(( كلمة الدكتور مصطفى عبد الواحد ))
|
ويشارك في الاحتفاء بالضيفَين الكريمَين الدكتور مصطفى عبد الواحد مدير مركز إحياء التراث بجامعة أم القرى بمكة المكرمة بالكلمة التالية: |
- الحمدُ لله حَمداً كثيراً طيباً طاهراً مُبَاركاً فيه، والصلاة والسلام على خير خلق الله وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. |
- وبعد، فقد شدني إلى هذا اللقاء نبأ تكريم الأخ الدكتور محمد رجب البيومي، وقلت: هذا رجل تأخر عنه التكريم كثيراً ونسيته أمة، جاهد من أجلها بقلمه ولسانه وهو أبعد ما يكون عن الأضواء، وأزهد الناس في المدح والثناء، قلت: لا بد أن أسرد في هذا اللقاء شيئاً مما عرفته عنه عن كثب، وأستميحه العذر في أن أكشف بعضَه. |
- عرفت الأخ الدكتور رجب البيومي قبل ستة وعشرين عاماً، وكان كما هو العهد به الآن يؤثِر الأقاليم، كان في إقليم الفيوم أستاذاً أو مدرساً أولاً في دار المعلمات، وهو رجل ملأ الدنيا بكتاباته، كانت "الرسالة" تفسح له مكاناً أثيراً في صفحاتها، وكانت المجلات الأدبية في مصر والشام وغيرهما تُحلّه محلاً متميزاً، ومع ذلك فهو هذا الإنسان الزاهد في الألقاب، البعيد عن المناصب، وقد جمعنا لقاء مرة، فقلت له: أنا فلان فإذا به يُسبغ عليَّ الكثير من التشجيع والثناء، وكنت ما أزال في عالم الكتابة أو التحقيق، فإذا به يخبرني أنه أشار إلى كتاب حققته في مقال له في مجلة "الأزهر" وكان الكتاب هو "ذم الهوى" لابن الجوزي الذي حققته قبل ثلاثين عاماً، قال جعلته من مصادري وأشرت إليه، وما هي إلا أيام وإذا بالأستاذ الشهير العالم الجليل، إذا به بعد أيام يأتي ليزورني وأنا الذي أُعد في ذلك الوقت متلقيِّاً عنه وما أزال، وإذا به رجل كلما جلست معه، كما أشار الأستاذ أبو مدين، يُفيدك علماً، ذو ذاكرة واعية، وذو تجارب كثيرة، جالَس الكبار أمثال أحمد أمين والزيات وفريد وجدي وكان على مذهب التواضع وإخفاء النفس وترك الجهد يتحدث عنه. |
- كم كانت لنا من لقاءات في أماكن كثيرة أستمع وأستزيد كلما سألته في موضوع ذكر لك مراجعه وذكر لك من تحدث فيه، بل أتاك بمجلات مضى عليها ثلاثون عاماً يحفظ أماكن البحث فيها ويعرف أسماء من تصدَّوا لها، ما زال كذلك حتى جاءت موجة الألقاب العلمية وكان أزهد الناس فيها، فإذا هو يدخل ميدانها بعد أن تأخر عنها لظروف عمله، لكنه يكتسح وتظهر موهبته وما زلت أذكر مناقشته في "الدكتوراة" والدكتور مهدي علاَّم يُناقشه قرابة أربع ساعات، وهو أستاذ لا يقل مكانة عمن يناقشونه، لكن أدب العلم وتواضع العلماء جعله يسير في هذا الطريق. |
- ثم بعد ذلك ماذا لقي من العقوق، وهو الذي ملأ الدنيا بحثاً وشعراً وإبداعاً إذا به يُؤثر عليه من هو أبعد الناس عن مواهبه، وإذا بمناصب الجامعة تُعطى لغيره، وهو ساكت عازف، وأذكر باطلاعي على هذه الأحوال أنه أُخذ عليه تعهد في جامعة الأزهر أن يقبل التدريس في قسم البلاغة بدلاً من قسم الأدب الذي هو اختصاصه، فقبل وأوثر عليه غيره في قسم الأدب ممن لم تكن له قصاصة ورق واحدة مطبوعة، لكنها الدنيا وأثرة أهلها، لكنهم الأدباء وأصحاب العقول الراجحة يلقَون دائماً العقوق والعَنَت لأنهم لا يزاحمون بالمناكب، ولا يتصدرون المجالس ولا يُعلنون عن أنفسهم بالحق والباطل. |
- ثم بعد ذلك جاء الأستاذ بعد حين إلى جامعة الإمام محمد بن سعود، وقد كنا على موعد أن يأتي إلى جامعة الملك عبد العزيز في عام ألف وثلاثمائة وواحد وتسعين من الهجرة لكنهم أيضاً ضَيَّقوا عليه فلم يسمحوا له بالخروج إذ إنه لم يُمضِ سنوات النظام الثلاث التي تُشترط حتى يخرج، وجاء إلى جامعة الإمام محمد بن سعود حيث كانت له الجولات الموفقة، وحيث ظهر فيض علمه، وحيث ظهرت عبقريته ومواهبه المتعددة ولكن سبحان الله، ما هي إلا سنوات حتى ابتُلي بفقد زوجته وكان لها مُحِبّاً ومُكرِماً وفي شعره الكثير مما كتبه في رثائها، فإذا به يترك بعثته كما كتب لي في هذه السنة، تركها أنضر ما تكون وأحسن ما تهيأت لكي يرعى أولاده وبناته، ورجع وهو راضٍ بما قسم الله له، وزاهد في المال، بل لا يزال زاهداً حتى اليوم، فهو أبعد الناس عن الرغبة في هذا الحطام فهو يعيش دائماً كما ترونه كأنه يُحلق في عالم خاص، وكأنه دائماً حتى وهو يسير في الطريق يستذكر فكرة أو يُراجع مسألة، أو يُلمُّ بخاطر حتى عُرض عليه بعد ذلك كثيراً أن يأتي إلى جامعة أم القرى في سنوات متعددة فكان يعتذر، وما زال ذلك شأنه حتى سنوات قليلة منذ التقيت به. |
- أستاذنا البيومي يتميز بشيء، ولا أريد أن أمِلَّ أو أُطيل يجب أن يُسجَّل له، لقد دفع بأيدي كثير من المغمورين، وسُرَّ بإلقاء الأضواء عليهم، وأذكر من تجاربي معه أنه ما كان يكتب في مجلة إلا اقترح عليَّ أن أكتب فيها، فأقول له ولكني لا أعرف المسؤولين فيها فيقول: أنا أُعرِّفهم بك، وبالفعل كان له الفضل في وصلي ووصل غيري، وكان يفرح بذلك عندما يكون اختياره موفقاً وعندما يجد أن الذي اختاره قد أثبت جدارته. |
- كذلك البحوث العلمية، أذكر قبل سنوات عندما كنت أكتب عن "ابن شرف القيرواني" التقيت به صدفة وقلت له: إني أكتب عنه فأين شعره؟ إذا هو يرسل لي كتاباً لا يزال أمانة عندي: "النُتَف من شعر ابن رشيق وابن شرف" وكان مطبوعاً قبل خمسين عاماً يحتفظ به في مكتبته، فأرسله إليّ في أقرب مُدَّة، فأفدت منه، ما من شيء يُسأل عنه فيكتمه، أو ما من علم يُطلب منه فيبخل به، وكذلك طلابنا في الدراسات العليا، كم أرسلنا إليه وهو في المنصورة في إقليمه المحبّب مسقط رأسه، كم أرسلنا إليه طلاباً وطالبات يتصلون به ويهاتفونه ويسألونه المشورة ويسألونه المراجع فيرجعون جميعاً شاكرين مما أفاض عليهم من توجيه. |
- الأستاذ البيومي لا يحتاج هنا إلا إلى إبراز جانب في تراجمه التي كتبها في علماء العالم الإسلامي أو زعماء النهضة، إنه لم يفرق بين قُطر وقُطر، بل ترى أنه رصد رصداً محكماً لكل الزعامات الإسلامية والمواهب العلمية فأشاد بها في الشام والعراق والحجاز ومصر، بل وغير المسلمين الذين دخلوا في الإسلام كاللورد "هتلي" الذي ألَّف الجمعية الإسلامية بعد أن أسلم فكان كتابه هذا إنصافاً لهؤلاء ورفعاً لأقدارهم ورداً للظلم عنهم، وتحس في كتابته عنهم أنه محامٍ، وليس مجرد مُترجِم، إنه رجل يدفع عنهم العقوق والنكران ويشيد بجهودهم ويبرئهم من الافتراءات التي أُلصقت بهم. |
- وأذكر أن أستاذنا الشيخ الغزالي فرح كثيراً عندما كتب عنه الدكتور البيومي في بعض كتبه فأشاد بها وقال هذه موهبة نادرة، عندما يكتب لا يكتب مجرد عرض علمي أو عقلي، لكنه يخلطه بعاطفته ووجدانه ويطرب له، ومن هنا يأتي تأثيره، يحتاج الدكتور البيومي إلى من يتحدث عنه شاعراً فحلاً محافظاً على نظام الشعر العربي، وما زلت أذكر قصيدته التي نشرها قبل سنوات في فكرة عجيبة، وهي القمر عندما يسقط على المقابر، ماذا تنتفع منه المقابر؟ ومطلعها على ما أذكر: |
أنِرْ ظلمة الأجداث إن كنت تقدر.. |
|
|
- القصيدة في غاية العجب، يتحدث فيها عن أن الموتى قد انقطعوا عن هذه الحياة فلا يحُسون بضياء القمر ولا ينالهم شيء مما نحتفل نحن به، تأملاته وشعره أشبه ما تكون بشعر العقاد في جانب لكن مع الجمال مع الحيوية مع النضرة ولم يتورط في شيء غير ذلك فيحتاج إلى من يتحدث عنه ناقداً ويحتاج إلى من يتحدث عنه مؤرخاً، ويحتاج إلى من يتحدث عنه أديباً مُبدعاً في جانب القصة والمسرحية الفصحى، ناصَر العربية وتغنّى بجمالها واستخدمها في هذه الفنون الأدبية، فجعلها طيِّعة سهلة، ولا أستطيع أبداً في مثل هذه التحية المتواضعة أن أُلِمّ بشيء من ذلك، ولا أن أُلِمّ به مؤرخاً، ولا أن أُلِمّ به مفسراً أو متحدثاً عن المجاز في القرآن، وكتابه في إعجاز القرآن، خطوات التفسير البياني للقرآن، هذا الكتاب مرجع من المراجع الأصيلة في موضوعه، استطاع به أن يثبت الإعجاز القرآني وأن يتتبع خطواته في أقلام القدماء وأن يُبين إجادة من أجاد منهم ومواضع النقص والزلل في بعض من تكلموا، ولكني أقول إن الدكتور البيومي يحتاج إلى من يُعالج هذه المسائل كلها في تراثه الحي المكتوب، ومن يعرف الناس بأدبه وعلمه، ومن يفيدهم من ضيائه، ولله الحمد أن شرف تكريم هذا الأستاذ العظيم قد أتيح لنادي جدة الأدبي ثم الليلة للأخ الفاضل الأستاذ عبد المقصود خوجه، ونرجو أن يكون ذلك فاتحة لتكريمه على مستوى عالمنا العربي. |
- في ختام هذه الكلمة وما كنت أعرف أن الأخ الحبيب الشاعر المبدع الأستاذ فاروق شوشة سيشرف هذا اللقاء لكني سررت به، أعظم سرور، ولكنا نعرف من هو فاروق شوشة الذي حبب الناس في الشعر العربي وفي اللغة العربية، ويقف حارساً أميناً لهذه اللغة الجميلة التي تُحاك لها المكائد وتُدبر لها الخطط المدمرة، وقد قرأت قبل أيام قليلة لأحد الكتّاب ذوي الميول الخادعة المفتونة يقول، وقد كتب مقالاً أسقط فيه الإعراب ثم كتب في الهامش: تعمدت إسقاط الإعراب لأن هذه خُطّة يجب أن نتمسك بها لتقريب اللغات الدارجة من الفُصحى ومنعاً للحذلقة! الإعراب أصبح حذلقة، ولكن فاروق شوشة عندما ينطق باللغة ويجعلها تُضيء ويجعل الشعر كأنه عالم كوني بهيج، فإنه يحبب الناس في هذه اللغة، حتى عندما يقرأ الأبيات التقليدية التي سمعناها كثيراً يضفي عليها من الحياة والروعة ما يجعلها أشجى ما تكون في الآذان، فاروق شوشة على ثغر عظيم من ثغور هذه اللغة وقبل أيام كنت أقرأ قول شوقي: |
وصُن لغة يحق لها الصيان |
فخير مواهب الأمم البيان |
ألم تَرهَا تُنال بكل ضَيْر |
وكان الخير إذ كانت بخير |
|
|
- أيها الإخوة، نحمد الله على هذا اللقاء، ونشكر الأستاذ عبد المقصود خوجه، كما نشكر أيضاً الأستاذ عبد الفتاح أبا مدين لاحتفائه بالدكتور محمد رجب البيومي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|