شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبد الرحمن الرفاعي
الرجل الذي تحدَّى إعاقته!!
في مجتمعنا نماذج من الأفراد عاشوا حياتهم تجلداً، واجتراءً، واجتراحاً، في مواجهة كل التحديات العاصفة كرياح (( الخماسين )) ، ساروا على الشوك، وخرطوا القتاد، لعقوا الحصرم، وبلعوا العلقم، نحتوا الصخر بطموحهم، وتسلَّقوا الجبال، فأثبتوا وجودهم، ونصبوا فيالق النصر على الهامات، ومشاعل النور على الصرود، وأنوار الانتصار الإنساني على ركام الهزيمة والاستسلام لاعاقتهم!!
تخطّوا عثرات الإعاقة بشجاعة نادرة، وطموح يتسامى على المثبطات، والمعوقات، وعزيمة لا تعرف الكلل والملل!!
لم تخذلهم ((أحلام اليقظة)) فتقعدهم أسرى قيودها. ولم يعرفوا راحة ((الكسل))، وحلاوة ((الدِّعة))، انتصروا لإنسانيتهم على ((الإعاقة))، وهزموا كل عوامل ((الإحباط))، فارتفعوا بذواتهم ليصبحوا نجوماً ساطعة في سماء مجتمعهم، وشموساً في أفق العلم والمعرفة!!
وصديقنا محور هذا الموضوع واحد من هؤلاء الأفراد (( الاستثنائيين )) .. ونجم من نجومهم، وشمس من شموسهم!!
مات والده وهو في الثانية من عمره، فكان هذا الفقد على الطفل همَّا كبيراً على النفس الغضة، وبعد وفاة أبيه بأشهر أصيب بشلل في نصفه السفلي، فَقَدَ بسببه مشاركة أترابه ألعابهم.
كان يفترش الأرض تسكن الحسرة نفسه، يتفرَّج عليهم توَّاقاً أن يكون اللاعب المميَّز، والراكض الأسرع، يختطف هدف اللعبة تلو الهدف، كان يطمح قاعداً، يحلم قاعداً، يتحرَّك قاعداً، يتحرك قاعداً، كأنه قد شد بأوتاد إلى الأرض، وكلاليب ضخمة تثقل ساقيه الساكنتين حيث لا دماء تجري داخل الشرايين والأوردة لضخ الحرارة داخلها!!
كان ينتظر في مقعده على الأرض حتى يأتي من يحمله إلى داخل منزل أسرته لوضعه على السرير، و إذا ما أراد الذهاب إلى الحمَّام لقضاء حاجته أستعان بمن يحمله، ولم يكن يضايقه كثيراً إلا حين يشعر أنه محتاج للذهاب إلى الحمام، في الوقت الذي يغط الجميع في نومهم، إذ أن عليه أن ييقظ من يرى أنه يحتمل هذا الازعاج الذي قد يكون نوعاً من الأذى ليقوم بالمهمة، ولكي يتحاشى هذا الإزعاج المؤذي قد يضطر أن يصبِّر نفسه بعدم الشرب والأكل قبل أن ينام!!
ورغم أن الجميع الذي حوله، وهم أمه، وأخوانه، وأخواته يحبونه، ويدلِّلونه، ويتفانون في خدمته لأنه (( آخر العنقود ))، إلا أنهم لا يشعرون أن أطنان الحزن تثقل أعماقه، وتفترش جوانحه، وكلما مرت السنون تكبر مدراكه فيفسِّر الأمور، وتصرفات من حوله نحوه أنها نوع من أنواع ((الشَّفقة)) وأنهم بخدماتهم له يتحسَّنون عليه، كأنه يتيم يقف على قارعة الطريق يشحذ المارة، ليجودوا عليه ببعض القروش الزائدة عن حاجتهم!!
حين بلغ سن الدخول إلى (( المدرسة الابتدائية ))، كَبُرَتْ مأساته، من ذا الذي سيتفرغ لحمله عدة أكيال إلى المدرسة صباحاً، وإعادته محمولاً بعد الدراسة ظهراً، وهو يحس بإصرار أن عدم ذهابه إلى المدرسة لا فرق بينه، وبين الإنسان المحكوم عليه بالإعدام قاعداً!! لأنه بإحساسه الفطري المبكِّر يدرك أن التعليم، وطلب العلم هما سبيله إلى المستقبل الذي ينشده، ودون ذلك ((خرط القتاد)) كما تقول العرب.
إذن، ما الحل، ومدينته الصغيرة ليس فيها سيارات، بل كانت السيارات بشكل عام لا يمتلكها إلا أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة؟
لم تكن أمامه وسيلة مواصلات غير (( الحمار )) ! وإذا وجد الحمار فمن سيرافقه في الذهاب، والإياب؟ وكيف لمشلول عاجز أن يمتطي الحمار بمفرده، إذ لا بد من مرافق له؟
وكان أخوه الكبير (( عمر )) تغمده الله بواسع رحمته كبيراً في حدبه، ورعايته لأخية الصغير المشلول، العاجز عن السير بمفرده ومساندة ابن عمه ((محمد)) إنه صديقنا، ومحور موضوعنا، (عبدالرحمن محمد الرفاعي)، والعزيمة الإنسانية والطموح بعد مشيئة الله تصنع المستحيل، وتعاون الآخرين مثل أخيه الكبير وابن عمه من الأوفياء يسهِّل الصعب.
ويشاء الله أن يأتي الشيخ الكبير الإنسان (حسن عبدالله آل الشيخ) تغمَّده الله بواسع رحمته، زائراً إلى مدينة (( جيزان ))، وكان يومها وزيراً للمعارف، وقد عرف عنه حبه لعمل الخير، ومساعدة الآخرين، فحملنا صديقنا (عبد الرحمن الرفاعي) لمقابلة معاليه في المطار شخصياً، وحيث عرف قصته أمر بإرساله للعلاج في (( لبنان )) على حساب الوزارة، حين كان لبنان البلد المناسب يومها لعلاج مثل شلل صديقنا (الرفاعي) الذي مكث عدة أشهر ليعود بساقين صناعيتين، وعكازين تساعدانه على المشي وحده، دون أن يساعده أحد، فبدأ حياة جديدة، وجد واجتهد في دراسته في ((جيزان)) حتى حصل على (( الثانوية العامة )) حيث بدأت موهبته الأدبية في البروز، ثم سافر إلى ((الرياض)) لينتظم طالباً في (( كلية اللغة العربية )) ثم يعود إلى مدينته ((جيزان)) مدرِّساً للغة العربية في المرحلة الثانوية.
لم تكن هذه نهاية مسيرة التحدي الإنساني المؤمن الذي لا تحده حدود، ولا تقف في وجهه السدود، لقد بدأ تحدياً جديداً ضد نفسه، وضد مجتمعه الساكن، تحدِّياً من نوع آخر يحدوه طموح عقلي متوقِّد يرنو إلى التفوق، ووضع بصمته الخاصة على صفحات (( دفتر الثقافة ))، والعلم في منطقته، فسلك طريقاً شائكاً وشائقاً يدفع الآخرين إلى طرح علامات الاستفهام، ورسم شرائط الاستغراب!!
كان يفترض فيه لتحقيق هذا التحدي الجديد أن يعدَّ له عدته، ووسائل مكوِّناته، فشرع في تكوين (( مكتبة )) خاصة ))، لعدم وجود المكتبات التي تروي ظمأه، وتغذِّي جوعه، ولأنه بحكم إعاقته غير قادر على الحركة المطلوبة، فكان يأخذ إجازته إلى (( مصر )) ليقضيها متنقِّلاً بسيارة أجرةمن مكتبة ضخمة إلى أخرى أضخم يجمع أمهات الكتب من مراجع ومصادر في مختلف فروع الثقافة، واللغة ـ تخصصه ـ والمعارف الإنسانية، والعلوم الشرعية فكوَّن أكبر مكتبة خاصة في مدينته، إن لم تكن في المنطقة.. وسافر بالسيارة إلى سوريا، واليمن ليعود بكل جديد من الكتب، وصور بعض المخطوطات.
كان يقرأ، ويكتب في بيته من العصر حتى صلاة الفجر، فينام ثلاث، أو أربع ساعات، يذهب بعدها إلى عمله لتدريس (( اللغة العربية )) ثم يعود إلى أصدقائه الكتب، حيث يقرأ، ويكتب، ويضع تهميشاته، وتعليقاته، على حواشي الكتب / الأسفار.
حيت تزوره لا يكاد يبين من أكداس الكتب / الأسفار، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه لصغر حجمه المتكوَّر بين الكتب التي يضن بها على غيره، لهذا يحتفظ بمكتبته الكبيرة داخل عدة غرف بأبوابها الموصدة في منزله، هذه الغرف التي يحتفظ بمفاتيحها معه، كأنه يحتفظ، ويحافظ على كنز من الألماس، والأحجار الكريمة النادرة في التاريخ!!
لا يغشى المجالس الاجتماعية كثيراً عمومها، وخصوصها إلا نادراً، حياته في منزله، وبين كتبه يذكِّرك بقول ((علي عبدالعزيز الجرجاني)) (384 ـ 456 هـ) شعراً:
ما تطعَّمتُ لذة العيش حتى
صرتُ للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعز من العلم
فلم أبتغ سواه أنيسا
إنما الذل في مخالطة الناس
فدعهم، وعش عزيزاً رئيسا
وبدأت ((بوادر)) هذا الجهد المتواصل، و ((بشائر)) هذا الطموح الإنساني، و ((إفرازات)) القراءة المستمرة، تظهر من خلال أول كتاب صدر له عن (( نادي جازان الأدبي )) بعنوان (( الحميني.. الحلقة المفقودة في عربية الموشَّح الأندلسي ))..
وهو كتاب جديد في موضوعه، جريء في فكرته، لهذا حين نفدت طبعته الأولى، أعاد ((النادي)) طباعته مرة ثانية!!
ولمعلومية القارئ فإن ((الحميني)) نوع من الشعر اليمني ((العامي)) مثله كمثل الشعر (( النبطي )) أو (( الزجل )) مع تعدد أغراضه، وتنوع بحوره، وكمثال أتذكر بيتاً حفظته من الكتاب الذي ليس بين يدي الآن، فإذا كان فيه بعض الخلل في ((الوزن)) فالعتب على الذاكرة المعرضة للنسيان، يقول الشاعر مصِّوراً أحاسيسه لفراق مَنْ يحب:
واعويلي على فراق الحبيب على من يشتكي
يتشكَّى على والي البلد.. والدموع مثل وادي (( البرمكي )) (1)
وتأتي مبالغة هذا الشاعر العامي الذي يرى أن دموعه كمياه وادٍ من الأودية لفراق من يحب تأثراً بروح، أو ظاهرة (( المبالغة )) في الشعر العربي، ولهذا قالوا (( أعذب الشعر أكذبه ))، ومما أذكره في هذه المناسبة قول شاعر لا أعرف اسمه:
ولو تَفَلَتْ في البحر، والبحر مالح
لصالح أجاج البحر من ريقها عذبا
فلو عَثَرَ صديقنا العزيز الشاعر الدكتور (غازي القصيبي) وزير المياه (سابقاً)، لو عَثَرَ على حبيبة هذا الشاعر، أو مثلها لاستطاع أن يحل مشكلة ((المياه)) في بلادنا.. فالواحدة منهن أعظم، وأضخم من أكبر محطات تحلية المياه المالحة التي تكلِّف إنشاؤها عشرات الملايين من الريالات!!
وقد أثبت صديقنا (الرفاعي) ببراهين وحجج موضوعية تاريخية، وفنية، ولغوية أثر الشعر ((الحميني)) على ((الموشَّح الأندلسي)). تأكيداً لعربية الموشح نشأة، وامتداداً مدعماً وجهات نظره بعدد وافر من المصادر، والمراجع.
هذا الكتاب كان البداية، أو المنطلق لكتب طُبعت في القاهرة تُرجم أحدها إلى اللغة الإنجليزية. لأنها تعالج قضايا خطيرة لم يسبقه إليها أحد، من جانبي أعد الإقدام على تأليفها مغامرة مرتبطة بشجاعة أدبية لا تستكين للصعب، ولا تتراجع أمام الصعوبة، ولكي أدلِّل على ذلك سأذكر بعض عناوين هذه الكتب، وكثير من الكتب تُعرف من عناوينها، وليس كل الكتب:
* سليمان عليه الصلاة والسلام.. بين حقائق التلفزة، وعلم التقنية!!
* الجن.. بين إشارات القرآن الكريم.. وفيزياء العلم التطبيقي!!
* العين.. بين براهين القرآن، وعلم الفيزياء!!
* السِّحر.. يبن الأدلة القرآنية.. والكيمياء الفيزيائية!!
* الكومبيوتر.. بين الإعجاز القرآني، والعلم الحديث!!
وكما يلاحظ القارئ من عناوين هذه الكتب، مقارنة بتخصص صديقنا (الرفاعي) أنه أقتحم قضايا ليست بعيدة عن اختصاصه اللغوي فحسب، بل تجاوز بهذا التوجه إلى العلوم الشرعية، والعلوم الحديثة، مما يجعلها في المستقبل مثاراً للجدل والنقاش. بين مؤيدين، ومعارضين، وهذه طبيعة الأشياء الجديدة!!
وقد علمتُ أثناء زيارتي الأخيرة قبل عام إلى مدينة ((جيزان)) حيث أخبرني أنه يقوم حالياً بتأليف كتاب بعنوان ((سيدنا آدم.. وعلوم الاستنساخ))!! (2) .
إنه بهذا الأسلوب، ومن خلال هذا المسار لم يتحد صديقنا العزيز (الرفاعي) إعاقته، بل تحدَّى الصعب، وتحدَّي نفسه. مما يجعلني أدعوله من أعماق قلبي أن يقيه الله شر هذا التحدِّي، وأن يسدِّد خطاه، ويوفِّقه إلى طريق الحق، وأن يكون علمه خالصاً لوجه الله، وما ذلك على الله بعزيز (3) .
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :825  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.