وعي الجيل الجديد |
• في هذه المرحلة العصيبة.. يتنامى وعي الجيل الجديد في كثافة ألم الأمة العربية من ظلم القوى العظمى، والخروج بالحقوق المشروعة للإنسان ولاستقلال الوطن إلى مرامي الأزمات المتعددة: نفسياً واقتصادياً، و.... حتى عاطفياً، بعد ما تعرضت له الوشائج من هزات تلاحقت بفعل تلك الأزمات. |
وكان لابد لهذا الجيل أن يتأثر... وأن يحاول تحديد معاناته أكثر! |
إن الجيل الجديد في الوطن العربي.. جزء من هذا العالم الذي اختصرت فيه المسافات. |
وهو جيل يهتم بما يحملونه لكلمة (السلام)، والمعاني المفتقدة داخلها. |
إن هموم العالم، وإن كانت كورقة نشَّاف تتمدد وتغطي الأرض كلها، فإنها في الحصيلة هي: هموم مجزّأة... تنفرد بالعالم منطقة بعد أخرى، فتأكلها!! |
ولا يمكن لأحد من الناس فوق بقعة من العالم أن يكره وطنه.. لكن الكراهية الأكثر خطورة هي: أن يكره الإنسان نفسه، أو يكره من يحب.. وهذه الكراهية تتجمع نتيجة لتلك الأزمات المتعددة/ نفسياً، واقتصادياً، وطموحياً، وعاطفياً... فيتم التدمير بهذه التجزئة: للقيم الإنسانية.. ويُشوّه التدمير: منجزات الحضارة.. ويطمس التدمير: قدرات الإنسان على العمل والأمل. |
وفي هذا التصور.. يفتقد الجيل الجديد: حُلمه، وأحلامه... فإذا شعر أن الحلم تبدد.. أضاعه الغضب في الهشيم المتخلف من حرائق النفس.. وإذا عجز أن يحلم: تحولت النفوس والعواطف إلى آلات، وحِدَّة، واختناق... فالحقائق عندما تتراكم: تقتل ما تحتها، ودائماً يبقى الإنسان تحت حقائقه لأنه لا يقدر عليها جميعاً، ولأنه لا يحققها كلها. |
• فكيف يعيد الإنسان أحلامه... بحُلُمه؟! |
الإجابة تائهة... فالسلام هو: "الأحلام"، تصاغ في أشكال كثيرة، وعبارات مترادفة ومتعاقبة داخل أروقة الأمم المتحدة، وصالونات المؤتمرات الدولية، وعبر البيانات والتصريحات. |
ولا بد أن يلتفت هذا الجيل حوله بحثاً عن: "الأحلام".. ليؤكد على نص واحد من فقرات الأشكال، والعبارات، والبيانات، والتصريحات التي تقال عن السلام!! |
والسلام مطلوب أولاً: داخل كل أسرة عربية صغيرة، تكبر بالأبناء وبالبنات... ويعني توافر السلام: مساواة الدخل بتكلفة الاستهلاك وتغطيته للصرف - على الأقل - فإذا ضمن دخلاً يؤمن له كرامته.. ضمن السلام في بيته! |
والسلام مطلوب ثانياً: يعمُّ بين الأسر التي يتشكل منها مجتمع كل قُطْر. |
والسلام هو: تربية سليمة حسنة.. وهو: تعليم يتماشى مع روح ومطالب العصر.. وهو: سلوكيات راقية تواكب التقدم العلمي المهول في العالم. |
حتى الفكر، والمواهب، والعلم، والفن... رموز الدلالة على رقيِّ أي جيل وكل جيل.. قد عجزت عن فعل شيء لهذا الجيل! |
• فالفكر الذي نقرؤه اليوم: يكاد يقرأ في التنظير، مراوحة ما بين السياسة، ورفْع الشعارات العاجزة عن التطبيق، أو البعيدة عن هموم ومطالب الجيل، أو الهروب بمضامين الكتابة إلى طرح موضوعات أصابها التجلُّط من زمن... وبالتالي: فإن المواهب النابغة والمبهرة لم يتم اكتشافها بعد! |
• والعلم الذي يُدرَّس في المدارس للجيل النابت بعد: لا ينسجم مع طبيعة ووسائل وأدوات العصر، خاصة في طرح الأمثلة.. أو أنه علم لا يُطبَّق! |
والفن الذي نسمعه اليوم أغنيات، ونشاهده أفلاماً ومسلسلات: فقد سقط في سوق البيع والشراء حتى لأذواق الجيل.. وأعلن هذا الفن عن عصر السقوط التام للذوق، وللمشاعر، ولرسالة الفن الأجمل. |
وهكذا.. يغرق الجيل في غث تُروِّج له وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة وحتى المقروءة... على مسمع و مرأى من المؤسسات الثقافية، والتربوية، والإعلامية الرسمية!! |
• • • |
• ولا بد أن كل هذه الأسباب، أو الظواهر، أو المتغيرات السيئة.. قد انعكست على تفكير، ونفسية، وسلوكيات الجيل الجديد. |
ونستطيع أن نقدم هنا شاهداً.. من خلال رسالة "أب" يبدو أنه يعلن عن عجزه التام أمام ما كبر به أبناؤه، وتشبَّعوا به من تلك الأسباب حتى أثَّر في سلوكياتهم، بل وتعاملهم المباشر مع أبيهم، وأمهم، ومَنْ حولهم داخل البيت! |
والرسالة التي تلقيتها من "أب".. تعكس كلماته: المساحة الشاسعة التي صارت تفصل بين كل أب وابن.. وصار الأب في تربيته وحده بدون مساعدة المدرسة، والجامعة، والوسائل الإعلامية... فقال: |
• أعرف أن الذين يقرؤون اليوم هم الآباء، أما الأبناء - بكل أسف - فإنهم لا يقرؤون، وإذا قرؤوا فإن لهم خياراتهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع عقولهم إلى المعرفة، أو أرواحهم لرغد الكلمة الجميلة... ولو سألت أحداً منهم: ماذا كتبَتْ الصحف اليوم - فقط الصحف - فإنه لا يعرف.. بل ولا يبدي اهتمامه بما تنشره الصحف، فما بالك بمتابعة إصدارات الكتب والجديد منها.. وقد كنا في جيلنا نقتصد من مصروفنا اليومي (قروشاً) لنجمع القرش فوق القرش، ونشتري كتاباً!! |
• يستطرد الأب العصري فيقول: يهمني - حقاً - أن يقرأ الأبناء هذا الموقف مع ابني الذي بلغ سن الرشد، وربّى شنبه، وأحسبني فشلت في أن أربِّي أدبه مع والده، أو أمه، أو من يكبره! |
هذا الابن - من هذا الجيل - عندما أوجّه له سؤالاً حتى عن شيء نشاهده معاً على التلفاز، فإن إجابته تأتي بكلمة واحدة يفيض القرف من حولها دون أن يلتفت - أدباً - إلى والده، أو أنه لا يرد وكأنه لم يسمعني! |
لن أقول لك: إن أبي عندما كان يلتفت إليّ - مجرد التفات - كنت أرتعش.. ليس خوفاً منه.. بل هيبة من قيمته في نفسي. |
هذا الابن: لا أراه طوال النهار - مثل كثير من الشباب اليوم - فهو يسهر الليل بطوله حتى الساعة الثامنة أو التاسعة من صباح اليوم التالي.. يقضي الليل ما بين محادثة هاتفية(!!) أو مشاهدة فيلم، أو يقود سيارته وينطلق إلى البحر، أو يقضي مع البشكة ساعات صحوة. |
