ليوبولد سنغور |
رئيس جمهورية، وشاعر ((الزَّنْوَجَة))!! |
حين تُذكر غابات
((
أفريقيا السوداء
))
تتداعى إلى الذاكرة مجموعة من الصور الغرائبية، وأطياف الخيال الملوَّنة، والدهشة الآسرة!!
|
فيها عوالم مجهولة، تعيش بعض شعوبها على
((
الفطرة
))
التي تتحكَّم في مظاهر، وظواهر حياتهم العامة، والخاصة، وعادات، وتقاليد وأعراف موروثة، ومتوارثة عبر مئات السنين، بحيث أصبحت بالتقادم
((
قوانين غير مكتوبة
))
لكنها
((
ملزمة
))
للجميع لا يخرج عنها أو عدم التقيد بالتزاماتها إلا شاذ، أو منحرف يستحق العقاب من سلطة الأسرة، أو القبيلة، أو العشيرة!!
|
وهذه ((القوانين غير المكتوبة)) تأخذ شرعيتها بالاتفاق، والإجماع، والتطبيق المستمر بحيث لا يتم تغيير بعضها إلا بالطريقة التي منحتها الشرعية. |
وهذا لا يعني أن هذه القوانين من ((العمومية)) بحيث تشمل كل القبائل والعشائر في كل البلدان الأفريقية، بل إن كل قبيلة، أو عشيرة تختلف في أعرافها القانونية عن غيرها باختلاف ظروفها، وأعراقها، ومواقعها الجغرافية!! |
وتتكوَّن هذه الأعراف القانونية من مجموعة من القواعد
((
الآمرة
))
الملزمة، والقواعد
((
المكملة
))
لإرادة الأفراد.
|
فلهم قواعدهم، وسننهم في الأحوال الشخصية (زواج، وطلاق، وحضانة أطفال.. الخ) إلى جانب طقوسهم الخاصة في الأفراح، والأحزان، وما شابهها، ولهم أعيادهم، ورقصاتهم المختلفة في السلم، والحرب التي ترمز إليها نوعيات دقَّات الطبول المثيرة لنفسياتهم فرحاً، أو قتالاً!! |
فلكل حالة إيقاعها الخاص المتميِّز، دقَّات طبول الحرب لها نغمها الصوتي الذي يختلف عن نغمة صوت دقَّات طبول المناسبات الفرائحية السلمية!! |
ولهم إلى جانب ذلك أغانيهم الخاصة، المصحوبة بالطبول والصرخات التعبيرية عن حالة الانسجام، والاندماج، حتى أن الغرب نقل عن بعضها بإضافة بعض الآلات الموسيقية إليها!! |
ولهم أسلحتهم التقليدية المتمثل بعضها ـ أو أغلبها ـ في الرماح، والأقواس، والسهام، والفؤوس، والمساح، والخناجر، وهم لا يستعملونها في حالة الحرب، فحسب، بل يستعملونها أيضاً في عملية صيد الهوام، والسِّباع، والنمور، والأسود، والذئاب، والغربان، والثعالب، التي تعيش في أحراش غاباتهم المتشابكة الأشجار. |
وهم خبراء في معرفة مواطئ أقدامهم أثناء سيرهم، تحاشياً للأحناش، والأفاعي، والزواحف السامة التي قد يذهب ضحيتها من تنزلق به قدمه أو ينحرف عن الطريق!! |
لهذا كان بعضهم أدلاَّء، ومرشدين لبعض الرحَّالة، والمكتشفين من
الغربيين إذ بدونهم يستحيل على الرحَّالة، أو المكتشف أن يحقِّق شيئاً من الأهداف التي قطع آلاف الأميال من أجلها، متجشماً مشاق الرحلة، ووعثاء السفر، ومتاعب التنقل. |
