الكاتب.. والجنرال! |
كان غرض النقد الحديث أن يعيد الأدب إلى مكانه الصحيح من التجربة الإنسانية، ويحرره من سيطرة الحقائق الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، والمعرفية، والتاريخية.. ولكن المغالين في هذا الاتجاه هم الذين فصلوه عن الرحم الاجتماعي الذي ينشأ فيه وإليه يعود.. فزاد عندهم الاهتمام بالخصائص على حساب الفرض، وتجاهلوا اتفاقاً قائماً لا يحتاج إلى التصريح به لنقر بقيمته النقدية.. ألا وهو: عدم فصل الأدب عن بيئته، مهما اختلفت نظرتنا حول تقويمه أو تناوله!!
|
|
• ما الذي يريد أن يقوله هؤلاء الأدباء والمفكرون عن عصرهم، وما وراء عصرهم... وعن حصيلة هذا العصر التي ستبقى لجيل آخر؟! |
وما الذي تريد أن تدينه، وأن تبرِّئه.. هذه الكتب الكثيفة والمتناقضة والعظيمة؟! |
إن انطباع الجيل القادم غير معروف بعد.. كما أن الجيل القادم نفسه غير معروف بعد! |
ولكنَّ قارئ اليوم من هذا الجيل.. مطلوب منه أن يجيب عن سؤال ينتصب دائماً، ويتردد هكذا: |
• ما الذي فهمته مما قرأت؟! |
وما الذي تريد أن تفهمه، باعتبارك قارئاً شغوفاً ومدمناً، وشقياً بالفهم؟! |
• يقول - ويل ديوارنت - في عبارة مباشرة، و "مفهومة": |
"إن الآثار تنهار، والأمم تفنى، والحضارات تتهدم وتموت.. وبعد عصر من الظلام، تجيء أجيال أخرى لتشيِّد حضارات جديدة.. أما في عالم الكتب، فهناك مجلدات شاهدت الأحداث وهي تقع المرة تلو المرة.. بينما ظلت هي حية وشابة وجديدة كاليوم الذي كتبت فيه، ولا تزال الكتب تتحدث إلى قلوب الناس عن قلوب أناس ماتوا منذ قرون عديدة"! |
ولكن.. يبقى اشتراط هام ومنتصب.. يلح على أن تكون تلك الكتب انعكاساً لحقيقة الحياة التي كانت، أو شواهد على الأحداث التي صنعت أمة وأوجدت حضارة إنسانية. |
وقد عبر في ذهني بعض عطاءات الكلمة.. حينما كنت أعود إلى فصول من كتاب للأديب المجري "جورج بالوشي هورفات" الذي قدم لطبعته العربية "قدري قلعجي" قبل سنوات، فقال عنه: |
هذا الكتاب.. هو صرخة أديب هزه مصير زملائه في البلدان الشيوعية، فعرض بعض ما يعانونه من اضطهاد ويتعرضون له من إذلال.. ابتداء من الاتحاد السوفيتي، حتى فيتنام. وهذا الأديب يصف نفسه بأنه ينتمي إلى - الأخوة العالمية للمنفيين وخريجي السجون - وكان يعيش حياة المنفى ويضع موهبته في خدمة الكفاح ضد الشيوعية! |
هذا الأديب المجري الذي أصبح قديماً الآن، وقد مات لتقادم النسيان على اسمه.. يذكّرنا بأسماء العديد من الأدباء والمفكرين الذين اضطهدتهم الشيوعية ونفتهم وطاردتهم، أمثال: مايكوفسكي، وفادييف، وبوريس بلنيك وتربتياكوف، ورومانوف وباسترناك، ويذكّرنا ببعض الكتَّاب العرب الذين تعرضوا لذلك! |
وكان "فادييف" هو أبرزهم وتولى رئاسة اتحاد الكتّاب السوفييت، وقال عنه هذا المؤلف المجري في كتابه الذي أسماه "الأديب.. ومفوض الشرطة": أن "فادييف" لم يستطع مواصلة اللعبة والعيش في ظل النظام الإرهابي، فانتحر! |
ومطاردة "العسكر" للأدباء والمفكرين.. تفشت حتى وصلت إلى بعض الدول العربية من خلال أنظمة الحكم العسكرية التي طاردت واغتالت بعض حملة الأقلام عندما تضيق ذرعاً بكلماتهم التي تطارد "عسكرة" الكلمة والفكر!! |
وفي تاريخنا العربي الحديث.. نعرف أسماء لبعض الكتّاب، دبر النظام العسكري أمرغتيالهم بالمتفجرات، أو بالخطف والتعذيب والتمثيل بهم.. ابتداء من "كامل مروة" كمثال واحد فقط، ومن بعده "سليم اللوزي".. لتكرّ المسبحة بعد ذلك! |
فالأنظمة العسكرية.. هي ألعاب سياسية أدارتها القوى العظمى في فترة ما، تزرع القلاقل في المنطقة، وكان الأديب والكاتب العربي ضحية بسبب حمله للقلم، وفضح فساد هذه التجربة! |
وقد استمرت هذه اللعبة فترة من الوقت.. أغرقوا العالم العربي خلالها في نقيع من الدم، ومن المحن، ومن تبديد عطاء التنمية لأقاليمهم.. ولم يكن الكاتب من واقع مسؤوليته وشرف الدور الذي يضطلع به مخيراً ليحني رأسه لعاصفة لا يعرف متى تنتهي، وما عدد الأشجار العتيقة والراسخة التي تقتلعها في جنوبها وهبوب عواصفها! |
ثم انتقل العالم العربي - بحسب مخطط الاستعمار والقرى الكبرى لتفتيته - فبلغ مرحلة أخرى.. عرفت بمرحلة: صراع الأيديولوجيات والعقائد، وكان لا بد للكلمة من دور في هذا الصراع.. وهو دور مشوش، بل هو دور استطاعوا تسخيره لترويج بعض الشعارات.. وجذب هذا التخلخل ذلك اللون من الكتّاب الذين أجادوا استبدال الأقنعة. |
• • • |
* قدرية وحدة المصير: |
ودخلت الكلمة المكتوبة في إسار أجهزة الرقابة العسكرية والانقلابية.. فأخضعت بعض الصحف في العالم العربي لدورة فلك النظام السياسي الانقلابي، وكلما انقلب نظام وجاء آخر.. انقلبت الكلمة وجاءت كلمة أخرى مصبوغة بلون النظام السياسي الجديد.. واحتار المواطن العربي، مَنْ يصدق، وإلى مَنْ ينتمي، وما الذي يقنعه ويزرع الثقة في داخله، ويوطد الأمان والاستقرار؟! |
وكان قدر الكلمة العربية، والرأي الذي تضطلع به، مرهوناً ومرتبطاً ببقاء النظام السياسي، أو الانقلابي! |
ولكن.. تبقى نقطة جديرة بالأهمية والالتفات، في هذا الزحام الخليط، وهي: أن إجماع الكلمة العربية على النضال العربي، وعلى مقاومة العدو المشترك.. يعتبر إجماعاً مشهوداً، يمثل قدرية وحدة المصير، وإن اضطربت وحدة الصف، ومصداقية وحدة الانتماء للأرض، وإن تلوّنت وسائل وحدة الهدف! |
ولا نطرح هذا التصور عن صمود الكلمة العربية عاطفياً، ولا نحكم عليها بإلزام المعالجة النفسية لضمير الكاتب العربي.. ولكن الرؤية المباشرة، والتي استخلصناها من مجموعة تجارب قاسية، ومحن صعبة مرت بتاريخنا الحديث، كانت رؤية تدل على أن الكلمة العربية تعود في النهاية من صراعها ما بين الأيديولوجيات والانتماءات والتحزب إلى هاجس المصير العربي الواحد! |
وإذا كانت المنطقة العربية قد شهدت في السنوات القريبة الماضية نزيفاً من الكلمات التي تهدم نظاماً سياسياً غاب على حساب نظام سياسي بدأ وطلع.. فلأن تلك الكتب تعكس أوجاع النفسية العربية في التحليل الشامل! |
ولكن النزيف الذي جاء على شكل مذكرات كاتب عايش نظاماً واستفاد منهن ثم اضطهده نظام وخسر فيه.. هو نزيف يخضع لعاطفة مؤلف الكتاب، أكثر من خضوعه لفكرة التسجيل التاريخي لفترة أثرت في مجريات السياسة العربية كلها، أو المصير العربي كله.. فالكتب التي صدرت على شكل خروج من سجن رقابة فرضها نظام ذاهب.. لم تكن أكثر من كتب صدرت على شكل دخول إلى سجن رقابة يفرضها نظام قادم ّ |
• • • |
* دور الكلمة في معاناة الأمم: |
• ولقد استوقفتني عبارات جاذبة وصريحة كتبها الأستاذ "مصطفى أمين"، والدكتور "محمد فاضل الجمالي".. وفي تلك الكلمات اضاءة باهرة على دور الكلمة في معاناة الأمم، ومسئوليتها عن الانتصار للحق وللحقيقة وللكفاح ضد امتهان الحرية والديموقراطية! |
• فالدكتور الجمالي تحدث عن الكلمة عندما تصبح سلاحاً شريراً يوظفه العداة والظلم والغزو، ويوظفها أهل الضلال والشر، وقال: إن هذه حقيقة ثابتة تؤيدها الخبرة في عالم اليوم، كما يدعمها علم النفس الاجتماعي والسياسي"! |
وأضاف الدكتور الجمالي قائلاً: "كم من كلمة طيبة كالحرية، والديموقراطية، وحق تقرير المصير، ومبادئ إعلان حقوق الإنسان.. استعملت للتضليل وخداع الرأي العام، بينما مارس دعاة هذه الكلمات سياسة الاستيلاء بالقوة، ومصادرة الحريات وإهدار حقوق الإنسان"! |
وهذه الصورة تنطبق تماماً على توظيف إسرائيل للكلمة الإعلامية من أجل أغراضها التوسعية، مثل انطباقها على دول عظمى تدعي الديموقراطية والدفاع عن حرية الشعوب! |
وعلى هذا القياس - أيضاً - نجد في تاريخنا العربي الحديث.. بعض النظم السياسية التي استخدمت نفس الطريقة، وعمدت إلى توجيه الكاتب وكلمته للإعلام عن هذه النظم والترويج لها، وتزوير الحقائق لإظهار أن هذا النظام أو ذاك هو ديموقراطي ينبعث من مصالح الأمة!! |
• أما الأستاذ "مصطفى أمين" فقد تحدث من حصيلة تجاربه ومعاناته عن الكلمة وكاتبها من خلال حقل الصحافة، فقال: |
ـ "رأيت الصحافة وهي تاج على رأس الشعب، ثم رأيت الصحافة وهي فردة حذاء في قدم الحاكم.. يرتديها في القدم اليمنى فتصبح صحفاً يمينية، ويرتديها في القدم اليسرى فتصبح صحفاً يسارية"! |
ـ وأضاف: "في عهود الاستبداد.. مطلوب أن يكون الناس قصار القامة، لأن أي فرد له قوة أو شخصية، فهو خطر على الحكم الاستبدادي الذي يعتمد على الأصفار، ولهذا.. فمنذ قيام الثورة إلى اليوم لم يظهر عدد كاف من العمالقة في الصحافة"!! |
بمعنى: أننا لو أجلنا النظر اليوم في هذا الزحام الصحافي.. يمكننا أن نكتشف ازدياد نسبة عدد الأصفار في بعض الصحافة العربية!! |
وإذا أردنا أن نسترجع جوانب من التاريخ القديم، ونطرح بعض الشواهد المشابهة عن اعتساف دور الكلمة حيناً، وتوظيف بعض الكتّاب.. فإننا نعود إلى تقليب صفحات من ذلك الكتاب الذي أشرت إليه في مطلع هذا المقال.. فنقف عند صفحة، روى فيها المؤلف حادثة من بولونيا عن الشاعر الذي كان معروفاً هناك، وهو "جاسترون" فقال: |
• "بعد أن أصدر مؤتمر اتحاد الكتّاب قراراً يحتج فيه على الرقابة المبالغ فيها، والتي أدت إلى منع نشر وتوزيع ثلاثين كتاباً، وبعد أن طالب القرار بالدفاع عن حرية الرأي.. قال ذلك الشاعر عبارته المشهورة حينذاك: إن السلطات لا تكتفي بمصادرة الرعد، بل تصادر أيضاً الغيوم المسببة له"! |
ذلك لون من ألوان الإرهاب الذي مارسته السلطات الديكتاتورية في كل منطقة، فاعتسفت وكبلت، وجاهرت بعدائها للمفكرين وللأدباء وحتى للشعراء وللفنانين.. بل إن في تاريخ التسلط على الكلمة ما يكشف عن جبروت بلغ أقصاه في عبارتين.. قال الأولى لينين: (فليسقط الكتاب غير الحزبيين، وليسقط سوبرمان الأدب.. فالأدب يجب أن يغدو عجلة وبرغياً في آلة الحزب الوحيدة)! |
أما خروشوف، فهو قائل العبارة الأخرى.. عندما علق على ثورة المجر عام 56 بقوله: |
ـ (ما كان ليحدث شيء من هذا.. لو أطلقت النار على اثنين من الكتّاب في الوقت المناسب)! |
وفي العبارتين احتقار وقح لدور الكلمة، وحريتها، وحيادها، ونقائها من كل شوائب الانحرافات الأيديولوجية والسياسية! |
ويبدو أن هذه "العدوى" قد صدرت إلى العالم العربي.. عبر القلاقل والانقلابات العسكرية، واعتقال الكلمة، وتوظيفها بعد ذلك لخدمة النظام العسكري، الذي يتحوّل بعد الانقلاب إلى لعبة سياسية تسمى نظاماً، أو أيديولوجية، أو شعاراً.. أو حتى تكون مجرد مرحلة فقط!! |
|