• يضيف الأب: شكا لي صديق/ أب من نفس الوضع.. فسأل ابنه: متى تنام؟ فأجابه: بعد الغداء حتى الساعة العاشرة مساءً! (بعد ذلك يذهب الابن للبشكة أو إلى البحر). |
لم أعد أرى ابني كثيراً.. فإذا وافق تواجده في البيت التأم مع بقية الأسرة حول مائدة الغداء أو العشاء وغسل يديه، وذهب إلى غرفته، لا نعرف عنه شيئاً، وهو لا يعرف عن ما يجري في البيت، ويرتدي ملابسه ويخرج قبل العصر أو بعده، ولا يعود إلا مع حلول الساعة الثانية صباحاً... ولو حدث أي مكروه لأحد في المنزل، أو حتى زيارة: فإنه منفصل عن مناخ الأسرة، لا يعرف ماذا يجري في بيته، بل يعرف أكثر عن ما يجري في بيوت أصدقائه. |
مرة.. حاولت مواجهته، لأسأله عن أصدقائه الذين يسهر معهم.. فكشَّر وعبس، كأنه يريد أن يقول لي: "وأنت مالك"!! |
وذات ليلة.. اتصل بالهاتف بعد منتصف الليل ليخبرني - متفضلاً - بأنه سيتأخر عند صاحبه، وكان كرماً منه أن يخبرني(!!) لكنه بعد دقائق عاد مكفهر الوجه، مربد الملامح، وفتح باب غرفتي بقوة كأنه سيهاجمني، وتمتم بكلمات لم أسمعها لك ني ظننتها: السلام عليكم... فسألته: لِمَ عُدت وقد استأذنت في التأخر؟!.. فرد بغلظة: خلاص رجعت. |
أراد معاقبتي لأنني وضعت سماعة الهاتف في وجهه عندما استأذن في التأخير!!! |
• وهناك أب آخر.. تحدث عن هذه الظاهرة التي قال عنها متسائلاً بحرقة: |
• إلى متى تظل هذه الهوة بين الآباء والأبناء.. ومن السبب في ظهورها حتى التضخم الآن؟! |
• هل تكاملت كل أمور المجتمع.. من حيث: التطور، والعطاء، والحضارة... حتى يسهر الجيل الجديد إلى ساعات الصباح الأولى؟! |
• هل بلغنا المستوى المتفوق اجتماعياً.. حتى نفعل هذه النكسة في السلوكيات، وفي الإحساس بالمسؤولية؟! |
• • • |
• وفي المقابل.. نجد أن بعض الآباء الذين بلغوا الأربعين حتى الخمسين، مازالوا يعيشون وكأنهم في العشرين من العمر - سن أبنائهم - فهم يمارسون ما يفعله الشباب من سهر الليل، وبُعْد عن البيت نهاراً وليلاً. |
• أحد الأبناء.. كتب لي في رسالة حزينة، يقول: |
ـ إنني أبحث عن أبي في البيت فلا أجده.. فهو: إما مسافر، أو سهران عند أصدقائه، أو في عمله، أو..... نائم! |
أحتاج إليه في بعض الأوقات، فلا أجده.. كأنني يتيم بلا أب يوجهني، ويعيش معي مشكلاتي ويتفقَّدني! |
مرة.. طلبت أن أتحدث معه، فأجابني: "ماني فاضي.. ماني فاضي، عندك أمك، ومعاها فلوس، خلاص بعدين"!! |
• لا بد للآباء من الجلوس إلى أبنائهم، ليسألوهم عن مشكلاتهم.. ما يقلقهم، وما يسرقهم إلى الاضطرار لإهدار الوقت! |
• وتأتيني رسالة من أب آخر.. قال فيها: |
حاولت الاقتراب من ابني، فسألته عن (اللي قالب حاله)، ولماذا هو مكشِّر في وجهنا بالبيت... لا نرى وجهه ضاحكاً أو (مفروداً) إلا عندما يأتيه تلفون من صاحبه.. فتعلو قهقهاته؟!! |
• فأجابه ابنه: هذه أشياء تخصُّني، ولا تعرف حلَّها لأنك من جيل سابق!!! |
• • • |
• دور الإعلام: |
• وعندما نكتب الآن عن مشكلات هذا الجيل الجديد، وعن أخطائه.. فهو جيل لا يقرأ حتى يلتفت إلى ما نكتب ويحاورنا على الأقل. |
لكن وسائل الإعلام مدعُوَّة إلى تفجير هذه الظاهرة/ الأزمة، والالتفات إلى خطورتها، والبحث عن أبواب نشدُّ إليها الشباب ليسمع! |
إن الصحف: لم تكتب عن هذه الظاهرة الخطيرة.. وكثير ممن يكتبون قد انشغلوا في التنظير السياسي، أو العلمي، أو الكتابة في الاقتصاد... بينما يفتقد الإعلام إلى كُتَّاب اجتماعيين، مصلحين حقيقيين، يتمتعون بالثقافة، وبحصافة الرأي، وبجاذبية الإقناع... وبقيت المشكلات الاجتماعية بعيدة عن الاهتمام، خاصة أساتذة الجامعات الذين يملؤون الصحف اليوم بمقالاتهم، نجدهم في غياب تام عن أهم ظواهر المجتمع الخطيرة.. وعن مخاطبة الشباب. |
والتلفاز: مازالت مسلسلاته مستوردة، تلوك في موضوعات مجتمع آخر أكل عليها الدهر وشرب.. بينما مناقشة مشكلات شبابنا وشاباتنا، والظواهر الجديدة: غائبة الطرح عنها. |
أما الإذاعة.. فمن يسمعها؟! |
الشباب الآن... مندفعون لمتابعة وسماع إذاعة الـ (MBC,FM) التي زادت الطين بلة.. فهي سرقت التفاتة الشباب إليها بلا دراسة، وبلا عناية بالمشكلات وبالظاهرة... فأصبح أهم برامجها ممثلاً في: حشد أغاني الفيديو كليب، والأغاني الهابطة، وإهداء الأغاني، و..... رقاعة صوت (الشاب) الذي يقدم البرنامج كأنه فتاة(!!).. يلوك الكلمات بدلع وبمنتهى التفاهة والتسطيح لقيمة الجيل الجديد كله الذي حصرت هذه الإذاعة كل اهتماماته في هذه التفاهة!! |
نعم.. هناك برامج اجتماعية - إذا جاز وصفها - تقدمها الإذاعة في النهار، أو في أوقات ميِّتة لا يسمعها الشباب.. والوقت المناسب هو المساء. |
• • • |
• وبعد.... إن "أحلام" هذا الجيل تتحول إلى ضرب من الجنون التعيس. |
إنها أحلام عاجزة أن تحمل في تضعيفها: قدرة البوح... على الأقل! |
وأخيراً جداً.. أختار - طائعاً - أن أتوقف عند هذه العبارة: |
ـ "مادمت لا تعيش حتى المائة... فلماذا تحترق ألف مرة"؟! |
ورغم أنها حقيقة. |
ورغم أن خلفيات المعنى فيها من أسرة: "الحلم المفقود"، ومن القلق الذي يشبه ورقة النشاف. |
ورغم أن الإنسان لا يضمن الدقيقة القادمة من عمره في ظل تهديد أمنه اليوم، وتهديد راحته الموهومة: |
فإن كل واحد: يركض، ويزاحم، ويخاصم، ويحقد، ويتلوث.. من أجل (حفنة) من أي شيء، ما تلبث أن تضيع.... حتى من أحلام الشباب! |
ويبدو أنه من الضروري أن يحترق هذا الجيل الجديد ألف مرة في اليوم، ليعرف: أنه يعيش - كما عاشت الأجيال التي قبله - طوال اليوم!! |
|