وحين تتذكَّر ((أفريقيا السوداء)) تتذكَّر البخور، وأنواع السحر، والشعوذة والاستطباب بكي النار، والعرب تقول ((آخر العلاج الكي))!! |
وبعض الغربيين يروون ـ حقيقة، أو كذباً، وتحقيراً ـ عن وجود قبيلة اسمها (الماوماو) للفرد منها ذيل في مؤخرته، تعيش على أكل لحوم البشر ـ وما آفة الأخبار إلا رواتها ـ!! |
والأفريقيون وسط غاباتهم يعيشون في بيوت من قش شجر الغابة، يجعلونها كالخيام، ويجلبون مياه شربهم من الينابيع، والأودية دائمة الجريان بفعل الأمطار الموسمية التي تنزل بغزارة، وبواسطتها تنتعش مزارعهم، فإذا تأخّرت الأمطار عن موعد نزولها، يمرون بمرحلة شديدة القسوة بسبب ((الجفاف)). الذي يجتاج أراضيهم!! |
أما طعامهم فيعتمدون فيه على لحوم ما يصطادونه، ومن خلال تربية المواشي، والدواجن، ومن خلال غلال ما يزرعونه. |
والخيمة التي يصنعونها من قش الأشجار يأوى إليها كل أفراد الأسرة في تآلف حميم يمثل فيه الأب المكانة ((السلطوية)) التي يحترمها الجميع، وللحب والعشق طقوسه الخاصة عندهم!! |
هذه ((البانوراما)) الشاملة لأفريقيا ((الغابات)) التي ربما استطردنا في شرحها، رغم أن بعضكم قرأ عنها، أو شاهد فيلماً ((هوليودياً)) يجسِّد ما شرحناه، دون أن نعرِّج على دور المستعمرين، والباحثين عن الثروة من خلال بيع وشراء بعض الأفارقة، هذا الدور الذي فضحته لنا بكل ما فيه من قسوة وشراسة، ومعاملة حيوانية، الرواية الذائعة الصيت والشهيرة
((
الجذور The Roots التي أُخرجت سينمائياً في فيلم ((هوليودي)) شاهده العالم. |
لكن لأفريقيا وجهاً آخر مشرقاً يتمثَّل في كفاح أبنائه ضد المستعمر الأوروبي الرباعي (فرنسا، وبريطانيا، وبلجيكا، والبرتغال) الذي أحتل كل منهم بلداناً من أفريقيا، واستثمر خيرات أرضها، وسعى جاداً إلى طمس هويتها تراثاً، وتجهيل أبنائها بلغاتهم الأصلية بترسيخ لغاته الأوروبية في المدارس. |
لهذا قام كفاح الأفارقة السود على محورين:
|
* (أحدهما) سياسي حصلوا به على الاستقلال التام، وحكم أنفسهم، بأنفسهم. |
* أما المحور (الثاني) فقد قام على إثبات هويتهم، تراثياً، وحضارياً، وثقافياً، فقطعوا شوطاً كبيراً في تحقيقه رغم أن بعض رموزهم تلقوا دراساتهم العليا في جامعات البلدان الأجنبية المستعمرة ـ بكسر الميم ـ ومنهم شخصية موضوعنا هذا الذي التقيت به في (باريس) لمدة نصف ساعة بمناسبة حضوره الحفل الكبير الذي أقاه عمدة باريس سابقاً، ورئيس جمهورية فرنسا حالياً جاك شيراك للأمير الشاعر ((
عبد الله الفيصل
)) بمناسبة منحه ((
الجائزة الدولية الكبرى للشعر الأجنبي
)). هذه الشخصية أقصد بها الشاعر السنغالي المعروف
((
ليوبولد سنغور
))
الذي كان رئيساً للسنغال، ثم تنازل بمحض إرادته عن الرئاسة مرشِّحاً
((
عبده ضيوف
))
المسلم خلفاً له.
