شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخطاط الشيخ إبراهيم خلوصي الحلواني والمدرسَة الابتدائية..
... كلما أخذت القلم لأخطَّ به جملة تعبيرية أو جملة حسابية تذكرت (كتاب) الخطاط الشيخ إبراهيم خلوصي الحلواني.
وكنت كلما مررت بباب الزيادة من أبواب الحرم الشريف تذكرت زاوية السمّان تلك التي كانت تقع خلف بناء دار آل سنبل - وكان بتلك الزاوية (كتاب) الخطاط - الشيخ الحلواني.
وعناية الحجازيين والمكيين بدراسة الخط والإنشاء وعلوم الحساب مشهورة وقديمة جداً، وقد اشتهر منهم الكثير من الخطاطين الذين برزوا في رسم الخط العربي. ولا غرو في ذلك وتراثهم نثراً وشعراً وتوجيهات يزخر بعلم رسم الخط والإنشاء وعلم الحساب، وقديماً قالوا "القلم أحد اللسانين" وقيل لبعضهم: إن فلاناً لا يكتب، فقال: تلك الزمانة الخفية (1) :
وقال بعض الشعراء في القلم:
عجبت لذي سنين في الماء نبته
له أثر في كل مصر ومعمر
وقال حبيب الطائي يصف القلم:
لك القلم الأعلى الذي بثباته
يصاب من الأمر الكلى والمفاصل
له ربقة طل ولكن وقعها
بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب
وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفر
غت عليه شعاب الفكر وهي جوافل
أطاعته أطراف القنا وتقوضت
لنجواه تقويض الخيام الجحافل
تراه جليلاً شأنه وهو مرهف
ضنى وسمينا خطبه وهو ناحل
وقال آخر:
إذا استعجلته الكف أمطر خاله
بلا صوت إرعاد ولا ضوء بارق
وقال عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز عندما وجَّهه إلى مصر:
تفقَّد كاتبك وحاجبك وجليسك، فإن الغائب يخبره عنك كاتبك والمتوسم يعرفك بحاجبك والداخل عليك يعرفك بجليسك..
واستطرادنا هنا الذي جاء عرضاً لم يبعد بنا عن حديث الذكريات فذكرياتي هنا عن دراستي "رسم الكتابة أو الخط" قلت: وكان الشيخ الحلواني قد ألّف كتاباً أسماه (تحفة الناظر ومرشد الصيرفي والتاجر) وهو عبارة عن كتاب يستفيد منه الطالب في رسم الخط ويتعرف على قواعد أصول الحساب التجاري، ومن أظرف ما كتب في أول صفحة منه أبيات شعرية تقول:
إن علم الحساب علم رفيع
فيه خير إذ تشتري وتبيع
لم يضع قط درهم بحساب
وألوف بلا حساب تضيع
فعلى يد ذلك الشيخ وفي تلك الزاوية تعلمت الخط والحساب وكان أكثر الطلبة من أخواننا الحضارم، فهم الذين ينهمكون في الأعمال التجارية وتنحصر غالبيتهم بتوجيه أبنائهم لدراسة الخط كتابة والحساب والإنشاء لأصول المكاتبات التجارية التي كانت تجري باللغة العربية بينهم وبين وكلائهم في مكة وجدة ومن يعاملهم في الجزيرة وفي أنحاء المملكة ويكفي أن يخرج الابن وإن كان في سن البلوغ أو قبله عارفاً بأصول الأعمال التجارية التي يحتاجها والده في مبسطه أو في أحد دكاكينه التي يزاول فيها عمله التجاري.
إن لهذا الخطاط كبير الأثر في نفسي فقد كان رحمه الله كثير التلاوة للقرآن الكريم كان في كل يوم من أيام رمضان يقرأ المصحف كاملاً. وفي كل يوم من أيامه العادية يقضي بعد صلاة الصبح وقتاً في المسجد الحرام يتلو شيئاً من المصحف ثم ينتقل إلى مركزه التعليمي في باب زيادة مواصلاً قراءته لآي الذكر الحكيم في الوقت الذي تجد الطلبة منهمكين في التسويد والكتابة المكررة بقصد التحسين، وكان الخط أو كانت الكتابة بأقلام البوص ودواة الحبر الأسود المعروفة.
ولقد استفدت كثيراً من هذا الخطاط ومن الإنشاء الذي كان يمليه علينا في فترات لمرتين في اليوم صباحاً وبعد صلاة الظهر بعدها نذهب إلى منازلنا - للغداء - ثم نعود للدراسة حتى صلاة العصر بعدها نعود إلى منازلنا وفي فترة ما بين العصر والمغرب كنا نكون مجموعة من الطلبة لنتفرغ لأنفسنا ونزاول بعض الألعاب إما داخل مكة أو في ضواحيها أحياناً.
فقد كنت والأخوان الذين أذكر أسماءهم - الأخ محمد باحارث والأخ علي زين العابدين وغيرهما ممن كنا نجتمع معهم عصر كل يوم في حارتنا، حارة الشبيكة حول المقبرة وهناك كنا نلعب (الكبت) وأيضاً كان بعضنا يتسلى بالعدو - والمسابقة جرياً - هذه ذكريات طفولة حية أصبحت ذكراها في نفسي من أحلى الذكريات فما أجملها ذكريات مرت بين مدرسة الشيخ أمين ماحي وبين كتّاب الشيخ الخطاط الشيخ إبراهيم خلوصي الحلواني في باب الزيادة ومراتع الصبا ومسارح الشباب - وقد ذهب كل من هؤلاء وأولئك إلى حياة يسرت له، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من بقي وقد سلك في حياته التجارية مسلكه، وآخرون توظفوا فمنهم من التحق بالسلك العسكري وآخرون بالسلك المدني وآخرون وآخرون.
... سبق حديثي عن مدرسة الخطاط التي كنت بها فقد استفدت منها كثيراً وكنت شديد الحرص بل كنت مصمماً على أن يكون خطي جيداً ونظيفاً ومستقيماً في خطوطه وحركاته ونبراته وكان لي ما كنت أرجوه - وكان المدراء والأساتذة في ذلك الوقت يرون شيئاً من النباهة ممثلة في إجادة الخط، لدى الكاتب...
فهمت ذلك عندما قال لي الشيخ عبد الله خياط: كيف يلحقونك بالفصل التحضيري وأنت على هذا المستوى من حسن الخط، كما كنت أيضاً أحفظ الكثير من التعابير الإنشائية وحين عرف الأساتذة مني ذلك جمعهم فضيلته وطلب أن يلحقوني رأساً بالسنة الأولى الابتدائية، وبذلك كان له الفضل في تقدمي في تلك الفترة من حياتي الدراسية وأخذت الشهادة من المدرسة الفيصلية وفي السنة الثانية انتقلت إلى المدرسة العزيزية وكان رئيسها يومئذٍ الشيخ محمود ميرزا رحمة الله عليه فدخلت في مطلع الدورة الأولى الدراسية وأذكر ممن كان معي - الأخ حسين بكري قزاز تاجر العطور المعروف الآن، والدكتور عبد العزيز كردي وكنا في سن واحد من العمر ووجَّهنا معاً إلى فصل واحد في السنة الثانية الابتدائية وكانت المدرسة يومها في محلة الشامية وممن أذكرهم من أساتذتها - الشيخ محمد بخش والأستاذ صدقة منصوري، والشيخ عبد الغني زمزمي والشيخ علي يماني عليهم رحمة الله جميعاً. فقد كنت أذكر جمعهم مع المدير في مكتبه يوم أن صرفت لنا الكتب.
وبدأنا الدراسة كما قلت في السنة الثانية الابتدائية وكان أكثر طلابها من أبناء التجار في سويقه والمسعى وهي في أرقى أحياء مكة باعتبارها تقع في وسط المدينة بالنسبة إلى المسجد الحرام والمحلات المحيطة به.
وأمضينا في المدرسة السنة الثانية والثالثة.. وجيء لنا بمدير جديد هو المرحوم الشيخ عبد الله طاهر الساسي، وإذا كان الأمر كما يقولون إن لكل جديد جولة وصولة فقد رأينا ما تقدَّم به فضيلته من مقترحات كان منها - إقامة حفلات أسبوعية ليتبارى فيها نجباء الطلبة وليعرف منهم مدى قدرتهم وجسورهم على الخطابة المرتجلة، وأذكر ممن كان يحضر هذه الحفلات من رجال المعارف، السيد إسحاق عزوز والشيخ إبراهيم نوري والكثير من الأساتذة، وكما قلت فقد كان يطلب من الطلبة إلقاء الخطابة ارتجالاً مع حسن الأداء في الإلقاء كما طلب منهم أيضاً أن يحضّروا ما يستطيعون تحضيره من بحوث ومواضيع إنشائية وقصص قصيرة. وقد أحدثت هذه التطورات في المدرسة انتباه الكثير من رجال العلم والأدب فقد كان يحضرها أولئك الذين كانوا يشرفون على جريدة (صوت الحجاز) التي كانت تصدر أسبوعياً من حي الشامية فقد كانت إدارتها بالشامية وكانت هناك عدة شركات كنا نقرأ لوحاتها فكانت هناك شركة الطباعة والنشر، وشركة الصادرات، وإدارة مشروع القرش، كل هذه كانت مع دار المطابع التي تطبع (جريدة - صوت الحجاز) وكما قلت إن تلك الحفلات كانت موضع تقدير الجميع فكان الأدباء يشاركون فيها وكثيراً ما كنا نذهب إليهم بإدارة الجريدة وكنا نلقى هناك: الشيخ أحمد السباعي، والأخ حسين خزندار والأساتذة حسين عرب والسيد معتوق حسنين وبعض الأخوة الآخرين ممن كانوا في المطابع وممن أذكرهم الأخ عباس سنبل والأخ الشيخ أحمد رشيدي. فكانوا يأخذوننا إلى مكان المطابع لمشاهدة كيفية رص الحروف وطبع الجريدة حتى كنا نقضي معهم أوقاتاً استفدنا منها الكثير وبالذات من الهيئة المشرفة على طبع الجريدة (صوت الحجاز).
بقي أن نعلم أنه لم تكن هناك دراسة متوسطة إذ كان الطالب ينتقل من الابتدائية رأساً إلى الأولى الثانوية ثم إلى المعهد العلمي السعودي، أو مدرسة تحضير البعثات.
...... وعندما يتذكر الإنسان أحداث حياته أيام طفولة الدراسة يشعر بنشوة عجيبة ربما يكون مصدر هذه النشوة حب الإنسان لحياة الصغر - أننا أيام كنا في مروج الصبا كنا لا ننفك نجلد الزمان ليسرع في الوصول بنا إلى غابات الشباب عالمين حق العلم أنه سينتقل بنا من بعدها إلى واحات الكهولة فصحراء الشيخوخة فإذا تخطينا الشباب وما بعده من مراحل وددنا لو يعود الزمان بنا إلى أيام الصبا لنحياها من جديد ربما يكون هذا هو سر حفظنا لذكريات طفولة الدراسة.
في عام 1357 هـ كنت من طلبة المدرسة العزيزية بالشامية بعد نيلي للشهادة الابتدائية من المدرسة الفيصلية وكان تدرّجي للدراسة بين مدرسة الشيخ أمين ماحي وقبلها الكتّاب وبعدها مدرسة الشيخ حلواني - وحين أردت الانتظام في سلك المدارس الأميرية كما كانت تسمى في ذلك الوقت تقدمت للاختبار في المدرسة الفيصلية: من الشيخ علي حمام رحمة الله عليه والشيخ عبد الرحمن باحنشل - وقررا تأهيلي للالتحاق بالسنة الثالثة التحضيرية وقد كان يومها مدير المدرسة الشيخ عبد الله خياط إمام المسجد الحرام وخطيبه ورئيس مدرسة الأمراء الراقية - أمدّ الله في عمره كما كان قبل ذلك مديراً للمدرسة الفيصلية وكان معه من الأساتذة، محمد غزالي خياط، الأستاذ رشدي العظمة، الأستاذ عبد الرحمن باحنشل، الأستاذ عبد الله حجازي وغيرهم ممن لا تحضرني مسمياتهم.
قلت: وذهبت لمدير المدرسة الشيخ عبد الله خياط لتسلُّم الكتب المدرسية، فقال لي: حضِّر ورقة لتسلُّمك الكتب واكتب بياناً بها. تصوروا معي كيف كنا نقدِّر الأساتذة ونهابهم، فما بالكم بمدرائهم كمثل الشيخ عبد الله خياط.
إنني أتذكر الآن وقفتي معه وأنا في حالة ارتعاش لا خوفاً ولكن مهابة وتقديراً للعلم ورجاله.
كما كان هو أيضاً ساعتها في غاية من التجهم والأنفة بحكم المنصب العلمي.
كذلك كانوا وكذلك كنا لكنهم كانوا أيضاً خبراء نفوس وبناة أجيال يفيضون رقة وعطفاً كما يفيضون علماً وتوجيهاً وكأني بشاعرنا يعنيهم حين يقول:
إذا قيل رفقاً قيل للحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
أو قول المتنبي حين يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأخيراً قدمت له البيان وكتب هو بدوره بياناً بالكتب التي تسلَّمتها..
* * *
.. سيل الأربعاء أو سيل الستين !!
كثيراً ما يحلو الحديث عن الذكرى والذكريات شؤوناً وشجوناً إذا كانت عن مكة التي شرَّفها الله.
وقد سمعنا الكثير منها في ليالي السمر والمجالس القديمة وقرأنا الأكثر مكتوباً في التاريخ وها نحن نحتفظ بما شاهدناه وليس الخبر كالعيان.
إضافة إلى أننا عندما نستعرض حادثة جديرة بالتذكير والتسجيل نضيف إليها - ما لمسناه من اهتمامات أبناء البيت السعودي التي لا تقف عند مجرد التألم وتقديم الإسعاف في اللحظة والحين، وإنما يمتد عملها إلى التفكير بأخذ العظة والعبرة مأخذ الاستفادة منها حتى يكون القول رفيق العمل، وهذه مشاهدات ووقائع بدأ بحركتها باني هذا الكيان الكبير ورائد نهضتنا جلالة المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود تغمده الله بواسع رحمته.
كلنا يعلم.. أن مكة حرسها الله بمسجدها الحرام تقع في (وادي) تحيط به الشعاب والمنحدرات من كل جانب، قمم وجبال وسفوح تنحدر مياهها إذا هطلت أمطارها فتمرُّ بالوادي فتفعل أفاعيلها لتخلِّف وراءها مجموعة من الأضرار تلحق بالدور والإنسان والعير والجماد.
وقد انتاب مكة منذ أقدم العصور الكثير من أخطار السيول الكبيرة التي تنساب مياهها من جبال مكة فتلتقي مجمعة في وادي إبراهيم فتنساب إلى المسجد الحرام الأمر الذي يؤدي في الغالب إلى إغراق المسجد بالماء..
وها هم مؤرخو مكة المكرمة في كتبهم، كالأزرقي، والفاكهي، والفاسي يذكرون الكثير من هذه السيول وأضرارها وقد تعرَّض لها الشيخ الكردي في مؤلفه - التاريخ القويم - حتى نهاية عام 1384 هـ وبعد هذا التاريخ جاء سيل 1387 هـ لكنه كان أخف وطأة وأقل تدميراً لأن كثيراً من تحصينات التطور والاحتياطات والوسائل الفنية قد توافرت..
ومن ذكرياتي إبان الطلب في مدرسة تحضير البعثات - سيل الأربعاء أو سيل الستين على حد قول صاحب الشذرات. فقد فوجئنا في عام 1360 وفي يوم الأربعاء من شهر المحرَّم بسيل عظيم هيأته هطول أمطار مدرارة طوال ليل الأربعاء وصحونا صبحاً والسماء ملبدة بالغيوم، وشيئاً فشيئاً حتى أخذت السماء تهمي مدراراً فسالت الأودية من كل الجهات المحيطة بالحرم وتدفقت المياه في الوادي بدءاً من جياد السد لتلتقي مع مياه الشعب والشعاب المشتركة معها ناهيك بالواصل من الجهات الأخرى حتى لترى مجرى الوادي الممتد وكأنما هو النهر الدفاق على مدى النظر من المعابدة فالحجون فالغزة. وتداعى الناس للذهاب إلى الحرم ليشاهدوه وقد امتلأ بالماء الذي تدفّق نحوه من المسعى وباب الملك وباب جياد من كل الجبال المتصلة شعابها بالمسجد الحرام حتى بلغ معدل الماء الذي داهم المسجد بأروقته حزام الكعبة كيف لا وقد انسابت المياه من أعالي مكة.
والمعروف قبل التطور الذي نعيشه ونحياه والمشاهد في هذه المنشآت العملاقة والصروح الممردة والطرق الفسيحة الممتدة والسدود والأنفاق أن الطريق الذي يفضي إلى الأباطح من أعلى مكة حيث مسيل (الرباب) وغربي (ثبير غيناء) و(حراء) و(الثقبة) و(السدر) و(سدرة خالد) وغيرها من الجبال والشعاب كلها تصبُّ في وادي إبراهيم حيث (العدل) - و(الأقحوانة) و(المحصب) الذي كان يومها متنفس أهل مكة ومرتاد سمرهم وأماسيهم الحلوة فكم أنشد فيه المنشدون أشجانهم وشدى المغرمون أحزانهم وتذكَّر مغتربهم نزله فيه وداره وديرته وجاره.
فقال أحدهم:
من كان ذا شجن بالشام يحبسه
فإن في غيره أمسى لي الشجن
وإن ذا القصر حقاً ما به وطني
لكن بمكة أمسى الأهل والوطن
من ذا يسائل عنا أين منزلنا
(فالأقحوانة) منا منزل قمن
وقول الآخر:
فيا أين أيام تولّت على الحمى
وليل مع العشاق فيه سهرناه
ونحن لجيران (المحصب) جيرة
نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه
فهاتيك أيام الحياة وغيرها
ممات!! فيا ليت النوى ما عهدناه
من تلك الجبال وشعابها انسابت مياه المطر حتى شكَّلت نهراً من الماء مزمجراً - امتد في قوة دفقه من المحصب، فالعدل، فالمعابدة، فالحجون وما أدراك ما الحجون إنها هوى وشجون فمحبس الجن، فالمعلاة، فمقرأ الفاتحة والغزة فسوق الليل، فالمدعى، وهو ما يسمى قديماً بالردم وقد أقامه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حماية للحرم من السيل، فالصفا والمروة وبقدر ما كان منظراً يثير البهجة - لأن من الماء كل شيء حي - بقدر ما كان مشهداً يبعث على الخوف والفزع، فقد شاهدناه كيف ينتزع بقوّة دفقه دكاكين العطارة ليلفَّ فيها لفَّته فيصفيها من كل ما فيها ويعرِّج مرة أخرى على صناديق البقالة وخيام سوق الليل في الحراج فيخلط حابلها بنابلها وهكذا كان هذا السيل الجارف حتى أحدث أخاديد كبيرة لأن الأرض كانت كلها ترابية تتراوح في العرض بين 20م وفي العمق من 8 إلى 10 أمتار، ولقد كنا نشاهد فيها حبات البطيخ تطفو مع الفاكهة الأخرى وهي تتراقص يمنة ويسرة مزاحمة بعضها بعضاً تصطك بها صناديق الصيارفة وغيرها من القلل والماعون وأعاجيب أخرى خلفت وراءها الحزن والفكر والتدبير واليقظة..
أما الحرم فكما قلنا امتلأ صحن المطاف والأروقة حتى كنا نشاهد ثريات الكهرباء اللطيفة الشفافة والتي كانت تضيء المسجد الحرام على مشارف الفوانيس المعلقة بها.
وتوافد الناس من كل جنبات الحرم ليشاهدوا المنظر في ذهول وصمت عجيب، وتوقفت الصلاة في المسجد الحرام وتعطل السير في الشوارع وقطعت مياه (عين زبيدة) عن مكة حيث دهمت السيول (الدبل) الموجود هناك وكان دبل عين زبيدة قد دوهم في منطقة عرفات ونعمان وقطعت المياه تماماً عن بازانات مكة وهنا نتصور كيف تعيش مكة من غير ماء والماء سر الحياة وكيف نتصور حال من لم يستطع شراءه ولاسيما من الساكنين في رؤوس الجبال وإذا كان للقرش أيامها شأن كبير فقد بلغت قيمة زفتين من صفائح الماء التي كانت تنقل على الظهور بطريقة ربط أطرافها بطرفي عود سميك وغالباً ما يكون من عود الخيزران بحيث يتغلب الحامل القوي على توازن الصفيحتين - بيعت بقرش ونصف في المنبسط من الدور وفي السفوح والجبال أو الدور ذات الطوابق المتعددة بقرشين.
وهل لي هنا وقد حضرت في ذهني هذه الذكرى ذكرى سيل الستين وما خلَّفته مآسيه على مكة وأهلها - أن نعطف بالذكريات إلى ما هو أبعد من هذه الذكرى فنذكر "نعمان" الذي درّت عين زبيدة من أحد سفوحه فسقت نفوساً عطشى وروت قلوباً أجهدها الظمأ - نعمان - ذلك الوادي النفيس، أنشودة الشعراء، ونغمة المسامر، ومسرح الصبا - يذكر كل ما امتدت يدك إلى فيك بغض الأراك وتستذكر أمسيات لياليه معطرة كلما أنشد شعر النميري حيث يقول:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت
به زينب في نسوة عطرات
مررن بفخ رائحات عشية
يلبين للرحمن معتمرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت
وهن من أن يلقينه حذرات
أو كلما أنشد شعر ابن مقبل وهو يذكر آلامه - فيقول:
وجيد كجيد الآدم الفرد راعه
بنعمان جرس من أنيس فأتلعا
أو الفرزدق حين يذكر أراكه .. فيقول:
دعون بقضبان الأراك التي جنى
لها الركب من نعمان أيام عرفوا
ويختار عمر بن أبي ربيعة من أعواد أراكه هديته لهند - فيقول:
تخيرت من نعمان عود أراكه
لهند، ولكن من يبلغه هندا؟!
ويشدنا شاعر آخر لنتحسس معه حبه (لنعمان) فيقول:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا
علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا؟
وحبّ إلينا بطن نعمان واديا
عهدنا به صيداً كثيراً ومشرباً
به ننقع القلب الذي كان صاديا
قالوا ولكثرة أراكه يضاف إليه - قال أبو العميثل:
أما والراقصات بذات عرق
ومن صلّى بنعمان الأراك
لقد أخمرت حبك في فؤادي
وما أخمرت حباً من سواك
وليس الأراك وحده الذي يثير الشجى والشجن بنعمان وإنما هناك أيضاً (البان) وفيه يقول النميري:
تهدي كما اهتزت بنعمان بانة
بنسم جنوب لا ضعيف ولا شدا
ولشدو الحمام في أيك نعمان نصيب من النوح والتحرّق فيقول شاعرهم:
فاصبر على الهجر ما ناحت مطوقة
أليفة لحمامات بنعمانا
وللشاعر الصوفي ابن الفارض قصيدة موجهة لأهل الحجاز تطأطأت دونها وجدانيات الشعراء وبزّت وصف أعلامهم يقول فيها معرضاً ببطن نعمان الأراك:
يا راكب الوجناء بلغت المنى
إن جبت حزناً أو طويت بطاحا
وسلكت نعمان الأراك فعج إلى
واد هناك عهدته فيساحا
فبأيمن العلمين من شرقيه
عرج وأم أرينه الفياحا
فإذا وصلت إلى ثنيان اللوى
فانشد فؤاداً بالأبيطح طاحا
وأقر السلام عريبه عني وقل
غادرته لجنابكم ملتاحا
... ومرت الأيام وجفّت الشوارع والسهول من ذلك الفيض الكبير سيل الستين أو سيل الأربعاء وبقيت الآثار شواهد ناطقة في الشوارع وعرف جلالة الملك عبد العزيز كل ذلك فكان الإصلاح وكان التحفز لفعل شيء محل عنايته فأمر في الحال ببناء سد في العدل وجنَّد له عدداً من المعلمين البنائين في مكة بعد أن أمر المهندس آدم البكري بتخطيط رسم السد وكان مهندساً فنياً لأمانة العاصمة يساعده أيضاً مهندس طرق مصري أمر جلالته بأن يقيم بين مكة وجدة وأن يتم التنسيق بين الاثنين.
وقد تمّ وضع الخرائط من قبل المهندس الرسام رشيد سنبل ووضعت المخططات لوضع الحجر الأساسي للسد وكان يوماً مشهوداً لدى أهل مكة يوم أن وضع الفيصل حجر الأساس للسد نيابة عن جلالة الملك عبد العزيز - رحمهما الله. وبطبيعة الحال فإن سداً واحداً في جانب واحد لا يكفي لدرء السيول عن منطقة المسجد الحرام ولا عن مكة ككل لأن هناك شعاباً كثيرة كشعب عامر ومنطقة السد كلها شعاب تنصبُّ مياهها في وادي إبراهيم الذي يشكل الحرم منه الجانب الأكبر. والشيء الذي يزيد الطين بلّة كما يقولون أنه لم تكن هناك معدّات لنقل الأتربة وإزالتها ولم تكن هناك سيارات لنقل الطين والأحجار اللازمة وعلى الرغم من كل ذلك فقد كان العمل في منطقة السد يسير على قدم وساق وبالعاملين الذين استخدمتهم الدولة والمتطوعين من أبناء مكة المكرمة وكان الأجر يومها لكل عامل ريالين سعودي في اليوم.
وقد اجتمع عمد الحواري بأمين العاصمة الشيخ عباس قطان ولم يكن للبلدية ميزانية محددة وإنما كانت تعاني من رسوم الحلقات والرسوم العقارية من البناء.. وكان دخلها وما أقلّه شيئاً لا يفي بشيء كما كانت تجد دعماً منفصلاً من جلالة الملك - تدفعه وزارة المالية أسبوعياً للصرف على أجور العمال والكناسين.
وبعد اللقاء بأمين العاصمة تقدَّم الكثير من شباب مكة ليكونوا جنباً إلى جنب مع العمال الذين جندتهم الدولة وبدأوا بعملهم في منطقة المسجد الحرام ولأن معدَّاتهم كانت بسيطة إلا أن العزائم كانت أقوى من المعدَّات فقد كانوا أثناء العمل يغنون: (لا إله إلا الله جينا ننظف بيت الله).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1849  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 335 من 414
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج