شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خاتمة المؤلف
فهذا أصلحكم الله بيان ما سألتم عنه حسب ما علمني الله عز وجل.. لم أقل شيئاً من ذلك من عند نفسي، ويعيذني الله أن أقول في شيء من الدين برأي أو بقياس، لكن حكيت (1) لكم ما قاله الله تعالى وعهده إليكم نبيكم عليه السلام. ولعمري إني لأفقر منكم إلى قبول ما أوصيتكم به، وأحوج إلى استعماله؛ فإني والله أعلم من عيوب [نفسي أكثر مما أعلم من عيوب] كثير من الناس ونقصهم، وقد توصل الشيطان إلى جماعة من الناس بأن أسكتهم عن تعليم الخير؛ بأن وسوس إليهم، أو لمن يقول لهم: إذا أصلحتم أنفسكم، فحينئذ اسعوا في صلاح غيركم.. وربما اعترض عليهم بقول الله عز وجل: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة/105] وبقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة/44] الآية، والحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً يقذف به في النار فتندلق (2) أقتابه [251 ب]؛ فيقول له أهل النار: يا فلان: ألستَ الذي كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟.. فيقول: نعم كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه (3) ، أو كما قال عليه السلام، فأسكتهم عن تعليم الخير. فاعلموا رحمكم الله أن الآية الأولى لا حجة فيها للمعترض بها؛ لأنه ليس فيها نهي لنا عن أن ننهى من ضل عن ضلالة، ولكن فيها تطييب لأنفسنا عن غيرنا ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا، وقد جاء في بعض الآثار: أن المنكر إذا خفي لم يؤخذ به إلا أهله، وأنه إذا أعلن فلم ينكره أحد أخذ فاعله وشاهده الذي لا يقره (4) ؛ فإنما في هذه الآية إعلام لنا أننا لا نُضَرُّ بإضلال من ضل إذا اهتدينا، و [على] من اهتدى بنا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وأما الآية الثانية فلم ينكر فيها الأمر بالبر، وإنما أنكر استضافة إتيان المنكر إليه.. ونعم معترفون لها بذنوبنا، منكرون على أنفسنا وعلى غيرنا، راجون الأجر على إنكارنا، خائفون العقاب على ما نأتي مما ندري أنه لا يحل. ولعل أمرنا بالمعروف، وتعليمنا الخير، ونهينا عن المنكر: يحط به ربنا تعالى عنا ما نأتي من الذنوب؛ فقد أخبرنا تعالى أنه لا يضيع عمل عامل منا (5) .
وأما الحديث المذكور فهو [عن] رجل غلبت معاصيه على حسناته، فإن كان مستحلاً للمنكر الذي كان يأتي ومرائياً بما يأتي به: فهذا كافر مخلد في نار جهنم ويكفي من بيان هذا قوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ يره [سورة الزلزلة]؛ فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وعصى مع ذلك فوالله لا ضاع له ما أسلف من خير، ولا ضاع عنده ما أسلف من شر، وليوضعن كلُّ ما عمله يوم القيامة في ميزان يرجحه مثقال ذرة، ثم ليجازين بأيهما غلب. هنا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.. وقد أمر تعالى فقال: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة آل عمران/140]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة/122]، فأمر تعالى من نفر ليتفقه في الدين بأن ينذر قومه، ولم ينهه عن ذلك إن عصى، بل أطلق الأمر عاماً، وقال تعالى: وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [سورة آل عمران/115]؛ فمن رَامَ أن يَصُدَّ عن هذه السبيل بالاعتراض الذي قدمنا فهو فاسقٌ، صادٌّ عن سبيل الله، داعية من دواعي النار، ناطق بلسان الشيطان (6) ، عون لإبليس على ما يحب، إذ لا ينهى عن باطل ولا يأمر بالمعروف ولا يعمل خيراً، وقد بلغنا عن مالك أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال له قائل: يا أبا عبد الله: وأنت لا تفعل ذلك؟.. فقال: يا ابن أخي ليس [352/ أ] في الشر قدرة (7) .. ورحم الله الخليل بن أحمد (8) الرجل الصالح حيث يقول:
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي
ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
وذُكِرَتْ هذه المسألة يوماً بحضرة الحسن البصري رحمه الله فقال: وَدَّ إبليس لو ظفر منا بهذه؛ فلا يَأمُر أحدٌ بمعروف ولا [ينهى] عن منكر.. وصدق الحسن؛ لأنه لو لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يذنب: لما أمر به أحد من خلق الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكل منهم قد أذنب.. وفي هذا هدمٌ للإسلام جملة.. فقد صح عن النبي عليه السلام أنه قال: ما من أحدٍ إلا وقد ألَمَّ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا (9) أو كلام هذا معناه.
فخذوا حذركم من إبليس وأتباعه في هذا الباب، ولا تدَعُوا الأمر بالمعروف وإن قصّرتم في بعضه، ولا تدَعوا النهي عن منكر وإن كنتم تواقعون بعضه، وعلِّموا الخير وإن كنتم لا تأتونه كله، واعترفوا بينكم وبين ربكم بما تعملونه بخلاف ما تعلِّمونه، واستغفروا الله تعالى منه دون أن تعلنوا بذكر فاحشة وقعت منكم؛ فإن الإعلان بذلك من الكبائر.. صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (10) ؛ فلعلَّ أحدنا يستحْيي من ربه تعالى إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو يعلم من نفسه خلاف ما يقول يكون ذلك سبب إقلاعه ومقته لنفسه، ولعل الاعتراف لله تعالى والاستغفار المردد له يوازي ما يقصر فيه؛ فيحط عنا تعالى ربنا ذو الجلال، وقد قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [سورة النساء/108]، وقد أمرنا الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستخفاء بالمعاصي إذا وقعت، ونهينا عن الإعلان بها أشد النهي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً معناه: كل الناس معافى إلا المجاهر ـ والإجهار أو من الإجهار (11) .. الشك مني ـ: أن يبيت المرء يعمل عملاً فيستره الله عليه، ثم يصبح فيفضح نفسه (12) أو كما قال عليه السلام؛ فإنما أنكر فعل المعصية نفسها، ثم وصف عز وجل [أنهم] مع ذلك يستخفون من الناس وأنه معهم؛ فلا يمكنهم الاستخفاء منه، بل هو عالم بذلك كله.. وإذا رأيتم من يعتقد أنه لا ذنب له فاعملوا أنه قد هلك.. وإن العجب (13) من أعظم الذنوب وأمحقها للأعمال. فتحفظوا حفظنا الله وإياكم من العجب والرياء (14) ؛ فمن امتحن بالعجب في علمه فليفتكر فيمن هو أفضل عملاً منه، وليعلم أنه لا حول ولا قوة له فيما يفعل من الخير، وأن ذلك إنما [252 ب] هو هبة من الله تعالى؛ فلا يتلقاها بما يوجب أن يسلبها، ولا يفخر بما حصل له فيه؛ لكن ليعجبه فضل ربه تعالى عليه، ليعلم أنه لو وكل إلى نفسه طرفة عين لَهَلَك.
وأما الرياء فلا يمنعكم خوف الرياء أن يصرفكم عن فعل الخير؛ لأن لإبليس في ذم الرياء حبالة ومصيدة، فكم رأيت من ممتنع من فعل الخير خوف أن يظن به الرياء، ولعلكم قد امتحنتم بهذا، ولكن أصفوا نياتكم لله تعالى، ثم لا تبالوا من كلام الناس فإنما هو ريح وهواء منبث، وقلَّ والله ضرر كلامهم وكثر نفعه لكم؛ فعليكم بما تنتفعون به في دار قراركم وعند من يعلم سركم وجهركم وعند من يملك ضركم ونفعكم، وحده لا شريك له.
طباعة

تعليق

 القراءات :616  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 17
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.