|
كنتُ قد قرأتُ بعض شهره الذي تُرجم عن الفرنسية إلى العربية، لأنه تلقَّى تعليمه العالي في فرنسا، وكان الرئيس
((
ميتران
))
رئيس جمهورية فرنسا الراحل من زملائه في الدراسة ولهذا فهو يحتل في فرنسا مكانة رفيعة على المستويات الرسمية، والاجتماعية، لعاصمتهم الباهرة، المتميزة، المتفردة ((باريس)) عاصمة عواصم العالم دون مبالغة!! |
وهو يحرص أن يكتب شعره بالفرنسية لتعريف أهلها بمكانته، ومكانة أفريقيا الأدبية، ومن حسن المصادفات أن صديقي العزيز خريج ((السوربون)) الدكتور (فهد العرابي الحارثي) كان معنا خلال هذه النصف ساعة القصيرة ((زمناً))، الطويلة الثرية ((حواراً)) كان (الدكتور الحارثي) لسان حالي، وحاله، وشريك حواري، وحواره. |
سألته: ألا ترى أن تنازلك عن الرئاسة على ما يشتمل عليه من طموح إنساني يجعل الآخرين يتكالبون عليه، ويحتربون من أجله، لتكون صورهم في كل مكان، وتردِّد الأناشيد أسماءهم، ويسيرون في مواكب ضخمة تحيط بها الحراسات ألا ترى فيه نوعاً من المثالية؟ |
كان يسمع، ولا يدري ماذا أقول، لكن الصديق (الحارثي) يبدو أنه أختصر السؤال، وهذا لم يرق للشاعر ((سنغور)) فرد عليه باقتضاب مما دفع الصديق (الحارثي) أن يمون عليَّ قائلا لي: الله لا يعطيك العافية يا علوي.. لقد أختصرتُ السؤال حتى لا أثقل على الرجل، لكن تواضعه جعله يصر على سماع السؤال كاملاً، لأنه أدرك من سؤالك الطويل، وسؤالي المقتضب معه أنني لم أترجم السؤال كاملاً!! |
رددتُ على صديقي (الحارثي) بأسلوبه: أنت ملقوف!! ومترجم غير أمين!! من أعطاك الحق في إختصار سؤالي؟ |
ثم توجَّه بحديثه إلى الشاعر الرئيس ليطرح السؤال كاملاً، فإذا به يمد يده ليصافحني، كأنه يعبِّر عن ارتياحه للسؤال، ثم وجَّه جوابه للصديق الحارثي الذي ترجمه. |
شكراً على سؤالك الذي كنتُ أتوقعه، و ((
المظاهر
)) التي أشرت إليها ربما كانت من أبرز الأسباب التي كانت عكس تركيبتي النفسية والفكرية، لأني صاحب ((قضية)) وصاحب القضية ليس من اهتمامه مثل هذه ((المظاهر)) التي تزول مع الزمن ومع صاحبها، لكن القضية تبقى وتخلد، كما يبقى ويخلد صاحبها، أنا لا ألتفت إلى
((
الأمس
))
ولا يشغلني
((
الحاضر
))
إلا في إطار القضية، لكنني أفكِّر كثيراً في ((الغد)) حيث تسكن قضيتي، ومعذرة إذا لم أجب على سؤالك بالمباشرة المطلوبة، ليس لأني سياسي وظيفته التلاعب بالألفاظ، وإنما لأنني شاعر!! |
إذن ما قضيتك؟ سألت باختصار توفيراً للوقت لأننا كنا وقوفاً ولأسلم من لسان صديقي ((الحارثي)) الذي وجَّه هذا السؤال للرئيس السنغالي الأسبق. وشاعر الأمس، واليوم، والغد، فأجاب: |
قضيتي لها جانبان: أحدهما (سياسي)، والآخر (فكري)، انتهيت من الجانب السياسي بعد أن أصُبَحَتْ بلدي مستقلة، لها حكومتها الوطنية، وعضو في الأمم المتحدة. |
أما الجانب الفكري، فهو يشغلني الآن، وأعمل عليه، وتركتُ الرئاسة من أجله، أنا اليوم سلطان نفسي، ووقتي أقضيه في القراءة والكتابة، وبصورة خاصة
((
الشعر
))
الذي لا يتقوقع في إطار
((
السنغال
))
إنني أطلق عليه مصطلح
((
الزَّنْوَجَة
))
بحيث يشمل أفريقيا كلها!!
|
ورغم أنني أكتبُ بالفرنسية، إلا أنني لا أكتب شعراً فرنسياً، أو سنغالياً، بل أكتبُ شعراً ((زَنْجوِياً)) افريقياً، ولي نشاطات أدبية، فنحن نصدر مجلة ((نصف شهرية)) باللغتين ((الفرنسية)).. و ((الإنجليزية)) لنشر التراث الأفريقي، والتعريف به في الأوساط الغربية، كما قمتُ بنشر عدد من الدراسات، والمختارات للشعر والشعراء في أفريقيا ـ جنوب الصحراء ـ قدَّم لها صديقي الفيلسوف الأديب الفرنسي (سارتر) المعروف لديكم وقد زار مصر، ولا أعلم فيما إذا تُرجمت هذه المختارات الشعرية الافريقية إلى لغتكم ((العربية)) التي أعدها لغة أدب، وعلم، وفن، وحضارة إنسانية عالمية متكاملة باهرة. |
حين وصل في حديثه عند هذه النقطة، وجدتها فرصة لطرح هذا السؤال عليه: |
ـ على ذكر العربية، والحضارة العربية الإسلامية، ما موقعها على خارطة قراءتك؟
|
ابتسم فظهرت أسنانه البيضاء كقلبه الأبيض، وقال: |
كنتُ أتوقع مثل هذا السؤال عند إشارتي إلى لغتكم، وحضارتكم، وأجيبكم بصدق أنني قرأت عن دور اللغة العربية أدباً، وعلماً، وحضارةً، رغم تقصيركم الواضح في عملية ((الترجمة)) إلى اللغات الأخرى، إبداعاً جديداً، وتراثاً!! لا تنتظروا الآخرين يقومون بذلك، لأنهم لن يقوموا به، وإذا قاموا بشيء فهو
((
محدود وانتقائي
))!! ولم يتوقف دوري عند القراءة ـ رغم ضآلة المحصول ـ وإعجابي بما قرأت، وبخاصة الدين الإسلامي حيث توجد أهم قبائل السنغال، وعدد أفرادها يقارب المليون يشكلون حوالي ثلث السكان، هذه القبيلة هي
((
الولوف
))
كلهم مسلمون، مما يجعل للإسلام مكانه، ومكانته، ولا أدري ماذا قدَّمتم لهم من منطلق أن ((الإسلام)) جاء من بلادكم، ونبي الإسلام ((محمد)) عربي؟ |
ثم قال: عموماً لا أريد إحراجكم بسؤالي، وأجيب عن سؤالكم أنني حين كنت رئيساً لجمهورية السنغال، قرَّرت تدريس
((
اللغة العربية
))
في
((
المرحلة الابتدائية
))، كما أنني حين تنازلت عن الرئاسة رشَّحتُ خلفاً لي مسلماً هو (عبده ضيوف) رغم أنني لست مسلماً!! |
وتوقفنا عن الحوار حينما تحرَّك موكب الحفل للخروج من مبنى ((بلدية باريس)) التاريخي. |
شعرتُ من كلامي معه أنه يتحدث بهدوء، لا يستعجل طرح رؤاه، وأن رأسه مثقل بهموم الثقافات الإنسانية، لا الأفريقية، وحدها، وأنه لا يشعر بمركب نقص أنه أفريقي أسود أمام الأبيض!! وأنه رغم قصر قامته تحس وهو يتحدَّث إليك أنك أمام عملاق، عركته الحياة، وعركها، وأنه لم يعتمد على شهاداته ومنصبه الكبير في وطنه، بل قرأ بكثافة وثقَّف نفسه ثقافة ذاتية منتظمة، لأنه أدرك مبكراً أن الإنسان ـ أي إنسان ـ ليس بمنصبه، ولا بوجاهته الاجتماعية، ولكن بعقله، وفكره، وتفكيره، وثقافته التي لا تعرف العنصريات والعرقيات، والجنسيات، والطائفيات، وهو ما يؤمن به. |
لكن كل هذه المعطيات لم تجعله يتخلى عن ((زَنْوَجَتْه))، وتراث أمته الأفريقية، لأنها ((هويته الخصوصية)) بين مجموعة ((الهويات الإنسانية)) الأخرى مع احتفاظه بإحترام ((الهوية المشتركة))، وقناعته ((بالهموم والمصالح المشتركة)) لكل الشعوب، أبيضها، وأسودها، وأصفرها، وأن هذه الشعوب في مقدورها أن تعيش مجتمعاً إنسانياً بندادة يسوده السلام، وتذوب فيه الفوارق، وتختفي المجاعات!! |
ولأنني شعرتُ أن الموضوع تنقصه بعض النقاط المهمة التي أثارها في حديثه العابر القصير، رأيتُ أن من واجبي نحو القارئ إكماله من خلال مكتبتي المنزلية المتواضعة، وبخاصة في مجال الأدب والشعر الأفريقي الذي يعد صاحبنا أحد رموزه، فبحثتُ طويلاً لكن بحثي لم يسعفني. |
وحين قلَّبتٌ في ((
الدوريات
))، وجدتُ ضالتي في مجلة
((
الفيصل
)) وبالذات في عددها رقم (26) الصادر في شهر شعبان 1399 هـ الموافق يوليو 1979م حيث عرض الصديق الناقد الراحل الدكتور (علي شلس) رحمه الله كتاب ((
شعر حديث من أفريقيا
)) صادر عن ((
المكتبة الأفريقية
))
التي تصدرها
((
بنجوين
))
الإنجليزية، والكتاب يحتوي على مختارات أعدَّها وقدَّم لها كل من ((
جيرالدمور، وأوللي باير
)).. وذلك في باب المجلة (رحلة في كتاب) الذي تقدم من خلاله شهرياً كتاباً صادراً بلغة أجنبية، والكتاب يضم إلى جانب المقدمة منتخبات من أشعار (29) شاعراً من (مدغشقر، السنغال، جامبيا، غانا، نيجيريا، الكونغو البلجيكي، الكونغو الفرنسي، جزر كاب فيرد، ساوتوميه، أنجولا، أفريقيا الجنوبية، نياسلاند، كينيا، موزمبيق).
|
وسنورد للقارئ المعلومات التي نرى مناسبتها، وموضوعنا هذا استيفاء له، وتوثيقاً، وخدمة للقارئ المثقف. |
اسم المجلة التي أشار إليها (سنغور) في حديثه هي (Presence A fricaine) كانت تصدر شهرياً في باريس باللغتين الفرنسية والإنجليزية منذ عام 1947م، ثم تحوَّلت إلى نصف شهرية، وكان ((سنغور)) من أبرز كُتَّابها. |
الكتاب الذي أصدره ((سنغور)) كان يمثَّل مختارات شهرية، قدَّم لها كما أشرنا ((جان بول سارتر)) صديقه، بعنوان (منتخب للشعر الزنجي والمالاجاشي الجديد). |
لم يكن الأفريقيون يعملون لوحدهم في نشر الأدب والتراث الأفريقي، بل كان غيرهم ممن سمَّاهم الدكتور ((شلش)) بـ ((
المستفرقين الأوربيين
)) مثل ((
جيرالدمور الإنجليزي الذي كان عضواً بهيئة تحرير مجلة
((
أورفيوس الأسود
))، والذي كتب عدداً من الدراسات عن الأدب الأفريقي، أهمها كتاب (سبعة أدباء من أفريقيا) الصادر عام 1962م، ومثل ((
أوللي باير
))
الألماني، وكان عضواً بهيئة تحرير المجلة التي أشرنا إليها، وله ثلاثة كتب في الشعر والتراث الأفريقي هي ((
شعر من يوريا
)) عام 1962م، و ((
الفن في نيجيريا
)) عام 1960م، و ((
النحت في أفريقيا الغربية
)) عام 1962م. |
مرَّ علينا في حوارنا مع
((
سنغور
))
تركيزه على مصطلح
((
الزَّنْوجَة
))
، مما يدعونا إلى معرفة نشأة هذا المصطلح، أو
((
النَّزْعَة
))
التي نمت نتيجة إصرار الإستعمار على أن لا يشعر الأفريقي أنه مخلوق
((
أسود
))
!!
|
((فكل ما كان يبتغيه المستعمر هو أن ينسى الأفريقي المدمج ((مع البيض)) أنه أسود، وما كان يقابل بالرفض الكلي المطلق بحيث ((أحدث رد فعل عنيف في مجال الفكر، والشعر على وجه التخصيص فيما عُرِف بنزعة ((الزَّنْوَجَةْ)) التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى في كتابات الشعراء والمفكِّرين الأفريقين، وفي هذا الصدد قال
((
إيميه سيزير
((
شاعر جزر
((
المارتينيك
))
(إن السواد ليس غياباً، وإنما هو رفض وإنكار)، فوجدت هذه ((النزعة)) أرضاً خصبة في ((باريس)) لدى جماعات المثقفين الأفريقين الذين رحلوا للتزود بالثقافة والعلم، وطغت على كثير من شعر ((سنغور)) صاحبنا، ومحور موضوعنا هذا، و ((
دافيد
))، و ((
بيراجوديوب
))
وشعراء
((
الكنغو
))، وغيرهم، ممن يفكِّرون، ويكتبون بالفرنسية)). |
ويهمنا هنا موقف صاحبنا ((سنغور)) من مصطلح أو نزعة ((الزَّنْوَجَة)) التي قال عنها ((
إنها تنحصر في إرادة الوحدة
((
الزِّنْجِيِّة
))
الروحية، وتجميع الزنوج تحت راية المطلب الجماعي، لاسترداد كرامتهم الإنسانية عن طريق التسلح بمفهوم الحضارة العالمية ذات الأساس الإنساني الشامل، ونبذ الفكرة العنصرية
)). |
ولكن، السؤال الذي لم نستطع سؤاله لضيق الوقت، مع رحابة صدره لأنه لم يمكث معنا طويلاً لاستكمال تعريف نزعة ((الزَّنْوَجَة)) هو متى ظهرت ليس على مستوى ((الفكرة)) أو ((النَّزْعَة))، أو ((المصطلح)) وإنما على مستوى ((الفعل))، و ((الريادة))؟ |
وعلى هذا السؤال يجيبنا الصديق الدكتور ((شلش)) من خلال الكتاب الذي ذكرناه قائلاً: ((
لقد شهدت باريس في العقد الرابع من القرن العشرين نفراً من المثقفين الأفريقين السود، كان على رأسهم
((
إيميه سيزير
))
، و
((
ليون داماس
))
، و
((
ليوبولد سنغور
))
ـ صاحبنا ـ، وهم الثلاثي الموهوب الذي حمل على كتفيه رسالة الشعر، و
((
الزَّنْوَجَة
))، وكان ((ليون داماس)) شاعر غينيا الفرنسية أسبقهم إلى الظهور عام 1937م بديوانه ((
الأصباغ
)) الذي أحرقه الفرنسيون فيما بعد، ربما لأنه أشتمل على القصيدة التي كان يندِّد فيها بالاستعمار الفرنسي، الذي عَدَّ مجيئه إلى أفريقيا من أجل نهب ثراوتها، ويعتز فيها بزنجيته التي كانت تضايق الفرنسيين الذين حرصوا على دمجهم، ونسيان أنهم زنوج سود، ونص هذه القصيدة حسب ترجمتها: |
أفلحت كراهيتي على هامش الثقافة!!
|
هامش النظريات، هامش الكلام الفارغ
|
الذي حشوني به منذ ميلادي
|
حتى بالرغم من أن كل ما فيَّ
|
كان يطمح أن يكون
((
زنجياً
))
|
على حين كانوا ينهبون وطني أفريقيا!!
|
|
ثم ظهر ((سيزير)) بعد عامين، وتبنَّى الدعوة إلى ((الزَّنْوَجَة))، وعُدَّ ((أمير)) شعرائها، أما ((سنغور)) صاحبنا ـ فقد ظهر في تلك الأثناء ((بكفاية بيانية تبعث الشجن في نفس القارئ بدلاً من أن تصدمه))!! ربما كان مرد ذلك تلك الروح الحضارية الشفَّافة التي يتحلَّى بها صاحبنا، كما لمسنا ذلك من حوارنا معه عند لقائنا القصير به. |
لكن صاحبنا ((سنغور)) رغم ذلك جاء عنه في كتاب ((شعر حديث.. من أفريقيا)) في أسلوبه الشعري ـ رغم اعتزازه بزنوجته ـ ميل إلى ما قاله لنا إلى ((
الحضارة الإنسانية العالمية
))، التي تندمج فيها كل الحضارات الإنسانية في ((بوتقة)) محورها الإنسان، وسعادة الإنسان في سواسية، حيث لا سيد، ولا مسود!! وهذا لا يحول دون الحفاظ على ((الخصوصيات، و ((الهويات)) لكل شعب من الشعوب، فالحضارة الإنسانية التي يدعو إليها هي ((حضارة التلاقح، والتزاوج، أو التمازج في المعطيات الحضارية، على اختلافها، وتعددها، وتنوعها، على شرط عدم الذوبان بحيث يلتهم الكبير الصغير. |
قلنا جاء في الكتاب السالف الذكر الذي قدَّم له كل من ((جيرالدمور))، و ((أوللي ماير)) اللذين قالا: وفي شعر سنغور نلتقي بالزَّنْوَجَة بأوسع معانيها ـ الخصوصية والهوية الذاتية ـ، إذ نجد طابع التخريب الذي لحق بأفريقيا القديمة وثقافتها على يدي أوروبا البيضاء ـ وهو ما يحز في نفسه، ويعتز بزنوجته ـ وجفاف الغرب الحديث، وحاجته إلى الصفات الأفريقية المكمَّلة، وجمال المرأة الأفريقية المزهو بنفسه، والحب والفهم العميقين لكل ما هو عظيم وباق من مآثر الغرب، بل نجد أيضاً حاجة الشاعر نفسه إلى أن يعيش في كلتا الثقافتين، أو ما عناه
((
سنغور
))
حين طلب أن يكون
((
مزيجاً ثقافياً مولداً
))
.
|
كأن ((سنغور)) صاحبنا بعبارته ((
المزيج الثقافي المولد
)) يعني أن الثقافات الإنسانية المختلفة، والمتعدِّدة، والمتنوعة في الإمكان أن تتمازج في تناسج، وتناغم ينتج عنها ((ثقافة إنسانية مشتركة))، أو كما يسميها ((مولدة))!! منطلقة في ذلك من أن ثقافات الشعوب هي في محصلتها، ونتائجها ((إرث إنساني)) لجميع شعوب الكرة الأرضية، غربيها، وأفريقيها، وأسيويها، الخ، هدفها الأول والأخير ((الإنسان، والحياة)).. أو بمعنى أدق ((الإنسان، والكون)).. أو كأنه يرى أنه من خلال هذا ((المزيج الثقافي)) يمكن إلغاء الفواصل المصطنعة)).. ومد ((جسور التفاهم الإنساني)).. فهل يدعو ((سنغور)) من خلال مبدأ ((المزيج الثقافي)) أنه يحصر ((العولمة))، أو تحول العالم إلى ((قرية كونية)) كما يرى عالم الاجتماع الكندي ((مارشال ماكلوهان)) في حدود، أو إطار ما أسماه ((بالمزيج الثقافي))؟ وما تبريراته، ومسوغاته لهذا المبدأ؟ |
سؤال يظل معلقاً لأن الفواصل ((الزمانية)) و ((المكانية)) بين صاحبنا ((ليوبولد سنغور)) الرئيس الشاعر، وبيننا واسعة، وقد مرَّ على لقائنا به أكثر من (15) عاماً، ونظراً لتعدد الدول المستعمرة لأفريقيا كما أشرنا فقد كان الأدباء والشعراء الأفارقة يكتبون بلغات هذه البلدان، ولهذا اختلفت الآراء في نزعة ((الزَّنْوَجَة)) التي يصر عليها الأفارقة. |
نختتم هذه الموضوع عن ((ليوبولد سنغور)) بإيراد نماذج من الشعر الأفريقي لبعض شعراء ((الزَّنْوَجَة)) لتعريف القارئ من ناحية، وللاستمتاع بما فيه من جماليات، وإرتباطه بالبيئة إمعاناً في الانتماء إلى أرضهم الأفريقية، وتراثها الغني، وسنبدأ هذا النماذج بقصيدة لضيف هذا الموضوع
((
سنغور
))
وأسمها
((
الطوطم
))
وهو من معتقدات أفريقيا:
|
لابد أن أخفيه في أعمق أعماق شراييني
|
سلفي ذاك الذي ضرب مخبأه العاصف
|
بالبرق والرعد
|
حمامي حماي الحيوان. |
لابد أن أخفيه
|
حتى لا أحطم حدود العار!!
|
فهو دمي المخلص الذي يطالبني بالوفاء
|
إذ يحمي زهوي العاري من نفسي
|
ومن تقريع الأجناس
|
الأسعد حظاً
|
|
وهذه قصيدة أخرى للشاعر الكيني، الذي يكتب بالإنجليزية (جون مبيتي) وعنوانها (ناطحات سحاب نيويورك): |
كانت أشعة الشمس الصفراء الواهنة المبعثرة
|
تتسلل إلى الأنسجة الغائمة
|
فتغطِّيها بطبقة من الشمع الشفَّاف
|
حتى إذا أنهت الأشعة المتعرجة النهار
|
سعلت مداخن نيويورك
|
المعجونة بالدخان
|
وهي تنظر إلى أسفل بأبراج محنيَّة
|
ثم تقيَّأت دموعاً حزينة
|
من الدخان الأسود!!
|
|
وأخيراً نورد القصيدة الثالثة للشاعر (أجوينا لدوفونيسكا) من جزر (الكاب فيرد) وهو شاعر يكتب بالبرتغالية، وعنوانها (حانة... على البحر): |
وميض بعيد
|
وفناء يبصق الضوء
|
في وجه الليل الأسود
|
كل شيء ملحي ومشتاق
|
والرياح، ومن خلفها الأمواج
|
تهز الحانة هزاً
|
والحانة سفينة راسية
|
وفوق الهواء تتصاعد ألوان اليأس
|
على هيئة أورام كثيفة من الدخان
|
أوه!! إن البَحَّار ظمآن. |
والوشم المنقوش على الجلد
|
ينبئ عن الألم والتظاهر بالشجاعة
|
اللذين تنضج بهما المغامرات في المواني
|
رجال من كل جنس
|
رجال بلا وطن، أو إسم
|
مجرد رجال بحر
|
صوتهم ملح وريح
|
وعيونهم التي لا يغشاهم السحاب
|
تنعكس عليها السفن
|
السأم والحنين يظهران
|
تلوكهما غلايين قديمة معمِّرة
|
يظهران ثم يختفيان
|
مترنحين مع الضجر
|
أوراق اللعب والموائد والمقاعد
|
الزجاجات، والأكواب، والزجاجات
|
ووجه مدير الحانة
|
يثير قديم المعارك والثارات
|
وكل شيء حافل بالنوم
|
وكل شيء حافل بالبحر!!
|
|
كان في الإمكان أن نكتفي بإيراد قصيدة الشاعر ((ليوبولد سنغور)) بصفته قطب موضوعنا، لكن لأن أفريقيا استعمرتها أكثر من دول غربية كما ذكرنا، مما جعل شعراء كل بلد أفريقي يكتب بلغة ((المستعمر)) ـ بكسر الميم ـ وللغة أثرها على الشعر، لهذا أوردنا الثلاث قصائد، الأولى كُتبت بالفرنسية، والثانية بالإنجليزية، والأخيرة بالبرتغالية، والقصائد الثلاث على اختلاف اللغات التي كُتبت بها تعكس سمات الشعر الحديث في أفريقيا، وللقارئ أن يقتحم أعماق هذه القصائد لتلمس ما يجمعها، وما يفرِّقها، وإن كان كل شعراء أفريقيا يرفعون صوت ((شعر الزَّنْوَجَة)) لتأكيد ((الهوية الذاتية))، وتعشق عذوبة ((الاستقلال)) بعد مرارة ((الاستعمار)) الأجنبي، وتشوقاً للحرية الوطنية، بعد الاستلاب الخارجي!! |
* * * |
|