(( تعقيب الأستاذ عبد الفتاح أبي مدين ))
|
ثم يعقب الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين على كلمة فضيلة الشيخ حبنكة بما يلي: |
- أيها السادة، الساعة بلغت الحادية عشرة وثلاثين دقيقة، وهناك ضيوف أتَوا من مكة المكرمة، وأمامهم غداً أعمال ينبغي أن يؤدوها، فالوقت قصير بالنسبة للتعليقات، وهي مقتصرة على الأسئلة، فإذا كان هناك ما يدعو إلى الأسئلة لضيف هذه "الاثنينية"، فأرجو الاقتصار على الأسئلة فقط حتى نكسب الوقت، لأننا بدأنا متأخرين وينبغي أن ننتهي قبل الساعة الثانية عشرة إن شاء الله لأن أمامنا عشاء، وبعد العشاء أمامنا أو أمام أكثرنا سفر، وشكراً لكم. |
|
ثم تقدم المهندس عبد القادر كوشك بسؤالين للمحتفى به، فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم، لقد سعدت هذا اليوم بلقاء معالي الدكتور عبد السلام المسدِّي، وبهيج أن أشارك في الاحتفاء به في المملكة العربية السعودية وفي جدة، ونشكر الأستاذ عبد المقصود خوجه على دعوته لنا لحضور هذه الأمسية. |
- السؤال: هل هناك لغة عامية ولغة فصحى في الجاهلية وفي أوائل العصر الإسلامي؟ والسؤال الثاني ما هو رأيكم في استخدام اللغة العامية في كثير من وسائل الإعلام في العالم العربي كالتمثيليات وخلافه؟ شكراً. |
|
ويجيب سعادة الدكتور المحتفى به قائلاً: |
- شكراً لهذه الإضاءات الجديدة حول ما نحن بصدده من محاولة استكشاف جماعي لخصائص الظاهرة اللغوية بما لا شك يعود بالنفع علينا جميعاً، إذ يمكّننا هذا الحوار - إن على اتفاق أو حتى على اختلاف الرؤى - يمكننا على الأقل من أن ينبعث فينا من حين إلى آخر شيء من الشك أو شيء من يقظة الحس لنعاود أنفسنا بأنفسنا فيما نظنه أحياناً من القناعات المترسبة في أعماقنا، مع جزيل الشكر لما تفضل به أستاذنا الفاضل من إيضاحات لأبعاد البيان في اللغة، ما نحن في ذلك مختلفون، أريد فقط من باب استكمال الحيرة الجماعية أن أعقب بأن النموذج الذي تفضل به الأستاذ الفاضل في تصور اللغة باعتبارها أداة بيد الإنسان يُعبر بها، إن هذا النموذج هو النموذج النظري، هو النموذج المجرد الذي به نتحدث عن اللغة، أعني أننا نتحدث عنها باعتبارها أداة بيد الإنسان ليس لها من وظيفة أساسية إلا وظيفة تمكينه من أن يُعبر عما يريد أن يُعبر عنه. |
- والحقيقة أن الإنسان أيَّاً كان، وفي أي ظرف، ما كان له أن يتكلم لولا أنه يريد أن يُبلغ شيئاً إلى طرف آخر، بل لو كان الإنسان قادراً على أن يستعمل اللغة وليس في ذهنه، على الأقل من الناحية النظرية، ليس في ذهنه أن هناك طرفاً يتلقى كلامه لما تكلم، ولو تكلم لنُعت بما تعرفون. يتنفس باللغة وإذ يقول: "آه"، فإنما - من حيث يَعي أو لا يَعي يريد أن يُسَمعَ آهَه شخصاً حاضراً بينه. |
- اللغة من حيث هي تركيب ونظام، هي قبل كل شيء تجد علة وجودها في من سيتلقاها قبل أن تجد سببها الأساسي فيمن ركّبها وخاطب بها، ومن هذا الباب فإننا إذا افترضنا أن فلاناً ما، قد أفاض به شخص ما بحضرة جمع من المتقبلين، ولو افترضنا أن هذا الكلام كان في أيسر تركيب ليُبلغ به أيسر خبر، كأن يكون نقلاً أو وصفاً لحادثة عابرة مرَّ بها، فإن السؤال المطروح: هل إننا واثقون بأن الذين سمعوا ذلك الكلام في تلك اللحظة المعينة، قد تقبلوه تماماً بنفس الخصوصيات الدلالية، أليس من الموثوق به أن كل واحد يتلقى الكلام من خلال مخزون في التجربة يُلوِّن دلالة الكلام تلويناً يصبح به مختلفاً بعض الاختلاف من متقبِّل لآخر؟ بل ألا يحصل أن نفس الكلام يتلقاه الإنسان ساعة ثم يتلقاه ساعة أخرى فيدرك هو نفسه أنه قد تلقاه في المرة الثانية على غير ما تلقاه في المرة الأولى؟ أمعنى هذا أن الدلالة مضبوطة وكأنها منسقة وكأنها نسقية منظمة، ما الذي يحصل في اللغة حتى يتبدل إدراك الإنسان لدلالة الكلام نفسه من لحظة لأخرى، ومن ظرف لآخر، ومن حضور لآخر، ذلك هو ما تتمتع به اللغة من تعددية الأبعاد الدلالية بإيحاءاتها ومخزونها المفهوم أولاً، ثم لنقل ما يجب أن نقوله وبلغة صريحة في مصطلحات قد تبدو لبعضنا نشازاً. |
