الشباب ساق زهرة متوتر |
• لشاعر الصهيل الحزين/عبد العزيز محيي الدين خوجه:
|
ـ يا سيدي: |
إنني وليد الأرض، ابن الأرض |
غابات من الزيتون والأزهار والصبَّارِ |
والفوضى من الإسرار، والإجهار |
والتحنان والحب المُعربد والعتابْ |
بردٌ وقيظ، واشتعال فتيلة، |
ما من محيص في انتظار الانطفاءْ |
كرٌ وفرٌ وارتحال وارتداء وارتقاءْ |
تتفكك الأشياء ثانية إلى أجل المَعاد!! |
|
• لا أحاول - هنا - أن أغتاب الشباب... هذا الذي صار يتأرجح اليوم بشدة ما بين: أن يكون عصارة عصر العلم بتلاحقه السريع، ومخاض نضوج وجداني يرتكز على سمو الإدراك وتوهُّج الوعي... وأن يكون في سلوكياته: السقوط المؤلم في أنانية الذات، وشهوة الرغبة، وقلق النفس، وفي التصرف الذي لا يبالي بالقيم، ولم تغرس فيه: المبادئ والفضائل. |
ولا أسعى إلى انتهاك عصري.. بل لا بد من المضيّ إلى صرخات متغيراته، وإلى منطلقاته الراكضة، وإلى "صرعاته" في توتر صراعاته التي تنعكس بالضرورة على نفسية الشباب، وسلوكياتهم، ومفاهيمهم عن: قيمة الإنسان من خلال نظرته وتقييمه للفعل ورد الفعل، وأيضاً عن: قيمة الوقت وحجم الإنتاج والعطاء فيه! |
لكنني أحاول بالفعل، وأسعى إلى مناقشة: بوادر، وظواهر، ومتغيرات.. يهمنا كثيراً أن لا تتضخم، وأن لا تتجسَّد فتتحول إلى "واقع" يؤثر في بناء هذه الأمة من أجيال يتطلع الوطن إليها بتفاؤل، ويخاف عليها.. خاصة وأنَّ من مفاخرنا التي تأسس على قاعدتها هذا المجتمع: أننا أمة تحرص على التمسك بدينها وما يحفل به هذا الدين من نظافة خُلق، ونصاعة ضمير، والتزام جيد ببقاء الأسرة: متألقة ترعى رسوخ السلوك النقي. |
والقاعدة في علم الاجتماع تقول: |
• "إن الفرد الاجتماعي: مؤثر ومتأثر.. وهذا يعني عند تطبيقه في نطاق الأسرة: أن الأب مؤثر، والأبناء متأثرون... كذلك، فإن الأب خارج بيته يتأثر بما حوله كتعامل يضم كل أفراد المجتمع، ويؤثر في مَنْ حوله بما تأثر به"!! |
ونحسب أن هذه القاعدة تشكل النقطة الهامة/ المنطلق التي بسببها يَقْدِر المجتمع أن يحافظ على تقاليده، وعاداته، وتماسكه، وقيمه.. أو يعجز عن ذلك بالسقوط في ما تأثر به من خارج مجتمعه ومن داخله، وبالسقوط في ما أثَّر به على الآخرين من أفراد أسرته، وأصدقائه، وزملائه. |
وهذا يعني بالتحديد: أن "الأب" هو هذه القاعدة.. هو نقطة المنطلق.. هو المصب والمنبع! |
وقبل أن نتلفت تطلعاً منا إلى "الفعل" من الشباب.. لابد أن نقف فنتأمل الفعل من الأب ورد الفعل عنده، ثم بعد ذلك: رد الفعل عند الشباب. |
فأين هو (الأب) أولاً في هذا الزحام، وهذه المتغيرات؟! |
إن الشباب في بداية: بذرة تتكون وتترعرع وتطول في داخل البيت.. يتأثرون تماماً بفعل الأب وتربيته لهم وسلوكه وآرائه.. فالأب هو: المحور والمسؤول.. هو: الموجِّه الحقيقي لو تواجدت رعايته لأفراد أسرته.. هو: القُدْوة التي ترتفع بالبيت أو تهدمه! |
• • • |
• دعائم تنمية السلوك والتربية: |
وإذا أردنا أن نناقش المتغيرات والمؤثرات على سلوكيات وتربية الشباب أو الأجيال الجديدة... فالأسباب بإيجابياتها وسلبياتها، ترتكز على دعائم أربع: |
• أولا: البيت.. وفي داخله تتبلور تلك البذرة، وتبني شخصيتها وتكتسب نوع السلوك... فسلوك الأب والأم هو المؤثر في بداية تكوين الشباب، فإذا كان هذا البيت يفتقد التعاطف والالتئام ونصاعة الخلق والاستقرار، فذلك سبب مباشر لانحراف الشاب والشابة!! |
ومن البوادر المزعجة التي تتحول إلى ظاهرة تتفاقم وتُفرِّخ الانشطار والقلق والانحراف: بادرة خطيرة تلوح كجمرة متقدة تحت الرماد الساخن.. تلك هي: انصراف الأب عن الاهتمام بما يتطلبه البيت من تآلف وتماسك وتواجد، فبعض الآباء قد انشغل باهتماماته المادية.. بما سيكسبه غداً ويزيد من رصيده في البنك. وبما يفكر فيه من وسائل يُنمِّى بها ذلك الرصيد.. وهذا الاهتمام غير مرفوض شريطة أن لا يغطى على رعاية الأب لأهله ولأبنائه. |
وبعض الآباء يمارس في تعامله اليومي وسائل قد تتضخم فتصل إلى مرحلة التنازل عن: السلوك النظيف وانتهاج أخلاق الكذب والتزييف والأضرار بالآخرين في سبيل مصالحه المادية. حتى الصداقات قد بلغها التشوه والخلخلة من أجل المصالح الذاتية، وعندما يقول الأب لابنه مثلاً: إذا طرق فلان باب البيت فأخبره أنني غير موجود، وإذا سمعت الابنة أمها تأكل في سيرة الناس وتصمهم بالسوء.. فلابد أن يتأثر الابن والابنة بهذا السلوك!! |
والمثل هنا أطرحه خفيفاً بسيطاً هيِّناً.. لكنني أشير به إلى تصرفات بشعة أكثر أخطاراً وإسقاطاً لمطلب الخلق السامي، لا داعي الآن للاستشهاد بها!! |
أمثلة أخرى قد تلوح صغيرة محدودة النتيجة.. لكن تأثيرها يتخذ أبعاداً خطيرة في تكوين سلوك الشاب.. كأن يمارس الأب تصرفاته الخاصة أمام أبنائه(!!) كأن يشتم الآخرين بلا انقطاع.. كأن يطعن من الخلف تحقيقاً لرغباته.. كأن يمارس نزواته.. كأن يجعل حاجزاً من الخوف ما بينه وبين أهله وأبنائه.. كأن لا يكون له حضور أو تواجد في بيته فلا يرى أبناءه إلا مرة في الأسبوع أو أكثر من أسبوع، وكلها تأثيرات تحمل في تضاعيفها نتائج عكسية تساعد على انحراف الشباب وإهدار للقيم ولا مبالاته بسوء تصرفاته. |
• ثانياً: المدرسة هي التي تساعد على تغذية الشباب بعطاء العلم ونوره وتوسعة المدارك، وهو دور الأستاذ (المُربيِّ) - المفقود اليوم! - وكيف يتعهد الشاب، وكيف يبيِّن له أخطاءه فيقنعه بإسقاطها بدلاً من دفعه إلى التحدي والانحراف، وكيف يكون المدرس قادراً على أن يجعل تربة الشاب خصبة يمرع فوقها ثمر العلم؟!! |
لكنَّ المدرسة أيضاً تشكو من بعض الآباء - أولئك الذين لا يدرون عن أبنائهم إذا ما كانوا متفوقين أو فاشلين - فالمدرسة تدعو الآباء والأمهات إلى لقاءات دورية، وعبر هذا التعارف تستطيع المدرسة أن تتابع سلوك الشاب والشابة، فتقوّمه إن لاحظت بوادر انحراف أو تشجعه وتأخذ به إذا عرفت باتساع مدارك الشاب والشابة. |
غير أن بعض الآباء والأمهات لا يعطون اهتماماتهم لمجلس الآباء ولمجلس الأمهات.. ويتحقق بذلك وجود التصدع بين المدرسة والبيت، ولا تقدر المدرسة حينئذٍ أن تتابع الشاب والشابة.. فهذه المجالس: أهميتها في الرابطة بين الأب والمدرسة، وبين الأم والمدرسة، ولكن الأب مشغول باهتماماته المادية وبأشيائه الخاصة، والأم مشغولة بعالمها واهتماماتها كأنثى، وهنا مكمن الخطورة!! |
• ثالثاً: صداقات الشاب والشابة.. إذا لم تكن ضمن معرفة ومتابعة الأب والأم، فمن الممكن السقوط في رفاق السوء.. فالشاب ينطلق لا مبالياً وينفلت لأن البيت لا يعرف أين ذهب، ومن الذين يصاحبونه... والشابة في سن المراهقة قد تلتقي برفيقة السوء تزين لها القبيح، وتحضُّها على الانفلات، وتجرها إلى كارثة لا تعرفها الشابة إلا بعد وقوعها لحظة الندم. |
فالبيت هنا أيضاً: يستطيع بالمتابعة والرعاية أن يمنع الانحراف، أو أنه يتسبب باللامبالاة والتفكك في سرعة اندفاع الشاب إلى الانحراف والتوغل فيه!! |
ولكن بعض الآباء لا يهمه ولا يعنيه أن يسأل ابنه عن أصدقائه، وأن يتعرف عليهم، وأن يكتشف نوع اهتماماتهم وأفكارهم.. بل لا يدري متى خرج ومتى سيعود (؟!) فالتدليل: كارثة، والانفصال: كارثة، وإهمال ما يفعله الابن: كارثة. |
وبعض الأمهات لا يفكر في خطورة مرحلة المراهقة.. فتقترب الأم من البنت وتصادقها وتحل مشاكلها، والبعض لا يسأل عن صديقاتها ويتعرف عليهن.. فتكون النتيجة أن هذه الشابة تستغل حريتها للعبث، وللتجربة التي تتحول إلى خطورة!! |
• • • |
• كلمات.. للأمير نايف: |
• إن الشباب هم: قوة العمل، وصُنَّاع خطوات التطور في مراحل تنفيذ الخطط الخمسية للتنمية، وبلوغ أوج الحضارة والرفاهية.. والتحديات من خارج حدود مجتمعنا، هي تحديات كثيفة ومتدفقة وطوفانية، تدغدغ الشباب وتأخذه إليها وتغرقه في متاهاتها وصراعاتها وجنونها، ولا مفر منها إلا بالتمسك بقيم ديننا وبالروابط التي تمنع إحداث الشروخ والتصدعات في المجتمع. |
والأب في المقدمة: مسؤوليته هامة وخطيرة في المحافظة على أصالتنا وجوهرنا.. والحديث الشريف يقول: "إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، وصدقة جارية، وولد صالح يدعو له". |
فكيف نحافظ على وجود الولد الصالح، وكيف ينتفع المجتمع بالعلم، وكيف تسود المحبة والخير والصفاء نفوس الناس وتنعكس على تصرفاتهم وأخلاقهم؟! |
• وعندما كنت قبل سنوات أحاور سمو الأمير نايف/ وزير الداخلية بسؤال يقول: كيف نحمي فكر الإنسان وعقله ونعالجه من التجوفات، وننقذه من السقوط في المادية المغرقة، ونرتفع بإحساسه إلى مستوى الإدراك الكامل لدوره كإنسان عطاؤه للبناء وللحياة الكريمة؟! |
يومها أجابني "الأمير نايف" وهو يشدد على الشباب/ تربيته، ومراقبته وتوجيهه، وتوعيته.. فقال سموه: |
ـ الحرص على أن ينهل الشباب من العلم بالدراسة والقراءة هو مطلب ضروري.. فنحن نعيش عصراً لا يجد فيه الإنسان حياته التي يحلم بها إلا بالعلم، والإسلام يحضنا على العلم من المهد إلى اللحد، والمعرفة دائماً توصل إلى اليقين، واليقين حقيقة ساطعة تهدي الإنسان إلى السلوك النظيف والشريف، وإلى الخلق القويم، وإلى صياغته مواطناً يخدم أهداف دينه وطموح بلده. |
أتذكر هذا الفهم الجيد لعطاء الإنسان ولتوجيهه ولتوعيته. |
واليوم - وبعد سنوات على ذلك الحوار - أجدني الحريص على طرح نقاش هام عن الشباب الطالع.. عن الذي يفعله الشباب اليوم.. عن بعض اللامبالي، وبعضهم الذي كسر في نفسه حدود العاطفة، وكسر في عقله حدود التعقُّل، ولا أتجنى ولكنني ألمح بوادر تزعج جداً، ونخاف أن تتطور إلى ظواهر وإلى سلوك اجتماعي وأخلاقي، وإلى ما يشبه "العُتَّة" التي تتسلل إلى الروابط الأسرية وإلى القيم الأخلاقية، وإلى الإنتاج من أجل إنجازات الوطن ومستقبله!! |
وكما قلنا بعد ذلك: إن الاهتمام بالنشاط الاجتماعي لا يمكن أن يقتصر على الرياضة وعلى كرة القدم بالذات.. ولكن من الملح جداً: أن نشرع في تنفيذ البرامج الأخرى التي حفلت بها الخطة الثانية في مجال رعاية الشباب وفي مجال الترفيه!! |
وليسوا هم شبابنا وحدهم.. فالبوادر التي نحدق فيها اليوم من بعض شبابنا، قد تضخمت وتحولت إلى ظواهر اجتماعية وأخلاقية في بعض شباب الدول المجاورة وفي العالم، وقد شدَّ انتباهي حوار أجرته مجلة لبنانية مع فتيات ثلاث عن الجيل.. وتوقفت عند عبارة عجيبة وذات مؤشر. فقد قالت واحدة منهن: |
ـ "إن شبابنا مغرمون بالرفاهية.. يتميزون بسوء التصرف وبازدراء النظام والتقاليد، ومعاملتهم لمن هم أكبر سناً يشوبها عدم الاحترام.. كما تشغلهم الثرثرة عن الرياضة"!! |
• • • |
• وبعد.. إنني لا أهاجم الشباب، ولكني أخاف أن تَنْتهك متغيرات العصر أذهان ووجدان الشباب، والبوادر كما قلت تأتي كتحذير يستنهض اهتمامنا وتكريس رعاية الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم. |
أخاف أن يغتاب الشباب أنفسهم وأصالة مجتمعهم، وذلك بالانسياق وراء جنون صرعات العصر، ووراء القلق، ووراء الرغبة في تجربة المتغيرات العصرية فيعمدون إلى إسقاط السلوك النظيف بالعنف وبالجحود وباللامبالاة والتسيُّب!! |
والموضوع بعد هذا بدلالاته ذات المؤشرات الهامة.. يتطلب النقاش الشامل والسريع!! |
|