شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جوابه عن أحكام المعارف التي يشتغل بها ذوو العلم
3 ـ وسألتُم ـ رحمنا الله وإياكم ـ عن طلب العلم، وهل الآداب من العلم ـ تعنون النحو واللغة والشعر ـ، وعن طلب الاشتغال بروايات القراء السبعة المشهورين (1) على اختلاف ألفاظها وأحكامها، وعن قراءة الحديث، وعن مسائل؛ فنعم ـ وفقنا الله وإياكم لما يرضيه ـ:
أما الاشتغال بروايات القراء المشهورين السبعة وقراءة الحديث وطلب علم النحو، واللغة، فإن طلب هذه العلوم فرضٌ واجب على المسلمين على الكفاية.. بمعنى أن من قام بطلبها حتى يعم بعلمه تعليم من طلبها أو فتيا من استفتاه فيها من أهل بلده أو قريته؛ فإذا قام بذلك من يُعْنَى بهذا القدر سقط فرض طلبها حينئذٍ عن الباقين.. إلا ما يخص كل إنسان في نفسه فقط؛ فالذي يلزم كل إنسان من حفظ القرآن فهو أم القرآن وشيء من القرآن معها ولو سورة أي سورة كانت أو أي آية؛ فهذا لا بد لكل إنسان منه.
ثم طلب علم القرآن واختلاف القراء السبعة فيها وضبط قراءتهم [243 ب] كلهم: فرض على الكفاية، وفضل عظيم لمن طلبه إن كان في بلده كثير ممن يُحْكِمه، وأجر جزيل، قال عليه السلام: خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه (2) : فكفى بهذا فضلاً.. وقد أمر عليه السلام بتعليم القرآن (3) ؛ فمن تعلمه فهو خير.. ولو ضاع هذا الباب لذهب القرآن وضاع (4) ، وحرام على المسلمين تضييعه، وذهابه من أشراط الساعة، وكذلك ذهاب العلم.
وأما النحو واللغة ففرض على الكفاية أيضاً كما قدمنا؛ لأن الله يقول وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [سورة إبراهيم/4] وأنزل القرآن على نبيه عليه السلام بلسان عربي مبين؛ فمن لم يعلم النحو واللغة فلم يعلم اللسان الذي به بَيَّن الله لنا ديننا وخاطبنا به، ومن لم يعلم ذلك فلم يعلم دينه، ومن لم يعلم دينه ففرض عليه أن يتعلمه، وفرض عليه واجب تعلم النحو واللغة، ولا بد منه على الكفاية كما قدمنا.. ولو سقط علم النحو لسقط فهم القرآن، وفهم حديث النبي [صلى الله عليه وسلم].. ولو سقط لسقط الإسلام، فمن طلب النحو واللغة على نية إقامة الشريعة بذلك، وليفهم بهما كلام الله تعالى وكلام نبيه [عليه الصلاة والسلام]، وليفهمه غيره (5) ؛ فهذا له أجر عظيم ومرتبة عالية لا يجب التقصير عنها لأحد.. وأما من وسم اسمه باسم العلم والفقه وهو جاهل للنحو واللغة فحرام عليه أن يفتي في دين الله بكلمة، وحرام على المسلمين أن يستفتوه، لأنه لا علم له باللسان الذي خاطبنا الله تعالى به. وإذا لم يعلمه فحرام عليه أن يفتي بما لا يعلم؛ قال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [سورة الإسراء/36] وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف/33]، وقال تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [سورة النور/15] فمن لم يعلم اللسان الذي به خاطبنا الله عز وجل، ولم يعرف اختلاف المعاني فيه لاختلاف الحركات في ألفاظه، ثم أخبر عن الله بأوامره ونواهيه: فقد قال على الله ما لا يعلم.. وكيف يفتي في الطهارة من لا يعلم الصعيد في لغة العرب؟ (6) ، وكيف يتفي في الذبائح من لا يدري ماذا يقع عليه اسم الذكاة في لغة العرب (7) أم كيف يفتي في الدين من لا يدري خفض اللام أو رفعها من قول الله عز وجل: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [سورة التوبة/3]؟؟.. ومثل هذا في القرآن والسنة كثير.. وفي هذا كفاية.
فمن طلب علم النحو واللغة على النية التي ذكرنا فهو [244/أ] أعظم أجرٍ وأفضل علمٍ، ومن طلبهما ليكونا له مكسباً ومعاشاً فهو مأجور محسن، ولكن أجره دون أجر الأول، وفوق سائر الصناعات التي يُعاش منها؛ لأنه يُعَلّم الخيرَ، ويُبْقي آخر عالماً فيمن علم.. ومن طلبهما ليتوصل بهما إلى إقامة المظالم وإحياء رسوم الجور والتدريب في أحكام المكوس والقبالات والمخاطبة عن فساق الملوك بما يرضيهم ويسخط الله عز وجل: فقد خاب وخسر، وغدا في لعنة الله وراح فيها؛ لأنه ظالم، وقد قال الله: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة هود/18].
وأما علم الشعر فإنه على ثلاثة أقسام:
- أحدها: أن لا يكون للإنسان علم غيره فهذا حرام.. يُبيِّن ذلك قوله عليه السلام: لأن يُملأ ـ أو يمتلئ ـ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً (8) .
- والثاني: الاستكثار منه فلسنا نحبه وليس بحرام، ولا يأثم المستكثر منه إذا ضرب في علم دينه بنصيب، ولكن الاشتغال بغيره أفضل.
- والثالث: الأخذ منه بنصيب، فهذا نحبه ونحض عليه؛ لأن النبي عليه السلام قد استنشد الشعر، وأنشد حسان [رضي الله عنه] على منبره عليه السلام. وقال عليه السلام: إن من الشعر حكماً (9) ، وفيه عون على الاستشهاد في النحو واللغة؛ فهذا المقدار هو الذي يجب الاقتصار عليه من رواية الشعر، وفي هذا كفاية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما من قال الشعر في الحكمة والزهد فقد أحسن وأُجر.. وأما من قال معاتباً لصديقه، ومراسلاً له، وراثياً من مات من إخوانه بما ليس باطلاً، ومادحاً لمن استحق الحمد بالحق: فليس بآثم، ولا يكره ذلك.. وأما من قال هاجياً لمسلم، ومادحاً بالكذب، ومشبباً بحرم المسلمين: فهو فاسق، وقد بَيَّن الله هذا كله بقوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ [سورة الشعراء/224].
والذي يجب على طالب العلم أن لا يقتصر على أقل منه من النحو، فمعرفة ما يمر من القرآن والسنة من الإعراب، ويكفي من ذلك كتاب الواضح (10) أو كتاب الزجاجي (11) ، فإن زاد وأوغل حتى يُحكم كتاب سيبويه وما جرى مجراه فقد أحسن، وذلك زيادة في فضله وأجره.. وأما من اللغة فمثل ذلك أيضاً، ويجزئ عنه منه [244 ب] الغريب المصنف لأبي عبيد، فإن زاد وأوغل واستكثر من دواوين اللغة فقد أحسن وأجر.. ويجب (12) رواية شعر حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وما خف من مختار أشعار الجاهليين ومختار أشعار المسلمين.. غير مستكثر من ذلك، ولكن بقدر ما يتدرب في فهم معاني لغة العرب ومخارج كلامهم، وعلم الحساب والطب أيضاً من العلوم الرفيعة؛ فمن طلب علماً من ذلك لينتفع به الناس في القسمة والعلاج وحساب مقابلتهم فهو مأجور.. تعلم هذا المقدار فرض على الكفاية؛ إذ لو جهل هذا لضاع كثير من الدين كحساب الوصايا والمواريث ومعرفة البيوع وغير ذلك.. ومن طلبهما ليكتسب منهما فمأجور أيضاً، ومن طلبهما ليتوصل بهما إلى الظلم فآثم فاسق.
وأما معرفة قراءة الحديث ففرض على الكفاية بقوله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة/122].. ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بمعرفة أحكام القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم (صحيحه من سقيمه، وناسخه من منسوخه، وما أجمع عليه مما اختلف فيه)؛ فهذا أفضل ما استعمل المرء فيه نفسه، وأعظم ما يحاول لأجره وأمحاه لذنوبه.. وقد قسم النبي [صلى الله عليه وسلم] هذا الباب أقساماً كثيرة كافية كما حدثنا القاضي حمام بن أحمد قال: نبأنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي: نبأ أبو أحمد الجرجاني: نبأ محمد بن يوسف الفربري: نبأ محمد بن إسماعيل البخاري: نبأ محمد (13) نبأ حماد بن سلمة عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة: عن أبي موسى: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مثل ما بعثني الله [به] من الهدى والعلم كمثل غيث كثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى به [الناس]؛ فشربوا وسقوا وزرعوا.. (14) وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (15) ؛ فهذا الحديث أيها الإخوة الأصفياء لو لم يأتنا غيره لكفانا؛ ففيه جماع طبقات الناس كما ترون.. والطائفة الأولى التي أنبتت الكلأ والعشب هم الذين فهموا معاني القرآن والحديث، وتدينوا بها وعلموها الناس.. والطائفة الثانية التي أمسكت الماء فشرب الناس منها فسقوا ورعوا هم الشيوخ الذين رووا لنا الحديث [245/أ]، وقيدوه، وعنوا به، وبلَّغوه إلينا؛ فأخذناه عنهم وإن لم يكن لهم فقه فيه، ولكنهم رضي الله عنهم أُجروا فينا أجراً عظيماً؛ لأنهم كانوا سببَ علمنا؛ فهم شركاؤنا في كل ما قيدنا وعلمنا مما أخذنا عنهم.. والطائفة الثالثة هي المعرضة عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم التي لا ترفع به رأساً، ولا تقبله إذا سمعته، ولا تعنى به ولا تطلبه.. كما أن تلك القيعان مر عليها الماء مراً كما دخل خرج؛ فمن استطاع منكم أيها الإخوة في الله عز وجل أن يكون من الطائفة الأولى النقية فليفعل؛ فحسب الواحد منا أن يكون في جملة من أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وإن لم يُمنح ذلك فليكن من الأجادب التي تمسك الماء، لعل الله ينفع بنا وبكم في ذلك ولو أن يموت أحدنا وهو مقيد بحديث النبي [صلى الله عليه وسلم] يشاهد مجالسه، طالب له، مستكثر منه؛ فأعيذ نفسي وإياكم بالله أن نكون من القيعان التي لا تمسك ماء ـ ولا تنبت كلأ.
وأما كتب الرأي فاعلموا أنها لا تحل قراءتها على معنى تقليد ما فيها والتدين به، ويكفي في هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء/59]؛ فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فحرام عليه أن يردَّ شيئاً مما اختلف فيه إلى قول عائشة وأم سلمة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ والعباس رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء أفاضل الأمة وعلماؤها فكيف إلى قول أبي حنيفة وأبي سفيان ومالك والشافعي وأحمد وداود وأبي يوسف ومحمد وابن القاسم [رحمهم الله]؟!!. لأن من رد ذلك إلى غير القرآن وحديث النبي عليه السلام، فقد خالف ما أمره به تعالى في الآية المذكورة، ومن لم [يفعل] ما أمر الله تعالى به فقد عصى الله عز وجل ورسوله [صلى الله عليه وسلم]، واستحق أقبح الصفات، ولم يحكم بما أنزل الله عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة/47] وقد أخبرنا حمام بن أحمد قال نبأ عبد الله بن علي الباجي: نبأ محمد بن عبد الملك بن أيمن: نبأ أحمد بن مسلم: نبأ أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي: نبأ وكيع بن الجراح: عن هشام بن عروة، عن أبيه [245 ب]: عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما]: عن النبي عليه السلام أنه قال: لا يُنْزَعُ العلم انتزاعاً من قلوب الرجال، ولكن ينزع بذهاب العلماء، فإن لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا (16) ، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيماً حتى فشا فيهم أبناء سبايا الأمم؛ فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا (17) .. وقد أخبرنا بهذا الحديث أيضاً حمام بن أحمد نبأ عبد الله بن إبراهيم: نبأ أبو أحمد، وأبو زيد المروزي كلاهما عن محمد بن يوسف الفربري: عن محمد بن إسماعيل البخاري: نبأ سعيد بن بليد: نبأ ابن وهب: ثني عبد الرحمن بن شريح، وغيره: عن محمد بن الأسود: عن عروة بن الزبير قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه بقبض العلماء بعلمهم؛ فيبقى ناسٌ جهال، فيُستَفتَون فيُفْتُونَ برأيهم؛ فَيضِلُّون ويُضِلُّون (18) ؛ فهذان عدلان جليلان ـ أبو الأسود ومحمد بن عبد الرحمن يتيم عروة، وهشام ـ شهدا على عروة، وشهد عروة على عبد الله، وعبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أبلغتكم.. وليس اختلاف الألفاظ بموجب تعليلاً في الرواية إذا كان المعنى واحداً فقط، فصح أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان إذا حدث بحديث كرره ثلاث مرات؛ فيؤديه السامع على حسب ما سمع في كل مرة.. فهذه صفة الرأي.
واعلموا رحمكم الله أني أقول إعلاناً لا أسره: إن تقليد الآراء لم يكن قط في قرن الصحابة رضي الله عنهم، ولا في قرن التابعين ـ ولا في قرن تابع التابعين.. وهذه هي القرون التي أثنى النبي [صلى الله عليه وسلم] عليها، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الر ابع المذموم على لسان النبي؛ ، وأنه لا سبيل إلى وجود رجل في القرون الثلاثة المتقدمة قلَّد صاحباً أو تابعاً أو إماماً أخذ عنه في جميع قوله؛ فأخذه كما هو، وتديَّنَ به وأفتى به الناس؛ فالله الله في أنفسكم.. لا تفارقوا ما مضى عليه جميع الصحابة أولهم عن آخرهم وتابعهم عن [متبوعهم]، وتابع التابعين أولهم عن آخرهم دون خلاف من واحد مهم: من ترك التقليد، واتباع أحكام القرآن وحديث النبي عليه السلام وروايته والعمل به؛ فاجتنبوا هذه [246/أ] الحادثة في القرن المذموم المخالفة للإجماع المتقدم، وبعد أزيد من مئتين وخمسين عاماً من موت النبي عليه [السلام]؛ فكل بدعة ضلالة.. فقد نصحت لكم، وأديت ما لزمَني في ذلك، وبقي ما عليكم؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة.. قالوا: لمن يا رسول الله؟.. قال: لله ورسوله ولائمة المسلمين وعامتهم (19) .. وإنما يجوز قراءة كتب الرأي على وجه أذكره لكم، وهو طلب ما أجمع عليه أئمة العلماء؛ فيتَّبع ويوقف عنده؛ لأن الله أمرنا في الآية التي تلونا بطاعة أولي الأمر منا، ولنعرف ما اختلف فيه العلماء؛ فيعرض على كتاب الله عز وجل، وعلى حديث النبي [صلى الله عليه وسلم]؛ فلأي تلك الأقوال شهد القرآن والسنه المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذنا به، ونترك سائر ذلك إن كنا نؤمن بالله واليوم الآخر؛ فهو أعرف بنفسه (20) ؛ فعلى هذا الوجه يجب قراءة كتب الرأي، لا على ما سواه؛ فمن قرأها على هذا أُجر، وانتفع بها جداً.. وأما من قرأها متدنياً بها غير عارض لها على القرآن وحديث النبي [صلى الله عليه وسلم] فهو فاسق لعصيانه ما أمره الله تعالى به، ولأنه لم يحكم بما أنزل الله؛ فمن جمع إلى هذا استحلال مخالفة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يعتقد صحته عنه عليه السلام لقول أحدٍ دونه، واعتقد أن هذا جائز فهو كافر مشرك مرتد عن الديانه، منسلخ عن الإسلام، حلال الدم والمال.. وروينا عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: كل أحدٍ يدخل الجنه إلا من أبى.. قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟.. قال: من أطاعني دخل الجنه، ومن عصاني فقد أبى (21) ، ولا تحسبوا أني سَبَقْتُ إلى هذا القول، فمعاذ الله أن أقول ما لم يقله الله تعالى ورسوله [عليه الصلاة والسلام].. قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً [سورة النساء/65] فأنا أقول: والله ما آمن من حَكَّمَ غير رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في دينه.
واعلموا أيضاً أن هذا الذي قلت هو رأي الشافعي ومالك وإسحاق بن راهويه: فإنه بلغني عن مالك رحمه الله أنه سأله سائل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في رجل قيل له: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] كذا، فقال هو: قال إبراهيم النخعي كذا..؟ فقال مالك: أرى أن يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل.. وبلغني عن الشافعي رحمه الله: أنه ذكر يوماً حديثاً عن النبي عليه السلام [246 ب] فقال له إنسان: يا أبا عبد الله: أتأخذ بهذا الحديث؟ فقال له الشافعي: أرأيتَ يا هذا عليَّ زُنَّاراً (22) خارجاً من كنيسة؟ تسمعني أُحدِّث عن النبي صلى الله [عليه] وسلم وتقول لي: تأخذ به؟.. وما لي لا آخذ به إذا صح الحديث عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فهو ديني وقولي؟.
وذكر محمد بن نصر عن إسحاق بن راهويه أنه قال: من سبَّ رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، أو ترك صلاة فرضاً متعمداً حتى خرج وقتها بلا عذر، أو رد حديثاً مسنداً صحيحاً بلغه عن رسول [الله]: فهو كافر مشرك.
وقد سمعنا أصحابنا يحكون عن ابن القاسم رحمه الله: أنه كان لا يجيز بيع كتب الرأي، فسُئل عن ذلك؛ فأخبر أنه لا يدري أحق هو أم باطل؟. وأجاز بيع المصاحف وكتب الحديث؛ لأن الذي فيها حق؛ فكيف يظن جاهل لا يتقي الله عز وجل أن مالك بن أنس وابن القاسم يُلزمان الناس بتقليدهما وهما يقرَّان أنهما لا يعلمان أحقٌ ما أفتيا برأيهما أم باطل؟. وقد صح ما هو أغلظ من هذا، وهو أن مالكاً رضي الله عنه تمنى عند موته أن يُضرب بكل مسألة أفتى فيها برأيه سوطاً. وهكذا كان الأئمة الفضلاء قبل زماننا هذا المدبر رضي الله عنهم وعن الباقين، وفَاءَ بالجميع إلى طاعته، ووالله لقد خذل الله عز وجل أمة تدين بشيء تمنى قائله أن يضرب بالسياط ولا يقوله.
وأما ما ذكرتم من أمر قارئ هذه العلوم إن حضر بباله عند الاشتغال بها حب الرئاسة في الدنيا وطلب الظهور، وكيف إن كان معظم نيته هذا المعنى؛ فهذا مذهب سوء.. صح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: من تعلَّم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلَّمه إلا ليصيب به عرضاً لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة (23) . والحديث الصحيح الذي رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: أنه يؤتى يوم القيامة برجل تعلَّم العلم وعلَّمه ـ وقرأ القرآن فأُتيَ به، فعرَّفه الله نعمه فعرفها.. قال: فما عملت فيها؟.. قال: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأت فيك القرآن.. قال: كذبت، ولكنك تعلّمت العلم ليُقال عالم، وقرأت القرآن ليُقال قارئ، وقد قيل.. ثم أمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار (24) والحديث الصحيح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: إن الله تعالى قال: أنا أغنى الشركاء عن الشرك.. من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه (25) .
وفيما ناولني حمام بن أحمد، وأخبرني: أنه أخبر به العباس بن أصبغ: [247/أ] عن محمد بن عبد الملك بن ايمن: نبأ إسماعيل بن إسحاق القاضي ببغداد / نبا إسماعيل بن أبي أويس، نبأني أخي (يعني أبا بكر): عن سليمان بن بلال: عن إسحاق بن يحيى بن طلحة: عن ابن كعب بن مالك: عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتغى العلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء، أو ليقبل بأفئدة الناس إليه فإلى النار (26) .. وهذه أحاديث في غاية الصحة، وأولاد كعب بن مالك ثقات كلهم، وهم ثلاثة مشهورون: عبد الله وعبد الرحمن وسعيد؛ فهذا أصلحكم الله وإيانا فتيا نبيكم عليه السلام، وكلام ربكم عز وجل؛ فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون؟ أم أي قول بعد قول الله تعالى وكلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تطلبون وتقرأون؟.. لا كفى الله من لم يكفه قول ربه تعالى، وقول نبيه عليه السلام؛ فالله الله عباد الله.. تداركوا أنفسكم بتصفية نياتكم في هذا الباب، وفي العمل المرغوب في الصلاة والصيام والصدقة، ولا تشوَّفوا في شيء منه قصداً لغير وجه الله تعالى؛ فوالذي لا إله إلا هو: إن من طلب علماً من علوم الديانة؛ ليدرك به عرض دنيا، أو ذكراً في الناس، أو عمل عملاً مما أمره الله تعالى بعمله له فعمله هو لغيره تعالى: لقد كان أحظى له في آخرته، وأسلم في عاقبته، وأنجى له عند ربه تعالى أن يكون دفَّافاً أو بهزرياً (27) .. ووالله لأن يلقى الله تعالى عبدٌ بكل بائقة دون الشرك، لا أخص من ذلك قتل النفس، ولا قطع الطريق، ولا ما دونهما ـ: أخف وزراً من أن يلقاه وقد تدين لغيره وصلى وصام لسواه.
واعلموا رحمكم الله أن من تعمد اللهو واللعب حتى مضى وقت صلاة مفروضة ولم يصلها أخف ذنباً عند الله تعالى ممن صلاها لأجل الناس، ولولاهم ما صلاّها؛ لأن كل إنسان من الذين ذكرنا لم يصل الصلاة التي أمر بها، وزاد هذا الآخر على الأول أن صلاها لغير الله تعالى.. وكذلك من طلب العلم لغير الله تعالى؛ فإنه ترك الاشتغال بما يصلحه في دنياه، وبما يروح به نفسه من البطالة، وأتعب نفسه في أفضل الأعمال، فقصد به التقرب إلى الناس، فوكله الله إلى من قصده.. وقال عليه السلام: [247 ب]: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (28) ، أو كما قال عليه [السلام]؛ فالجدَّ الجدَّ؛ فإن لإبليس اللعين ها هنا مسلكاً خفياً ومدباً (29) لطيفاً، ومولجاً دقيقاً يحبط به الأعمال ويهلك به الرجال.. أجارنا الله وإياكم من كيده وبغيه، ولا وكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك.
وأنا أريكم إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله ميلقاً (30) يعرف به كل واحد منكم وغيركم ممن يقرأ كتابي هذا ـ إن كانت نيته صادقة لله عز وجل، أو مشوبة بقصدٍ إلى غيره ـ، وذلك أن يفكر المرء في نفسه فيما يعمل من طلب علم أو فعل بر فيقول لها: يا نفسُ: أرأيت لو أن من يراني، أو يبلغه خبري من الناس يكون طريقتهم في العلم وفي طلبه وفي عملهم على خلاف ما هم عليه كانوا يكرهون هذا الوجه من طلبي لما أطلب، ولا يستحسنون ما أفعل من البر: أكنت تفعلينه أم لا؟: فإن علم من نفسه أنها كانت تفعل ذلك سخط الناس أم رضوا، نفق عندهم أو كسد فليحمد ربه تعالى وليبشر، فإن عمله وطلبه خالصان.. وإن وجد نفسه تخبره أن الناس لو كرهوا ما يطلب وما يعمل، لم يطلبه ولم يعمله؛ فليعلم أنه هلك، وأن عمله وتعبه عليه لا له، وأنه قد خسرت صفقته، وأنه قد أشرك في نيته وعمله غير ربه تعالى؛ إذ قرن به الناس؛ فمن أضيع عملاً أو أسوأ منقلباً من هذا؟ نعوذ بالله من هذه المرتبة، ونسأله التوقي من هذا.
وليت شعري على ماذا يحصل المسكين الذي يطلب العلم ليحظى به في دنياه؟.. والله لا يحصل من ذلك إلا على دنيا منغصة، ولباس خشن، ولذَّات يستتر بها استتار الغراب بسفاده، ولا يتهناها موفرة، وعلى ما لا يوفي نفسه منها.. ولو طلب الدنيا على وجهها لكان أنفذ لأمره، وأعظم لجاهه، وأكثر لماله، وأوفر للذَّته، وأتم لهيبته، وأقلَّ لوزره، وأخف لعذابه.. ولا يغرنَّكم ما يقول كاذبٌ على العلماء: ((طلبنا العلم لغير الله فما زال بنا حتى ردنا إلى الله))؛ فلعمري إن الله تعالى جدير ألاَّ يبارك كل شيء ابتدأ لغير وجهه عز وجل، وحسبنا الله ونعم الوكيل [248/أ].
وأما إن نوى في عمله أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويحكم بالعدل إن ولي شيئاً من أمور المسلمين، وأن يظهر في ذلك الحق ما أمكنه رضي الناس أم سخطوا، وأحب مع ذلك أن لا يذل ويكرم، وكانت نيته أن لا تأخذه في الله لومة لائم إن آتاه الله حظاً من الدنيا، وسره أن يُؤتى مالاً حلالاً لا يأكله بخلافه ولا يكتسبه بدينه، ولم يترك لذلك أمراً يعتقده حقاً، ولا استعمل لأجل رغبته فيما ذكرنا أمراً يراه باطلاً: فهذه نية خير ومقصد حسن، ومذهب فاضل كانت عليه الصحابة والتابعون وأئمة الخير. وقد قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف (31) وقد أثنى الله تعالى على الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج: 41] والدلائل على كل ما قلنا من القرآن والحديث تكثر جداً، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى.
طباعة

تعليق

 القراءات :932  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 17
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج