شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نشيد/د. فؤاد عزب عن صديقه/ نزار قباني
• للشاعر السعودي أحمد الصالح "مسافر"
ـ دمشق... ضُمي على الأضلاع أعظُمه
واستمطري فوقه من مزنة ودقا
واستنبتي من تراب القبر زنبقة
وياسميناً يبثّ الطيب والعبقا
دمشق قولي: هنا قد كان لي وتر
إذا تغنّى رأيت الشرق متسقاً!!
(1)
• حين ذهبت إلى أنبل أساتذة العصر: (نزار).. استقبلنا على الباب راعية الأسد: ابنته (هدباء)، وبصوتها الدمشقي الأخضر همست: "يا بابا... صديقك العزيز إلى نفسك وإلى أبو وجدي هنا"، ظهر بعدها الفهد الإستوائي... نفس الشموخ، نفس رفعة النفس، نفس الإحساس الراقي... ظل جميلاً نزار، رغم كل الظروف، لأن جماله: أسلوب حياة، لم يكن ذلك الجمال يوماً ملامح أو هنداماً أو عمراً زمنياً رتيباً!!
• سألني: ما الذي جاء بك في هذا الشتاء؟! قلت له: جئت لأحذرك وأهددك قبل أن ينفلت من كفي الزمان.. احذرك أن لا تكذب على نفسك وتصدق أنك أتممت مهمتك بعد خمسين عاماً في كتابة الجميل، وأن عقدك الوظيفي كصانع جمال حقيقي في الكون قد انتهى... وأهددك إن لم تفجر في أعماقك من جديد طاقة الشفاء، فسوف نطلق النار على القمر الذي ربيته حتى اكتمل!!
• قال لي: وهل أنا مهم إلى هذه الدرجة؟!
ـ قلت له: لقد عشت مع أبي وأمي ستة عشر عاماً ثم اغتربت عنهما، وعشت مع كلماتك أربعين عاماً، فكيف تجرؤ على هذا السؤال.. هل سمحت للأوكسجين في غرفة الرعاية المركزة أن يطرح عليك نفس السؤال، وإن أنت لم تسمح لذلك الغاز الذي تتنفسه في أحلك الظروف بذلك فكيف تسلب من أصبحت بعض غلافهم الجوي من نفس الحقوق؟!!
تسعون دقيقة من دغدغة المشاعر قضيتها مع البحر الذي يفرض لونه كما يشاء.. من يجعلك بعد الجلوس إليه تؤمن بأن الجبال ليست متشابهة، ولا النجوم مثل حبات الأرز... وأن الإنسان كتلة من طين لا قيمة له إن لم يفكر!.
فعلاً الجلوس إلى نزار يجعلك تؤمن بأن الله قد خلق الكلمة فخلق نزار لتتكاثر وتنتشر وتصبح متاحة لكل الناس، يتبادولونها ويتقاضون على استعمالها: الحب.. فهذا الدمشقي خُلق ليبدع، فجعل الإبداع عملة نادرة كالماس تعرف قيمة نفسها، وارتقى بالكلمة فأصبحت راقصة باليه في بحيرة البجع، ونفخ فيها العواطف فجعل منها مشاعر تسيل لها الأجفان والوجدان!!
حتى تعرف نزار: لا يكفي أن تقرأ له فقط فيما يكتبه: بعض منه وليس كله، لابد وأن تجلس إلى نزار... لا بد من أن تجلس إلى نزار، لتعرف شكل البشر عندما يمارسون الحب من الأعماق، وكيف هم يظهرون على إنسانيتهم!!
كتب لي قبل أن أودعه على آخر ديوان له "تنويعات نزارية على مقام العشق".
• "أخي الحبيب: ياخلاصة الحب والطب والأدب والإنسانية يا حبيبي يا... يجب أن تكثر من زياراتك لي فأنا أحبك بأثر رجعي، أكثر من زياراتك فأنا أحبك"!!
هل عرفت الآن - يابو وجدي - سبب ادعائي الأخير في التلفون أنني من أغنى الناس؟!!
لقد منحني "نزار" حبه الذي لا تعادله كنوز الأرض... حملت ما كتبه لي تحت قلبي وأنا أودعه، وسؤال كبير يرتسم على شفتي (خجلت من أن أتفوه به إليه) وهو: منذ متى وأنت كبير هكذا يا حبيبي؟!
أحسست أن السؤال عبيط، كأنني أسأل خريطة العالم منذ متى وأنت خريطة لهذا العالم؟!!
لقد فتحت عيون مراهقتي على وجود نزار كقيمة أساسية في الحياة، وكبرت لأعرف حقيقة هذه القيمة ومدى احتياجنا لها... فعلاً حب نزار يبدو أنه تغير مع الأيام في نفوسنا ليتحول من فكرة سرمدية لضرورة حياتية.
حبيبنا - يا أيها الكبير - يامن تسبح كالأسماك في مياه قلوبنا: ابق لنا.. ابق لنا كثيراً في هذه الحياة.. ابق لنا، فبوجودك يا سيدي على ظهر هذا الكوكب تصبح الأرض قابلة للسكنى، والحياة ممكنة!!
(2)
• في الصفاء القاسي شتوية في لندن، سعدت في أول أيام العيد بأشياء جميلة بجانب هذا الصفاء المؤقت: رأيت نزار قباني في بداية العيد، لا زال هناك هذا الإنسان النبيل يعيش في المنطقة العميقة في ذاتي كعنوان كبير للحياة بكل ما تجود به هذه الحياة من قيم إنسانية راقية ومعان خالدة، مازال التفاعل الغريب الذي أحسده عليه ينمو كالعشب داخل قفصه الصدري... تفاعل القوة والتواضع، والممكن والمستحيل، والثورة والحلم، والرفض والتجربة، والحنين إلى التاريخ مع الشوق للغد.
كل مرة أحاول أن أصف لك "نزار" عندما ألقاه: تصغر الكلمات، فنزار مستودع فسيح من المعرفة، ومخزن واسع لذاكرة لا تحتفظ إلا بالجميل وصورة خالدة للحب خالية من التجاعيد... هذا الإنسان لازال يجيد فن عشق الإنسان، كلما تتحدث معه تجد أنه لازالت في كلامه رائحة المطر التي تشعل في النفس ذلك الحنين الجارف إلى التوحد مع تربتها في عناق لا يصحو فيه الزمان... في صوته رحلة نهر لا يحدها سوى الماء على طول أربع قارات وعمقها... يتحدث إليك بوداعة قرية على الحدود، ويتنفس الحب والصدق بارستقراطية خشب عتيق من العود... لقد أهداني "نزار و عمر وزينب" يوماً جميلاً في العيد.. ألا تعتقد أن كلامي لك صحيح: إن أجمل ما في كل لندن: نزار وعائلته!!
(3)
• لكم هو صباح حزين لبس عمامة الكآبة... تسلل لغرفتي مرافقاً مع من جاء يعلن لي الصمت كعنوان للزمن الآتي... فأمام الموت نعجز عن الكلام: توفي "نزار" هذا اليوم يا فؤاد!! أدركه الموت الذي لا يستحي من الفعل!
كان الخبر كافياً لأن أدخل إلى خلية كاملة من نمل الحزن بحجم نيويورك، تدحرجت بعدها إلى قاع أليم وانخرطت في بكاء مطمور!
أخذت أدير بصري من حولي كشاة تتلفّت في السوق في محاولة لإيجاد تفسير صعب لإيضاح مستحيل: من هو القادر على ثني ركبتيه لحفر قبرٍ لنزار؟!!
لقد فضل أخيراً النورس الذي يحلّق وينقضّ: أن يستريح وحيداً على آخر صخرة من صخور حاجز الحياة!
قرر الجواد الذي يسمع صهيله مَنْ به صمم: الخروج من الصراع والتردد إلى حل يعطيه السلام وطمأنينة النفس، لقد كان وجه نزار عندما زرته الشهر الماضي صامتاً على غير العادة، كان صمته الخارجي يدل على أن الكلام الذي بداخله كثير وأنه كلام صعب لا يُقال... كأن صمته كان إنذاراً وقرار إنذار للحياة بأن صاحب ذلك الوجه الصامت سوف يتصرف فيه كبرياء ورفض واحتجاج، "لقد فقدت الهدف من الحياة يافؤاد". كان يقولها لي وهو يجلس على مقعده الجلدي يتثاءب وعيناه تحدقان في الفراغ شاردتان تحناناً إلى النوم: "الحياة تصبح قصة حب فاشلة عندما تصير خالية من الهدف.. لم أعد أجد في داخلي شيئاً أتشبث به، لقد قضى المرض على هذا الجسد القوي وأنا أكره الوهن والضعف"!
كأنه كان يعدّني للفراق ويهيّني للوداع! أطعمني في ذلك اليوم حلوى جائت له للتوّ من الشام وأسقاني... كنت كلما؟ أهم بالوقوف يستبقيني قليلاً بالنداء على زينب: "هاتي كمان شاي يا زينب لفؤاد وعمر"، كان عمر قد أتى للتو إلى لندن من دبي... كنت أصغي إليه في تلك الليلة كطفل وافترش معه الكلام كبساط، فما بيننا لم يكن غيمة عابرة، بل زرقة تخصّبت في مدافن الأيام... كان نزار في أيامه الأخيرة يجامل الألم كما يجامل موظف صغير رئيساً قاسياً لا يرحم، وكانت تلك المجاملة غير متكافئة، فنزار إنسان عالي الجبين يشعر بحزن عميق عندما يُهان، وكان المرض يهينه كل يوم! لقد اختار نزار النوم تحت التراب الذي داس عليه يوماً بشموخ عن الحياة فوقه بانكسار! فضّل البقاء تحت التراب الذي لا يتبخر، ليخلص من حياة أصبح لا يدري فيها غير الأورام(!!)
كأنه أراد بانسلاخه هذا عن الحياة كنهر مشغول بفيضانه لا يرى غرقاه أن يُشهر بوحشة هذا الكون ويطرح أسئلة لها طعم السكين في غور الصدر.
سأفتقد سعالك الأبيض يا حبيبي.. سأفتقد حبك الأبيض... سأفتقد نهارك الأبيض... بكيتك مع زينب وهي تحدثني عن رحيلك، وبكيتك عندما وقف الناس صفوفاً بانتظارك عند بوابة المدينة. لا ليتوّجوك بالأكاليل بل ليحملونك إلى قبر عميق... لم أتخيلك تابوتاً قط أيها الملتف بالكفن... اليوم أنا في قمة الضعف، لا رغبة لدي في الكلام، والفراغ يحاصر قلمي.. كلما حنوت عليه قست الكلمات على يدي، كأن الأوكسجين في صدري انطفأ...
الرب أعطى، الرب أخذ... ظهرت في حياتي كحلم واختفيت منها كحلم... من النور أتيت وإلى النور تعود، ستظل ماسة أخدش بها زجاج الذاكرة. وستعيش في قلوب الأحياء ما عاشوا كأضعف المخلوقات قلباً وأقواها رأياً وشعراً!!
• د. فؤاد مصطفى عزب
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1814  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 485 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج