شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبد الله الفيصل.. شاعر الشك والوزارتين !!
أميرٌ في مجتمعه، وأميرٌ في الشِّعر، ومحروم في المشاعر!!
تولَّى سنام وزارتين في عهد جده الملك الموُحدِّ المؤسِّس (عبد العزيز آل سعود) طيَّب الله ثراه، هما: (وزارة الداخلية، ووزارة الصحة) في آن معاً.
تفتحت شاعريته أول ما تفتَّحت على (( الشعر النَّبطي )) باللهجة المحكية، أو كما سمَّاه (( إبن خلدون )) بمصطلح (( الشعر البدوي ))، أو كما هو سائد اليوم باسم (( الشعر الشعبي )).
وكان لهذا الفن من الشعر دولته، ورواده، أمثال (ابن لعبون، والقاضي، والخلاوي، والهزَّاني، ومحمد السديري.. وغيرهم) الذين رصدوا من خلال قصائدهم، أحداثاً، ومواقع تاريخية، حين كانت (( الأميَّة )) تلقي بردائها الأسود القائم ليس على المملكة فحسب، بل على الجزيرة العربية قاطبة، قبل إنشاء المدارس، والمعاهد، والكليات والجامعات.
لهذا وضع أولئك الشعراء بذور التاريخ المعاصر، لما لشعرهم من مصادر لها قيمتها التاريخية، والاجتماعية، والجغرافية، والعاطفية، لمن أراد التأرخة لتلك الحقب (( الزمكانية )) القديمة.
كانوا رواة يمثلون ((شهود عصورهم)) عاشوا في الخيام، والصحراء، و (( بيوت الشَّعَرْ ))، واستعملوا الجمال ((سفنهم في الصحراء الشاسعة))، كما استعملوا الخيل، والسيف رمزاً للفروسية، والقتال، وكان مأكلهم ومشربهم يتمثل في (( الحليب، والتمر، والماء، والقهوة العربية بعد أن عرفوا (( البن )).
كل هذا قبل أن تدخل المملكة العصر الحديث، وتتصل بغيرها من الشعوب فتظهر أنواع من الأطعمة مثل (( الهمبورجر ))، و (( البسطرمة )) و (( الكنتاكي ))، وأنواع الأسماك، و (( الطعمية ))، و (( الكافيار ))، والوجبات المعلَّبة المستوردة!!
مرة ـ كما أخبرني بنفسه ـ إن والده ((الملك فيصل))، وكان من رواد الشعر ((النَّبطي الحِكْمي ـ من الحكمة)) سأله قائلاً بما معناه: سمعت يا عبد الله أنك تقول ((الشعر النبطي))، فإذا صح ما سمعته، فادخل الآن.. وأشار إلى غرفة ملتصقه بالمجلس، وإئتني بقصيدة تقولها الآن!!
أراد الملك فيصل أن يختبر ابنه ((عبد الله)) أكبر أبنائه، فلم يكن أمام الابن الشاب إلاَّ الانصياع لأمر والده.
ومثله كمثل أي شاب في إهابه ((التحدي))، وإثبات شاعريته أمام والده ((الأستاذ)) قبل التحدي ((الصعب)) والاختبار ((الأصعب))، رغم مشاعره المرتكبة فكتب قصيدة، وأعطاها لوالده الذي قال له بعد قراءتها: وفقك الله.. وأنصحك بالارتفاع بشعرك عن الفحش!!
وتمر الأيام ((مر السحاب لاريث ولا عجل))، فإذا بالشاعر النبطي الشاب (عبد الله الفيصل) ينعطف بمساره ليثقِّف نفسه ثقافة ذاتية.. ويقرأ كثيراً في ((ديوان العرب)) في مختلف مراحله ليهجر الشعر النبطي الاقليمي المحدود، وبعد أن تشربت ذاكرته بجمال الشعر الفصيح، وعذوبة صوره، وصلصة قوافيه، وغرائبية تشبيهاته البلاغية.
بدأ محاولاته الشعرية الأولى، لكنه لم ينشرها.. وحين استوى عوده، واشتد ساعده، وبعد أن لقي تشجيع من حوله ممن يرتادون صالونه من الشعراء البارزين كل ليلة.. قطع حبل هيبة الخوف والتردد، وبدأ في نشر قصائد في الصحف والمجلات، فذاع اسمه داخل مجتمعه المحدود. وأصدر أول ديوان له بعنوان (( من وحي الحرمان )) دون أن يضع اسمه عليه حتى لا يكون سبباً في رواجه بين القراء، بل اختار اسماً مستعاراً له وقعه على نفسيته كما سنشير إلى ذلك فيما بعد، وهو اسم (( محروم )).
لكن حين اختارت فنَّانة العرب، ذائعة الصيت (( أم كلثوم )) قصيدة من ديوانه، وغيَّرت عنوانها إلى (( ثورة الشك ))، وشدت بها بصوتها النادر فشنَّفت مسامع أقطار الوطن العربي، شرقيه، وغربيه، شماليه، وجنوبيه، عَرَفَ العرب شاعراً جديداً لم يسمعوا به من قبل من الجزيرة العربية، فتلألأ نجمه في فضاء الشعر العربي!!
ثم غنَّى له المطرب العربي الشهير، حلم قلوب العذارى، العندليب الأسمر (( عبد الحليم حافظ )) قصيدة (( سمراء )) العذبة، فتغلغل اسم الشاعر في وجدان النفس العربية التي يُطربها الطرب (( ومن لم يطربه الطرب فليس من العرب )) كما يقال.. لا غياً عبارة (( بدأ الشعر بأمير، وانتهى بأمير ))، من دفتر الذاكرة العربية الموروثة!!
وهذا يعني أن بوابة، (( إمارة الشعر )) ، ما تزال ـ وستظل مفتوحة لكثير من أمراء الشعر القادمين، وأن قمة الشعر تتسع للكثير، ولن يكون (( أحمد شوقي )) الذي بايعه عدد من الشعراء، والأدباء، في لبنان بـ (( إمارة الشعر )) آخر امراء الشعر!!
وفي فضاء الشعر العربي، اليوم، وغداً وبعد غد عشرات الأسماء من أمراء الشعر، لأن الأرض العربية، أرض (( ولود )) ، ولم، ولن تعقم!!
وأخيراً، وليس آخراً غنىَّ له ((عبد الحليم حافظ)) موشوحته ((يا مالكاً قلبي)) كما غنَّت له (أم كلثوم) قصيدته (من أجل عينيك).
في أحد مواسم الحج الذي من عادة ((وزارة الإعلام)) في المملكة دعوة وفود إعلامية من أجل تغطية مناسك الحج من كل الأقطار العربية، إلى جانب وفود إعلامية إسلامية من آسيا، وأفريقيا، لهذا تستنهض الوزارة أكبر قدر ممكن من طاقاتها البشرية العاملة في كل أقسام الوزارة.
ولما كنتُ يومها موظفًا بالوزارة، فقد كلِّفت بمرافقة الوفد ((العُماني)) الشقيق الذي طلب مني إجراء حوار ((إذاعي))، مع الأمير الشاعر ((عبد الله الفيصل)) بعد أن عرف عن علاقتي الشخصية بالأمير الشاعر، فاتصلت بسموه هاتفيًا، فرحَّب بكل ارتياح، وحين سألته عما إذا كانت له تحفظات في بعض القضايا، أو بعض الأسئلة التي لا يرغب في الإجابة عليها؟
ردَّ عليَّ كأنه يؤنِّبني قائلاً: اسمع يا علوي، أنا لا أحب أحداً يمارس عليَّ وصاية، أو رقابة، أو أن ينوب أحد عني في تحديد الأسئلة الموجهة إليَّ، حتى لو كانت وزارة الإعلام نفسها.. فأنا أمتلك حريتي الفكرية، وأرحِّب بأي سؤال، فلا تشعر الوفد (( العُماني )) الشقيق بأن هناك من يمارس وصاية، أو رقابة على تفكيري!!
وسأرد على كل سؤال يطرحه الوفد بصدق، وتجرد، وشجاعة!!
وأردف قائلاً: إنني كمواطن سعودي قبل أن أكون أميراً لا أرضى أن يؤخذ عن بلادي، ورموز بلادي، أي صورة مشينة، وأنا كشاعر عربي متفتح حقيقة، وليس شعاراً يرفعه الذين يتعاملون بالشعارات، الجوفاء، قل للوفد إن عبد الله ولد فيصل يفتح لكم قلبه، وعقله، قبل أن يفتح لكم باب مجلسه المشرع دائماً لكل مواطن، ولكل عربي، ولكل ضيف يقصده، ومجلسي يرتاده الشعراء، والأدباء، والصحفيين، الحداة منهم، والشُّداة، مجلسي منتدى عربي للجميع، ومن أجل الجميع!!
لقد كان يحدِّثني بحرارة، وحماسة يسكنها الصدق كما عرفته في البداية، وهو ما سيأتي الحديث عنه في ثنايا هذا الموضوع، حتى هيِّئ لي أن سماعة الهاتف التي أضعها على أذني لسماع حديثه قد سخنت، وكأنه هو الآخر قد أدرك ما هيِّئ لي فأنهى المكالمة الهاتفية في لطف ومودة قائلاً: وأنت تعرف يا علوي ان العرب تقول ((إرسل حكيماً ولا توصه)).
وفعلاً حدَّد لنا الموعد، فذهبنا إلى ((قصره القديم بجدة))، كان ذلك في بداية الثمانينيات الهجرية ـ كما أذكر ـ وحين علم بمقدمنا استقبلنا عند باب مجلسه، وعلى لسانه، مرحباً بالأشقاء العرب، في بيت العرب، وبعد السلام عليه دخلنا المجلس، وأخذ كل منا المقعد الذي يناسبه.
كنتُ بجوار المذيع الذي سيجري الحوار، فأدنى رأسه من أذني هامساً: إنه عظيم، وابن عظيم!!
يبدو أن الأمير شاهد حركة المذيع، فسألني سموه: ماذا يقول لك؟ لم أتردد في الرد رغم شعوري بالحرج، الأخ يسأل هل نبدأ التسجيل؟ رد: على بركة الله لأنني تفرَّغت لكم الليلة، فلن أستقبل أحداً.
وبدأ التسجيل، كانت كل الأسئلة موضوعية، دارت عن الشعر، والشعراء والتراث، والحداثة، وقصيدة التفعيلة، والقصيدة النثرية.. وغيرها من القضايا.
كان سموه متجلياً، واسع الصدر، وفجأة همس في أذني المذيع لطرح سؤال محرج، ولم ينتظر ردي، بل سارع وقال للأمير: لديَّ سؤال أخير يشغل الكثير من قرائكم، فوجَّه سموه كلامه لي: هل مارست يا علوي دور رقابة وزارة الإعلام رغم كل ما قلته لك بالهاتف؟ كان سؤاله ((الشكِّي)) كرمح غرسه في حنجرتي!!
رددتُ عليه: أستغفر الله يا ابن فيصل أن أكون صاحب وجهين!! وقبل إكمال ردي تدخَّل المذيع بذكاء قائلاً لسموه: لقد همستُ للأخ علوي بان ما رواه لنا عن شجاعتكم الأدبية، ورحابة صدركم، وتواضعكم، وصراحتكم هي أقل مما لمسناه: وشاهدناه، فقد كنا نظن، وبعض الظن إثم إنه قد بالغ في حديثه لنا عن سموكم!!
ردَّ الأمير: لا تأخذ في خاطرك يا أخ علوي، فأنا أضعك في مقام أخي الصغير!! أمام ما قاله سموه لم تسعفني بديهتي على أي رد. ثم دعانا لتناول طعام العشاء، وبعد ذلك شربنا القهوة العربية رمز الضيافة، كما شربنا الشاي، وأنهينا اللقاء بوداع سموه، حيث لم يتركنا إلا بعد أن غادرنا قصره.
قد يسأل القارئ عن بداية معرفتي بسموه، هذه البداية كانت بمناسبة زيارة الملك فيصل بن عبد العزيز تغمده الله بواسع رحمته لمنطقة ((عسير)) مفتتحاً المدينة العسكرية بخميس مشيط. كنتُ أعمل نهاراً في وزارة الإعلام، ومساء في مجلة ((اليمامة)) كان من بين أفراد الرحلة كل رؤساء تحرير الصحف والمجلات، ولأن الآخ (محمد الشدي) كان رئيساً لتحرير ((اليمامة)) فقد أغراني بالذهاب في هذه المرحلة، وهذا ما حدث.
ولما كان من الرموز الكبيرة المشاركة في هذه الرحلة الأمير الشاعر (عبد الله الفيصل)، فطلب مني الأخ (الشدي) إجراء حوار أدبي مع سموه لصفحات الأدب التي أشرفُ عليها، فقلتُ له: أنا أعرف الأمير من شعره، والسماع عنه لأنه من أعلام المملكة، وهو لا يعرفني شخصياً، مما يجعل مهمتي صعبة، فرد الأخ (الشدي) بكلام أشبع غروري الإنساني، إذ قال: لقد رتَّبتُ اللقاء مع سموه فوافق، وحدَّد الموعد مشترطاً أن تقوم أنت بإجراء اللقاء.
وتم اللقاء الذي سر له سموه، ولأنني كنتُ في مقتبل شبابي، وكان الحوار ثرياً فحسبته لقاءً تاريخياً (سوف أنشره في كتاب قادم لي مع غيره من الحوارات الأخرى).
ولاننا يومذاك لم نكن نستعمل المسجل في إجراء الحوارات معتمدين على ما تختزنه الذاكرة، مع كتابة رؤوس أقلام للقضايا المطروحة، لهذا حرصت بعد صياغة الحوار عرضه على سموه لاجازته قبل النشر، لأنه لم يكن حواراً عادياً، ومع أمير غير عادٍ.. وبعدها تكرَّرت لقاءاتنا في جدة، والرياض، وباريس بمناسبة حصوله على جائزة دولية تُمنح كل سنتين لشخصية عالمية في مجال الشعر، وقد سلمه الجائزة ((جاك شيراك)) عمدة باريس يومذاك قبل أن يصبح رئيساً لجمهورية فرنسا، وقد تُرجم شعره إلى الفرنسية بعنوان (( ديوان الحب Diwan De L'Amour )).
وقد أقيم بهذه المناسبة حفل كبير حضره نجوم ونجمات باريس، من أبرزها الشاعر ورئيس جمهورية السنغال الأسبق (( ليوبولد سنغور )) (طالع لقائي به في هذا الكتاب).
بعد أن ألمحنا إلى أن الأمير ((شاعر الوزارتين)) فما علاقته (( بالشَّك )) الذي يعد ظاهرة من ظواهر شعره الموضوعية؟ لقد نبَّهني إليها الصديق الأمير الشاعر الرسَّام (خالد الفيصل)، وهي ظاهرة لم يشر إليها الدارسون والنقاد بصورة واضحة، مما دفعني للانكباب على قراءة شعره بتأمل فكتبت دراسة (( انطباعية )) بعنوان (قراءة.. في شعر عبد الله الفيصل) نشرتها في (( الطبعة الأولى )) من كتابي (( السمكة.. والبحر )) ، نشر (( دار الصافي للثقافة والنشر )) عام 1408هـ ـ 1988م (ص. ص 187 ـ 196) قلت فيما قلت:
((ومن الظواهر الموضوعية في شعر الأمير الشاعر عبد الله الفيصل ((ظاهرة الشَّك)) التي لم يلتفت إليها النقاد في دراساتهم المختلفة، حسب علمي، هذه الظاهرة التي تشكِّل بُعداً مهماً من أبعاد الشاعر الموضوعية، وإن كان قد ألمح إليها ((صلاح لبكي)) في مقدمته لديوان ((وحي الحرمان)) في عجالة!!
وفي رأينا أن ((الشَّك)) عند الشاعر عبد الله الفيصل ليس مظهراً مُرضياً، كما يفهمه علماء النفس.. وإنما هو صورة من صور إفرازات النفس في لحظة من لحظات المعاناة التي تجعله في حيرة مما يحيط به من بشر، ومظاهر العلاقات والمعاملات الإنسانية!!
وتتجسَّد هذه الحيرة المتشكِّكة في موقفه من معاملة الناس له بحكم أنه أمير، وابن ملك، وكان وزيراً لوزاتين، إلى جانب أنه صاحب ثروة كبيرة!!
فهو يعتقد أن مشاعر الناس نحوه نتيجة لتأثرهم بهذه الأمور الشكلية، وهو يرى في ديوانه ((وحي الحرمان)) ص (18)، يرى أن ((ذلك من بعض دواعي الشعور بالحرمان)) لهذا أطلق على نفسه صفة ((محروم))، هذه الصفة التي وضعها على ديوانه الأول الذي وسمه بعنوان ((وحي الحرمان))، ولم يذكر اسمه إلاَّ في نهاية مقدمته الشخصية (ص19)، وهذا الشك يؤُرقه، وينغِّص عليه رغد حياته، وطيب أيامه!!
ولعلَّ قصيدة ((عواطف حائرة)) ص (54) من الديوان التي يعرفها الناس من خلال أغنية (أم كلثوم) بعنوان ((ثورة الشك)) لعلها البركان الذي جسَّد مشاعر الشَّك في نفس الشاعر: وقد وفِّق في تغيير عنوان القصيدة، توفيقاً يجسَّد ((ظاهرة الشَّك)) في شعره.
ولما كانت هذه القصيدة تذكِّرنا بقصيدة)) ((لا تكذبي)) للشاعر المعروف ((كامل الشناوي)) ـ في موضوعها ـ إلا أن هذا التذكَّر لا يربط القصيدتين ارتباطاً متطابقاً، لأن شك الأمير الشاعر كان قائماً على يقين الأذن، وشك القلب، في الوقت الذي قام شك الشاعر ((كامل الشناوي)) على اليقين الكامل، فقد رأى بعينيه ما سمعته أذُناه، وكانت عبارة ((لا تكذبي)) التي اختارها عنواناً لديوانه الوحيد رد فعل حاد لمواجهة أي نكران!!
فالشاعر الأمير عبد الله الفيصل يقول في قصيدته ((عواطف حائرة)) أو ((ثورة الشك))
يكذِّب فيك كل الناس قلبي
وتسمعُ فيك كل الناس أذني
وكم طافت عليَّ ظلال شكٍ
أقضَّت مضجعي، واستعبدتني
بينما نجد الشاعر الشناوي يقول:
لا تكذبي إني رأيتكما معاً
ودعِ البكاءَ فقد كرهتُ الأدمعا
فإذا كان (( كامل الشناوي )) قد فجَّر في قصيدته (( لا تكذبي )) ثورة (( اليقين الحسية )) ، فإن الأمير الشاعر عبد الله الفيصل قد فجَّر في قصيدته (( عواطف حائرة )) ثورة الشك الشعورية!! ولعل لفظة ((حائرة)) من إفرازات الشَّك، لهذا جاء تغيير عنوان القصيدة حين غنّتها ((أم كلثوم)) إلى ((ثورة الشك)) جاء تعبيراً مناسباً لمضمونها الذي هو ((الشَّك)) فجاء صارخاً بالشَّك.
ومن القصائد الزاخرة بظاهرة ((الشَّك)) في شعر عبد الله الفيصل قصيدته (( حيرة )).. وقصيدته (( حب.. وشك )) التي يقول في نهايتها صراحة:
فما بعد هذا (( الشك )) حبٌ مؤمَّلٌ
ولا بعد هذا (( الشَّك )) في الوصل ما يجدي
وفي قصيدته ((فيمَ التساؤل؟)) التي مطلعها:
حالي بمعترك الحوادث حالي
فيمَ السؤال، ولات حين سؤال
في هذه القصيدة يتداخل شعوره بين ((الشك)) أصلاً.. وبين ((اليقين)) الفرع الذي أصله وأساسه الشَّك!!
وبمناسبة حصوله على (( جائزة الشعر الدولية )) التي أشرنا إليها رَسَمَ له أخوه الشاعر والفنان التشكيلي الانطباعي الأمير خالد الفيصل لوحة ((فنية)) معبِّرة، قَرَنَها بثلاثة أبيات جميلة، تعكس حبه، وأحترامه لأخيه الشاعر الكبير عبد الله الفيصل، وهي رغم قصرها إلا أن شاعرها أسكنها كل مشاعر قلبه، وحشاشة نفسه، وذوب فؤاده فكانت أقصر قصيدة ((نبطية)) في ((شعر الأخوانيات)).. تقول القصيدة:
يا فارس الأشعار مني تحيَّه
مع ريشتي حاولت اصوِّر معانيك
مزجتها بالوان روحي هديه
ياليتي أخذ باقي العمر واهديك
يا ما خذينا من حنانك عطيه
وش عندنا في مثل ذااليوم نعطيك
والحقيقة أن موكب الحفل، ومن حضره من أمراء بلادنا، الذين كانوا يمثلون نخيل الجزيرة العربية الشامخات، والسفراء العرب، وزهور مدينة باريس الساحرة العريقة من الشاعرات، والأديبات، وذوات الصالونات الباريسية الاجتماعية المخملية الرفيعة، ووجوه المجتمع البارز من الرجال.
كان موكباً أرستقراطياً فجاء الجميع بملابسهم الارستقراطية الاجتماعية، وكأنَّ سماء باريس أرادت المشاركة في هذا الموكب ترحيباً بضيوفها العرب بسمرتهم القمحية فلم تمطر لؤلؤاً، ولم تعض على العنَّاب بالبرد كما يقول الشاعر العربي، بل أمُطَرت ((وشَلاً))، أو ((هتَّاناً)) رفيفاً رقيقاً، مشاعر خاصة، فكانت واحدة من ليالي الأساطير التاريخية.
وقد سَحرَني الجو، وأثار الحفل كوامن مشاعري، وأشعل ذاكرتي، ولأنني لستُ شاعراً، فحين عدتُ إلى غرفة فندقي ((جورج سانك)) بالفرنسية، أو ((جورج الخامس)) بالعربية، وهو من أفخم الفنادق الباريسية، حيث يقع على جادة أشهر شوارع باريس، المشعلة، المشتَعِلَة.. هو شارع (( الشانزلزيه )) هذا الفندق هو الذي استضاف فيه الأمير الشاعر (عبد الله الفيصل) مرافقيه من رؤساء تحرير الصحف السعودية، والعربية.
حين عدتُ إلى غرفتي كتبت في مذكرتي الخاصة نثراً فنياً رومانسياً يتناسب ومشاعري المتواضعة التي وقَّدها الحفل، ورقَّقها الجو الطبيعي ليلتها، قلتُ مما قلتُ، وليس كل ما قلتُ ما أرى أن يشاركني القارئ في بعض تلك المشاعر الصادقة، النَّابعة من القلب، قلتُ:
* الزمان: ليلة من ليالي باريس المعطَّرة بزخَّات مطر الشتاء.
* المكان: قصر من قصور باريس التاريخية، قصر شهد أحداثاً جليلة، وعاش في ذاكرة عدة أجيال، إنه قصر ((بلدية باريس)).
* المناسبة: تقليد طائر من طيور الشعر العربي المغرِّدة، أرفع وسام فرنسي، يُمنح عادة للملوك، والأمراء، ورؤساء الدول، وعصافير الشعر!!
* داخل القصر: كوكبة من نجوم الفكر والأدب والشعر في فرنسا الوجه الدبلوماسي عربياً، وأجنبياً، باقة من ((فراشات)) باريس الارستقراطية، قلبُ الصحافة السعودية والعربية، وعقلها، كل هؤلاء كانوا في انتظار طائر الشعر العربي!!
* في الخارج: علامات استفهام تتقاطر من أفواه الواقفين أمام القصر لتعانق زخَّات المطر الرقيقه، تتلاحق الصور في رشاقة الموقف القادم، وجوهٌ سمرٌ كانت عيونها خلف زجاج أبواب السيارات، تلمع كعيون الصقور، والسيارات كأنها في ((كرنفال))!!
* اللحظة: يصل الموكب، كان رأس العُمدة ((جاك شيراك)) يَلُوحُ فوق الرؤوس، في مقدمة المستقبلين، وينتصب الأمير عبد الله الفيصل كالنخلة، إنه طائر الشعر العربي المُحتَفى به، بملابسه العربية، فإذا هو يبدو في شموخه أطول من العُمدة ((جاك شيراك)) الذي كان رأسه قبل قليل فوق كل الرؤوس!!
سار الأمير الشاعر يحمل في إهابه مجد تاريخ باذخ، وعلى حروف شعره أزهرت أصدق عبارات العشق، والحب، والسهد، والغرام!!
* التعليقات: أحد الحضور، ما أروع هذا الأمير العربي الشاعر!! آخر، هو الليلة فارس أحلام باريس الشاعرة، والعاشقة!! هذه المدينة الحسناء ((المُشْعِلَة والمُشْتَعِلَةَ)) ثالث، أن حصوله على الجائزة يُعدُّ فتحاً ثقافياً للعرب!! رابع، إنه حفيد عبد العزيز الملك الأسطورة، وابن الفيصل الملك السيف!! خامس بخٍ، بخٍ، لقد أحاط بالمجد من كل جانب!! سادس مصححاً ومعترضاً، بل قل أحاط به المجد من كل جهة.
قلتُ في نفسي: إن هذا التكريم والوسام ليس لعبد الله الفيصل وحده، إنه لكل مواطن في مملكة الإيمان، والنور، ولكل مواطن عربي، فالمملكة ((بيت العرب والمسلمين))!!
حين وقَفَ يلقي كلمته في الحفل نَسِيَ نفسه. تحدَّث عن أمته، وحضارة أمته، إنه سلوك ((الفطرة العربية الإسلامية)).. ثم قال في تواضع الكبار:
(( أعترفُ أنني في الشعر لستُ متفوِّقاً على سواي من الشعراء العرب المعاصرين، وإنما أجد أنني ساعياً بدأب في سبيل الاجادة، وإتقان العطاء ))!!
لم يركب زورق (( النرجسية ))، كما هي عادة بعض الشعراء العرب المعاصرين ومن قبلهم، ألم يقل الشاعر العربي، أبو الطيب المتنبي الذي أعدُّه شاعر العصور:
أنام ملئ جفوني عن شواردها
ويسهر الخلقُ جرَّاها ويختصمُ
أو:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمَمُ
أو:
وما الناس إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
ومما يجب ذكره أن هذه ليست المرة الأولى التي يترجم فيها شعر ((عبد الله الفيصل)) إلى لغة أجنبية، لقد سبق أن تُرجم إلى لغات أخرى، فاستقبله قراء تلك اللغات بحفاوة وتقدير.
وله ديوان ثان هو (( حديث قلب )) 1403هـ ـ 1982م، حصل على (( جائزة الدولة التقديرية )) بالمملكة ـ عام 1405هـ 1985م، كما حصل على ((الجائزة الدولية الكبرى للشعر الأجنبي)).
ومُنح (( الدكتوراه الفخرية في الإنسانية )) بقرار من مجلس أمناء (( الأكاديمية للعلوم والثقافة )) المتفرعة عن ((مؤتمر الشعراء العالميين)) الذي أنعقد في مدينة (( سان فرانسيسكو )) بالولايات بالمتحدة الأمريكية.
وحديث الذكريات، مع سموه، وعنه متعددة، وطويلة، لا تتسع لها مساحة النشر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :4738  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج