تقديم: معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر |
هؤلاء... مرَّوا على جسر حياتي |
يعد المؤرخ أن ثروة المعلومات عن حوادث التاريخ هي في الكتب التي تؤرِّخ لأمَّة، أو حقبة من الزمن، ولكنه يبتهج عندما يجد مصدر تاريخ يتحدَّث عن شخص بعينه، وتزيد بهجته عندما يعرف أن كاتب السيرة معاصر لمن يكتب عنه، ويزيد فرحه، إلى حد الطرب، عندما يعرف أن الكاتب ليس له غرض، ولا يرجو نفعاً، أو يخشى ضراً، ممن كتب عنه، وليس هناك من الصلة ما يجعل ما يقوله محرجاً أو مغضباً، وإنما يكتب هذا الكاتب وفي ذهنه قول الحقيقة بطريقة هادئة، ويلبسها ثوب اللياقة واللباقة، بدلاً من التهجم أو الاستفزاز، وهو منهج صعب، ومسلك وعر إلا لمن وهبه الله قدرة على السير على الأشواك، أو بين الورود دون أن يفرط نظمها، أو يُخل بعقدها. |
ولهذا عندما يأتي كاتب معروف، مشهود له بحسن النهج، واستقامة السبيل، وطواعية الفكر، وخضوع القلم، والمقدرة على المشاركة الفكرية دون شذوذ ولا نُبُوّ، يرحب بانتاجه، لأنه سوف يكون محسناً في أسلوبه، قادراً على عرض أفكاره، لَدنًا في معالجة ما قد يكون عسيراً، ويكون متقناً بفنٍ، لبسط ما في ذهنه للقارئ، بما يجعله هو والقارئ في موقف واحد في الفهم، ورسم الصور المراد عرضها، وإزجاء بضاعتها. |
وهكذا كانت فرحتي من كتابة الأخ الأستاذ علوي طه الصافي عن بعض الأشخاص، الذين وجد أن حياتهم مهمة، لمشاركتهم في مجال من مجالات النهضة الفكرية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، ووجد أن له فرصة يعبِّر فيها عن بعض الأفكار التي يرى إبداءها. |
لقد كانت هذه السِّير ذات طابع متميز لما أخذته على عاتقها من تجنب السرد الساذج، والحقائق الجافة، وجعلها ناطقة بلسان ذرب، وغاص لكنهها إلى الأعماق، فجاءت بما لا يأتي إلا من شخص متميز، وضع مبادئ تبنَّاها، وسار في ضوئها، راسماً صوراً مشرقة لأناس أضاؤا محيطهم بطريقة مبتكرة أفادت ونفعت. |
إن كتابة السِّيرَ فن ليس كل إنسان يجيده، ولكل كاتبِ سيرة طريقةٌ تحكمه، وينفرد بها، قد تكون فيها جاذبية تجعلها قدوة تحتذى، ونموذجاً يفتح باباً فريداً في كتابة السِّير. ولا يتأتى مثل هذا الإبداع إلا عند ما يكون الكاتب صاحب فكرٍ ناضج، درس الأمر بشمول تام، ثم ابتدع لنفسه جادة واضحة، تُوصِل فكره إلى القارئ، وتبني جسوراً من التفاهم، وتؤثر الأثر المطلوب. |
لقد شعرتُ بهذا وأنا أقرأ مقالات الأخ الأستاذ علوي طه الصافي في ((المجلة الثقافية)) التي تصدر مع صحيفة ((الجزيرة)) كل يوم إثنين، تحت العين البصيرة لمدير تحريرها الأستاذ إبراهيم بن عبد الرحمن التركي، وكنتُ، وأنا أقرأ ما يمر على الجسر، الذي مدَّه الأستاذ علوي، لا أقف عند مجرى الحوادث فيما دوَّنه، ولكني أسبح إلى أغوار فكره، والمسارب التي يمر بها طرح ذهنه، والبؤر التي يستقي منها، وهذا يوصلني إلى أمور قد لا يصل إليها كل إنسان، وقد يصل غيري إلى ما هو أعمق، وتمعني فيما يكتب يذهب إلى المعنى، والمنهج، والخطط، والأسلوب، وأسير رأساً مع الجادة المستقيمة، وأتبع المنحنيات، التي يأتي بها الكاتب فجأة وكأنه يقصد أن يخرجك من رتابة الحدث إلى ما أخفاه تحت تعبير أو صورة، وهي هزة ذكية توقظك إلى ما هو آت، وإلى ما هو مهم في رأي كاتبه، ويخرجك بهذا مرغماً من غلبة الرواية عليك، وانسجامك معها، ومما يجعلك تنساق ذاهلاً، وتنسى أن ما أمامك ليس ما اعتدت أن تجده في السِّيرَ، ويؤكِّد من طرف خفي أن ما تقرأه ليس للتسلية، ولكن لتعمل طواحين ذهنك على هضمه، مع استعداد كاف لهذا. |
دأب المؤلف، زيادة في الفائدة، على إثراء مؤلفه ببعض الصور الذهنية الصادقة عن قضايا إنسانية رأى أنها تستحق أن ترسم منيرة الجوانب التي تطرقت لها، وعن قضايا اجتماعية باهرة عن مجتمعنا الحاضر، وما فيه من ظواهر تستحق أن تبرز لتلاحظ، وأن تُعْطَى حقها من الرعاية من أفراد المجتمع أو بعض فئاته. |
ولم يهمل المؤلِّف القضايا الفكرية والأدبية، وهي هاجس من هواجسه الأولى، وهو خير من يلبس ثياب الغوص ليصل إلى دررها في أعماق بحارها، والأمور الثقافية عموماً بَزَّرت مقالاته بما هو شهي ومفيد، ولم يكن هناك تكلُّف، ولا طرح مفتعل. |
الكتاب ضخم، ولهذا سوف أقتصر على هذه الكلمات المقتضبة عن هذا السِّفر الثمين، وأنا متأكد أن القارئ الكريم سوف يجد متعة في قراءته مجموعاً، بعد أن قرأه مفرقاً في مقالات متتالية. |
إني أحمد، دائماً، لأصحاب المقالات في المجلات والصحف، وفي أعمدتها، جمعها في كتاب، لتأخذ مكانها في رف مكتبتنا العربية، وليسهل الرجوع إليها، والاستفادة الكاملة منها. |
وفق الله المؤلِّف إلى المزيد من الانتاج، وأخذ بيده، إنه جواد كريم. |
د. عبد العزيز الخويطر |
الرياض |
* * * |
|