- إن اللغة ليست بريئة إطلاقاً، إن اللغة المجسمة البراءة المطلقة حُلم من أحلام الإنسانية، إن اللغة طرف مسؤول يتحمل مسؤولية التواصل البشري فيما بينه، وليس غريباً أن كان من معجزة الخلق - إن شئتم - أن الألسنة تختلف وأن الظاهرة تبقى واحدة، إن القوانين التي تتسلط على الظاهرة اللغوية تنطبق على اللسان البشري مهما كانت مرتبة تجلّياته. |
- ولا ننسى أن الله سبحانه وتعالى قد اتخذ من أسباب أو من الدلائل المحُتج بها على معجزة الخلق قد اتخذ اختلاف ألسنتكم، فاختلاف الألسنة والغرض واحد والمقصد واحد، بل لنقل اليوم بمعارفنا، والنظام بقوانينه ونواميسه واحد، هو سر المعجزة، وإذا كان منطق الأشياء قد فرض على الفلاسفة أن يبحثوا عن دليل للوجود، ومنهم من راح يبحث عن الدليل الذي به يستدل الإنسان على أنه موجود قبل كل شيء، فقال بعض روّادهم: "أنا أفكر.. فأنا موجود" فاتخذ التفكير حجة على الوجود، لعل النظر المتمحّص فيما نحن بصدده يمكن أن يشتق من مفاهيمنا العربية الإسلامية، من منظورنا العربي الإسلامي للظاهرة اللغوية ولأهميتها ولمعجزتها أن يتخذ اللغة ذاتها دليلاً على الوجود ودليلاً على قدرة الإنسان على أن يُمارس الوجود، ولنتذكر في هذا المقام كيف ساق الله سبحانه وتعالى في مسلك التضمين ما يؤكد أن اللغة هي حجة على الوجود باعتبار أن اللغة أو أن ممارسة الإنسان للغة هي الحقيقة المسلَّم بها أولاً وأخيراً إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون. |
- فهذه المعادلة الدقيقة بين اليقين المطلق واليقين المستمد من اللغة دليل آخر على أن اللغة تخرج عما كان يتخيله الإنسان من إمكانية حصرها في قبضة محدودة محصورة. |
- كذا نؤكد أن مفهوم البراءة اللغوية، البراءة التي يُخيل بها أن دلالة اللغة هي من باب واحد مع واحد يساوي اثنين، أن براءة اللغة إنما تكمن فيما نسميه اليوم بتعددية الأبعاد الدلالية في الظاهرة اللغوية. |
- أصل إلى الإجابة عن السؤال الذي تفضل بإلقائه الأستاذ الكريم حول الفصحى والعامية، وما تؤكده البحوث تاريخياً في مستوى الجاهلية وما بعد الإسلام، أريد ويتعين علينا الإيجاز لذلك سأجيب باختزال إن شئنا أو بلغة تلغرافية: منبت هذا الاستفسار ما عم الأبحاث قديمها وحديثها من احتمال أو من الظن بأن اللغة العربية بحكم ارتقائها لا يمكن إلا أن تكون لغة من الدرجة الثانية، ولا يمكن لها أن تكون لغة من الدرجة الأولى، بمعنى أن ابتعاد الواقع عن ممارسة اللغة العربية في بُعدها اليومي في حياتها اليومية، جعل بعضهم يتصور أن اللغة العربية لم تكن من أساسها قادرة على مواكبة الحياة اليومية، وبالتالي يُفترض أن لغة ما كانت ترافق اللغة العربية الفصحى، ربما منذ الجاهلية وصدر الإسلام تمثل اللغة اليومية، أو تمثل لغة التخاطب أو لغة قضاء المآرب، وأن نمطاً معيناً من اللغة كان هو ذاك النمط الفصيح الذي عليه وبه نزل القرآن الكريم، والحقيقة المنطقية أن اللغة العربية لو لم تكن لغة الأداء المباشر منذ الجاهلية لما كان لمعجزة القرآن باللغة العربية معنى، فأن جاء القرآن متحدياً العرب بنصه وبفصيحه، فمعنى ذلك أن العرب كانوا يتكلمون اللغة بذلك النظام النحوي والصرفي والصوتي، ولكنه ارتقى إلى منزلة من الإبداع ومرتبة من الإعجاز تجعلهم قادرين على فهم ما يتلقَّونه عاجزين عن أن يصوغوا مثله. ولذلك فإن القضية محسومة، على أن أشياء أخرى، يُمكن أن تضاف لو كان الوقت سامحاً بذلك، ولكني أعتذر للأستاذ الفاضل صاحب السؤال على هذا الاختصار، وأمرّ مباشرة بإيجاز إلى استعمال العامية في وسائل الإِعلام وأقدم الجواب فضلاً دون تحليل، يظن البعض أن من واجبهم أن ينزلوا باللغة إلى من يفهمها من شائع الناس وعامتهم، وفاتهم أن التثقيف واستعمال اللغة كان يفترض أن يستعملوا اللغة التي تجر المستمعين إليها ليرتقوا هُم إلى مستواها دون أن تنزل هي إلى مستواهم. |
- ولاشك أن وراء هذه القضايا أسباباً أخرى، ولكننا من الناحية الفكرية، من الناحية العرفية، من الناحية العلمية، نقول بأن الظن السيئ بالمتلقي في أنه يفهم أو لا يفهم ظن خاطئ وكان الأجدى أن يُظن به حُسن ظن، بحيث يقدم إليه الدلالة أو المعنى بلغة يرتقي هو إلى إدراكها، لا سيما في وطن عربي لغته اللغة العربية وفي وطن مسلم لغة دينه العربية، شكراً. |
|
|