شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أحمد محمد الشامي
الخزانة الثقافية المتنقلة!!
هو من (( اليمن ))، بلد الحضارات القديمة في (( الجزيرة العربية ))، حضارات (( سبأ ))، و (( حِمْيَرَ ))، (( مَعِيْن )).
وأرض (( الملكات العربيات ))، الشهيرات في التاريخ، تأتي على رؤوسهن الملكة (( بلقيس ))، شهرة، ومكاناً، ومكانة، وصاحبة أول (( برلمان ))، أو (( مجلس شورى )) عقدته في التاريخ حين جاءتها رسالة من سيدنا (( سليمان )) عليه السلام يدعوها فيها وقومها للدخول في الدين الإسلامي.
وقد وردت قصتها مع سيدنا سليمان عليه السلام (القرآن الكريم) من سورة (النمل) تصف قوة مملكتها وقومها، وعظمة (( عرشها )) الأعجوبة، على لسان (( الهدهد ))، حيث ورد في الآيتين (22، 23) (( وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدتُ امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم )).. وبقية قصتها، ودخولها الإسلام، يعرفها كل مسلم، مما لا مزيد على مزيد، كما وردت سورة كاملة في القران الكريم باسم (( سبأ )).
ومن الملكات الأخريات اللاتي وردت أسماؤهن في التاريخ (( السيدة أروى بنت أحمد ))، وفي بعض المصادر ورد اسم المملكة (( بلقيس الثانية )).. و (( شمس )) إن لم تخني الذاكرة!!
وبلاد (( اليمن )) إلى جانب ذلك أرض (( سد مأرب )) الذي عُرف كأول سد كبير في التاريخ، وأرض الأودية العديدة منها ((وادي مور))، الذي أطلق عليه (( الهمداني )) في كتابه المعروف (( صفة جزيرة العرب ))، ((ميزاب تهامة))، و ((الهمداني)) يعد من فطاحلة علماء اليمن لتعدد العلوم التي ألَّف فيها، وعنها، ويشتهر بكتابه القيِّم (الإكليل) حتى أن (( مركز الدراسات والبحوث اليمنية )) الذي يرأسه الصديق الأديب الشاعر الناقد المعروف الدكتور (عبد العزيز المقالح)، هذا المركز يصدر حوليه ثمينة في شكلها ومضمونها اسمها (الإكليل).
وكل حضارة من الحضارات التي قامت في ((اليمن)) خلَّفت كنوزاً من الآثار والمعالم المميزة، ذات الأثر التاريخي المهم، كما تركت بصماتها على خارطتها الجغرافية، ولقيت العناية الكبيرة من الرحَّالة، والآثاريين، والمنقِّبين، والمكتشفين في الماضي والحاضر.
وإذا كان (( هيرودوت )) المؤرخ اليوناني ـ كما أذكر ـ قد سماها (( باليمن السعيد )).. وهذا حالها في ماضي التاريخ، أما وضعها الحالي، وحالتها الراهنة، بما مرت به من حقب تاريخية مظلمة، فإنه ينطبق عليها ما قاله الشاعر:
إن أشقى الشعوب في الأرض شعبٌ
يومه ميِّتٌ، وماضيه حيٌ
لكن ما عناه الشاعر لا ينطبق على اليمن، وشعبه العربي المسلم الشقيق الكريم، انطباق ((المثلثين المتساوي الأضلاع)) لانه ما يزال، وسيظل سعيداً بموقعه ((الاستراتيجي)) الحسَّاس على خارطة الكرة العالمية، وبشعبه الحي المضياف، وبفكره الحضاري وموروثه التاريخي، وجوامعه الدينية، ومكتباته العامرة بالمخطوطات، وجمال مبانيه بنقوشها اللافتة للأنظار وبخاصة صنعاء، وحواضره العلمية مثل مدينة (( زبيد )) التي كانت مركزاً من مراكز الاشعاع في الجزيرة العربية، وغيرها من الحواضر.
واليمن اليوم بجامعاته الحديثة الثمان، وبطلائعه من العلماء، والقضاة، والأدباء، والشعراء، والنقاد، والمؤرخين ـ ومنهم صديقنا المتعدِّد العطاء، (( الأستاذ الدبلوماسي السيد (أحمد محمد الشامي) الذي أطلقنا عليه صفة (( الخزانة الثقافية المتنقلة ))، وهي صفة يستحقها عن جدارة، وقدرة واقتدار!!
واليمن إلى جانب ذلك يتميز بابداعاته الرائدة في فن (( الطرب والغناء )) الذي تجاوز بأعماله الجزيرة والخليج، وتأتي (( الأغنية الصنعانية )) ـ نسبة إلى عاصمة اليمن (( صنعاء )) الموغلة بتاريخها في مفاصل التاريخ القديم ـ هذه الأغنية الأصيلة الشجية في ألحانها، العذبة في كلماتها، حتى أن الصديق الدكتور (محمد عبده غانم) كانت رسالته للدكتوراه عن (( الأعنية الصنعانية ))، جاءت لتعكس ثراء الوجدان اليمني.
و ((اليمن اليوم)) يسعى حثيثاً لاستعادة مكانته التاريخية الحضارية بعد أن حقَّق وحدته ((شمالية، وجنوبية)) من خلال استغلال ثرواته الطبيعية والبشرية، من أجل التنمية الشاملة، والتقدم، وصناعة متغيرات جديدة ليكون في المستقبل وصفه المؤرخ اليوناني ((اليمن السعيد)) بعد أن خَلَعَ عباءة ((الماضي)) المتخلّف للدخول في دائرة ((المستقبل)) المشرق السعيد.
وصدقينا (( الشَّامي )) أديب، وشاعر، وقاضٍ، ولغوي، وسياسي، إذا تحدَّث لا تملك غير السماع إليه، وهو يتيامن، ويتياسر، ويتشامل، ويتجونب، يصعد وهاداً وجبالاً، ويهبط أودية وسهولاً، ويقف على الشواطئ، يقول شعراً ونثراً من خلال ((خزانته الثقافية)) التي لا تخونه، بل تحضره في كل المواقف والظروف المتباينات، وأنت تصغي إليه بكل حواسك دون ملل!!
يعشق مدينته ((صنعاء)) عشقاً صوفياً مسكوناً بالغيرة بحيث لو كان الأمر بيده لما سمح لأحد بالسكني فيها غير أبنائها، وهو عشق في منتهى الأنانية، ونزعة ((المناطقية))، أو ((الجهوية)) حسب تعبير أشقائنا في المغرب، وهذا ما أعلنه أمامي في إحدى زياراته إلى الرياض التي يحرص خلالها على الالتقاء بي كرماً ونبلاً منه، وكان إعلانه بحضور العلامة اليمني الصديق السيد (إبراهيم الوزير) الذي ردَّ عليه معترضاً، قائلاً له بما معناه ((أنت تصلح أن تكون شاعراً عاشقاً لا حاكماً))!!
لكنك تعذره حين تقرأ لشاعر صنعاني يتغنَّى بها بحيث فضَّلها على ((باريس، ولندن، وحضارة الرومان والأمريكي)) في قوله:
باريس دونك في الجمال ولندن
وحضارة الرومان والأمريكي
عرفتُ الصديق ((الشامي)) أول ما عرفته عن بُعد من خلال كتابه ((قصة الادب في اليمن))، ولحرصي أن يكون لليمن تمثيله على صفحات مجلة ((الفيصل)) فقد كتبتُ عرضاً تحليلياً للكتاب، قبل أن يقوم بطباعته للمرة الثانية عن طريق (( دار العمير للثقافة والنشر )) بالمملكة.
ثم تعارفنا في الرياض، فتحوَّلت المعرفة إلى صداقة تعمَّقت بمرور الأيام من خلال زياراته المكرورة، فهو رغم مكانته الأدبية، والرسمية، إلا أنه يتصف بالتواضع، والخلق الممزوج بروحه الصنعانية الظريفة، تختزن ذاكرته ثقافة عميقة متمكنة، وبخاصة في التراث العربي الإسلامي، وأدب اليمن، وتاريخه الذي شارك في جانب منه أيام الإمام (أحمد حميد الدين).
وهو في مسيرة حياته لم يصل إلى ما وصل إليه إلا من خلال معاناة، وسجن، وقيود في الزنزانات، فقد عاش يتيماً، وواكب مرحلتي ((الحكم الامامي والجمهوري)). شارك مع ثوار 1948م فاودع سجن (نافع) مع غيره من الثوار، كُبَّل بالقيود، وأُلهب جسمه بالسياط، وواجه الموت.
وفي مدينة (( عدن )) عانى من مرض شديد كاد يودي به إلى الموت، ذاق علقم الفقر، ومرارة الجوع، نام على الأرض، وعانى من العطش، وكان من الممكن أن يكون ناقماً على الحياة والأحياء مما مرَّ به من شراسة المعاناة، لكنه بإيمانه وتجلده استطاع أن يحافظ على توازنه النفسي، والذهني، والجسدي، ولا أذكر أنه شكالي في أي لقاء معه عما مرَّ به، وعاناه من جراح مبرحة!!
ورغم أنه دارس، وباحث، إلا أنه عُرف بصفته شاعراً أكثر من أي شيء آخر، وعن هذه ((الظاهرة الشعرية)) تحدث الأديب، والناقد اليمني (( قاسم بن علي الوزير )) في مقدمته لمجموعة شعره الأولى، في مجلدين، صدرا عن (دار منشورات العصر الحديث) مجموع أبياتها (16) ألف بيت.. قال الوزير:
((الشامي متعدد الجوانب الشخصية، وهذا أمر يجعل الحديث عنه صعباً، لقد عاش حياة حافلة، مليئة بالأحداث، ذات خطوط متداخلة، ومتناقضة، حتى لتشعر أنك أمام أكثر من شخص واحد!! بل أمام عدد من الأشخاص حين تتابع حياته العلمية ذات التعاريج الكثر، والدوي المنداح.
((بيد أنه من الحق أن خيطاً دقيقاً واضحاً يربط حياته كلها برباط يجعل منها ((وحدة)) متعددة الجوانب لشخصية مثيرة، لا أشخاصاً متناثرين، وذلك هو ((الشعر)) الذي يتألَّق به جانب الشاعر منه بين جوانبه جميعاً، ذلك الجانب الذي يقل عنده الخلاف، ويسهل عليه الاتفاق بين مريديه وخصومه على السواء)) انتهى.
فصديقنا ((الشامي)) من هذا المنطلق يتنفّس شعراً، وينام مع عصافير الشعر، يحلم شعراً، ويستيقظ على موسيقى الشعر، يفطر، ويتغذى، ويتعشى من بحور الشعر وقوافيه، يشرب من ((غناء)) جداول الشعر، ويضفر ذؤابات الليل، ويناغي القمر، ويغازل النجوم بقصائد الشعر، ينسج من قصص الحياة، وحكايات الأحياء خفقات القلوب الشاعرة!!
رضع الشعر في ريعان الشباب، فأصدر ديوانه البكر (( النفس الأول )) الذي قال في مقدمته بشجاعة أدبية:
((أعرف نفسي جيداً، فلن أخدعها، ولن أخدع الناس، فما أنا براض كل الرضا عن شعري، ولا أدري متى سأتمكن من إبداع الشعر الذي يرضيني.. في أعماقي شعر؛ لكنه جديد، جديد على عالم الشعر المعهود، والجملة البيانية التي في قلبي أسمى من كل تعبير، الحروف هذه ليس فيها حياة، والمعاني التي في قلبي فيها حياتي، بل وحيوات آخرين، والكلمة الكبرى ما برحت معشعشة في حنايا روحي، حروفها مشاعر مكفوفة، معناها تاريخ ألم طويل)) انتهى.
فهل جاء خلال أنساقه الشعرية (( المضمرة )) ، و (( غير المضمرة )) بشعر جديد، حداثي على عالم الشعر المعهود فعلاً، أم أنه كان يحلم ويتمنى؟
يجيبنا على هذا السؤال صديق الطرفين الناقد الدكتور (المقالح) في كتابه ((من البيت إلى القصيدة)) في قوله:
((وكانت قصيدته (( صلاة )) التي بدأت هكذا:
أنا لا أنظم شعراً
فلقد أنسيت أوزان القصيد
إنما أنثر أشواقاً ودمعا... الخ
كم تمنيت وأنا أقرأ فاتحة القصيدة أن لا ينظِّم الشعراء ما قيل لهم إنه شعر، وأن ينسوا وزن القصيدة لكي يكتبوا لنا مثل هذا الشعر الجميل الأصيل، وليت شاعرنا الشامي قد نسي الأوزان والقوافي، ولم يتذكرها حتى يظل يكتب مثل هذا الشعر الخارج من ((منطقة الإبداع))، لا من ((منطقة التقليد والمحاكاة والاجترار)) ص (36).
ثم يضيف ((المقالح)) قائلاً: لا شك أنه بهذه القصائد وأمثالها قد استقام عمود الشعر الجديد، وكاد ينطلق بالتجربة الجديدة في بلادنا دون تعثر أو إبطاء، لكن ما الذي حدث للشعر الجديد مع هذا الشاعر (الشامي)؟
لقد أدركته الشيخوخة قبل الأوان، وفقد هذه الصورة الجميلة، وهذه اللغة الشعرية الشفافة، والموقف الإنساني المتقدّم، لقد كان الشاعر ـ باختصار ـ يرسم بالكلمات، فأصبح يكتب بالكلمات، والفرق كبير بين التصوير والحديث، وإقامة التفعيلات، أو تحطيم وحداتها، لا يصنع الشعر، ولا يخلق الشعراء )) (المصدر السابق ص ص 37، 38).
ونعلِّق على ما قاله ((المقالح)) لعلنا نعزو هذه الشيخوخة المبكرة التي أدركت شاعرنا (الشامي) إلى غزارة، وكثرة شعره، بصورة ـ كما نعتقد ـ لا يعطي لنفسه الوقت اللازم للتجويد، والتجديد بحيث يكون قادراً على الرسم بالكلمات، لا الحديث بها!!
فإذا عرفنا أن مجموعته الشعرية الأولى تتألَّف من (16) ألف بيت، وهي تقع في مجلدين، بينا مجموعته الثانية تقع في ثلاثة مجلدات، طبعها الصديق الأستاذ (عبد المقصود خوجة) بجدة، هذا إلى جانب أنه يعد المجلد الرابع، إضافة إلى ذلك مسرحية شعرية بعنوان (( محاكمة في جنة الشعراء ))، و (( إلياذة صنعاء )) ، ومسرحية تتألف من (500) بيت بعنوان (( جحيم الغيرة )) فقدها، هذا غير ما مزَّقه، وأحرقه من أشعار النزق والمجون تائباً مستغفراً، وغيرها من القصائد التي أطلق عليها ((الموؤودات)) وهي قصائد سياسية، وقطع غزلية، وفلسفية، واجتماعية!!
لو عرفنا كل ذلك الكم من الشعر، وتصورنا عدد أبياته ـ مجرد تصور ـ لربما زادت عن (20) ألف بيت، وهو كم قياساًَ إلى عمره الذي قضاه في نظمها لم يسبقه شاعر من قبل، ولن يأتي غيره من بعد!!
ولعل صديقنا الشاعر (الشامي) يدرك ما قلناه، وما سبقنا إليه (المقالح) لأنه كتب في مقدمة مجموعته التي أصدرها الصديق (خوجة) قائلاً بحدة:
((وسوف يجد القراء والنقاد على اختلاف مشاعرهم ومشاربهم، ومداركهم وأهوائهم، ومبادئهم ومذاهبهم في هذا الديوان ما يعجب ومالا يعجب، وقد يرضي قوماً، ويغضب آخرين، شأنهم مع سائر كتبي ومؤلفاتي، ولكني دائماً لا أبالي بمن يغضبون، وحسبي من (كرام) عشيرتي حسباً وأدباً)) انتهى.
ونحن نقول لحبيبنا الصديق العزيز (الشامي) مع الأمل في إبعادنا عمن عنتهم كلمته الحادة إذا كنت لا تبالي بالقراء والنقاد فلمن تكتب إذن؟ والأدب ليس له علاقة بالعشيرة، ولا بالحسب، والنسب الذين يهمك رضاهم، وأنت تعرف أن الشعر من أصعب الأجناس والفنون الأدبية، فالشعر أما أن يكون أبداعاً وجديداً وتجديداً وفناً جميلاً، واما أن يكون نظماً، والنظم ليس شعراً بأي حال من الأحوال!!
وعندك (( أبو القاسم الشابي )) له ديوان واحد، يندر أن يجهله مثقف في الوطن العربي بعنوان (( أغاني الحياة ))، وقد لقي هذه المكانة رغم وفاته شاباً في بلده ((تونس)).
لقد استطاع شعره الذي كان يمثَّل مرحلته، إن لم يكن تجاوزها، استطاع أن يرتحل بشعره آلاف الأميال في أصقاع الوطن العربي الكبير في فترة قصيرة، تفتقر إلى وسائل المواصلات والاتصال الحديثة لأنه قال شعراً للحياة، والإنسان، ولم يضرب برؤوسهم الحيطان، فيهشَّمها!!
وآمل أن يمطر كلامي هذا على قلب ونفس صديقنا العزيز (الشامي) برداً وسلاماً ومودة، وعطر مشاعر، مع اشتياقنا لزياراته (( السندبادية )) .
أثناء طباعة هذا الكتاب تلقيت هاتفياً بانتقال أستاذنا (الشامي) إلى رحمة الله في مقر إقامته الدائمة بمدينة (كِنت) ببريطانيا في يوم 1/2/1426هـ الموافق 11/3/2005م تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، إنه على كل شيء قدير، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :910  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج