب، ولا الصيام في رجب!! كما يقول المثل. يبدو أنه يشاركني فيما قلته، لكنه قليل البوح.. سألني: بِمَ تشعر الآن ؟ قلت له: بالملل، والقرف !! |
عندها تحدَّث كأحد الفلاسفة المجرَّبين وهو يتنهد قائلاً على طريقته في تكرار ما يريد أن يرسِّخه: آه.. الملل، الملل، إنه أبرز أمراض العصر، وما أكثر أمراض العصر، إنه يعطيك القليل ليسلب منك الكثير !!
|
سألته: وما رأيك في صاحب كتاب ((
وداعاً أيها الملل
)) ؟ رد: لا أحب الحديث عنه !! |
قلتُ له: كثيرة هي الأشياء التي لا نحب الحديث عنها، لكننا نثرثر كثيراً عنها في الفاضي، والمليان، إنها نوع من ((الفَضْفَضَة)) النفسية !! |
يبدو أنه أدرك أنني متعب جداً، طلب مني بود أن أذهب إلى غرفتي، أملاً في أن أنام قليلاً من الساعات استعداداً للبرنامج الرسمي الذي ينتظرنا، شكرته على هذه الدقائق الجميلة التي استأنست فيها بوجوده، رد الشكر بأحسن منه، وسرنا معاً، ودَّعني ليجلس في بهو الفندق، إنه يحب التأمل في الناس، وحركاتهم، وأشكالهم، فهو لا يعيش إلا مع الناس، وبالناس في أغلب الأوقات. |
لا أدري حين يقرأ هذا الحوار سيتذكَّره، أم أنه ذهب مع الريح، والنسيان ؟
(6)
. |
* * * |
|