شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ـ وكتب الأستاذ ((علي محمد حسون)):
ـ قبل أقل من شهرين على ما أذكر.. أتاني صوته هادئاً وهو يقول: إنني أكلمك من البيت.. لقد تركت المستشفى بعد أن انتهت الفحوص.. ثم أردف قائلاً في لهجة عَشِقَها من بعض مشائخه فأحبها ليقولها لمن أحب، قال: يا واد، لقد قرأت كلمتك المنْشورة عني اليوم في جريدة البلاد، وكأنك تنعاني! قلت وأنا لا أكاد أمسك ما يجيش في نفسي لحظتها، وأنا أسمعه يقول ذلك: لك طولة العمر يا أستاذ.
ـ قال بصوت مليء بكل الرضا: لقد أحسست براحة وأنا أقرأ ما قلته عن مواطن الذكرى والشجن، عن قباء والعوالي والعيون وقربان، تلك العامرة بالود والحب.. لقد ذكرتني بما سبق أن قلته ذات يوم وأنا في الباخرة في أول رحلة إلى الهند.. وكان الفجر قد بزغ والصبح قد تنفس.. بعين الذكرى تهزُّني هزًّا حينما أسمع صوتين: صوت المؤذن، وتغريد القُمْري.. كانت قمرية تغرد على فنن.
وأحسبني أعجبت بكلمة تُغَرْهِد أكثر من ((تُغرِّد))، غرْهدت القمرية فانتزعني إلى مكان آخر.. كان المكان ((قباء)) وكم لقُباء من ذكريات، تذكرت فجراً في قباء الحبيبة في الجزع على حافة ((رانوناء))، سمعت، القمري فسرقت نفسي من حمأة المادة إلى حمى الذكريات، بكيت ساعتها وأنشدت:
رُبَّ ورقاء هتوف في الضحى
ذات شجو هتفت في فنن
فبُكائي ربما أرقها
وبكاها ربَّما أرَّقني
غير أنِّي بالجوى أعرفها
وهي أيضاً بالجوى تعرفني
ثم قطع كلامه ليقول لي في صوت هامس: بشرني كيف حال أهلنا عندك؟!
ـ قلت: في خير، وعلى خير.
ـ قال: بصوت أكثر حميمية: بلَّغهم سلامي!!
قلت: وقد أحسست أن الكلام يكاد يعصيني: متى نراك هنا في المدينة المنورة؟!
ـ قال: في استسلام لم أعهده فيه: أرجو أن يكون ذلك قريباً.. إنني أرى النهاية تقترب مني، فالذي بقي أقل من الذي ذهب.
ـ وفجأة سادنا صمت، خلته طال، عندما قطعه قائلاً:
ـ إيه فين رحت؟!
وكأنني أصبت برعشة، فسارعت قائلاً: أبداً، إنني معك.
ـ قال بصوت ضاحك: ((يا واد))، بلا فرائخ، إنت تكتب كلامي الآن!
ـ قلت: وهل تمانع؟!
ـ أبداً لك كل الحرية في هذا.
ـ قلت: يا أستاذي.. لم أرك هكذا من قبل مستسلماً؟!
ـ قال بصوت حاول أن يجعله ضاحكاً: ألم يقل الشاعر القديم، وأظنه عمران بن حطان:
أفي كل عام مرضَة ثم نَقْهة
وينعي، ولا ينعي، متى ذا؟ إلى متى؟!
ولا بد من يوم يجيء وليلة
يسوقان حتفاً راح نحوك أوغدا
- قلت: وقد أخذني كلامه إلى البعيد: أراك تتحدث عن النهاية، وكأنها ماثلة بين عينيك؟!
ـ فردَّ سريعاً: هو ذاك، إسمع واكتب:
ولقد علمْتُ بأن قصري حفْرة
غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجْوهنَّ وزوجتي
والأقربون إلى مآتم تصدعُ
وتُركْت في غبراء يكره ورْدها
تسفي عليَّ الريح، ثم أودِّع
إن الحوادث يخترقن، وإنما
عُمْر الفتى في أهله مستودع!
- قلت: لمن هذه الأبيات؟
ـ قال: أظن أنها لعبدة بن الطيب.
وفجأة إنقطع الحوار.. أحسست أنه تعب فصمت.
وغاب عني صوته، وأصبح قليل الكلام.. نادراً ما يسمح بزيارته.. لقد أنهكته الأيام، وإن لم تسلبه حيوية روحه، أو إتقاد ذهنه. لقد ظلَّ على اتصال بمن يحبُّ.. رغم كل ما يشعر به من ألم.
أستاذي الكبير محمد حسين زيدان: في يوم رحيلك لا نجد إلاَّ نتفاً من الكلام عنك، ولا نملك في هذه اللحظة إلاَّ مزيداً من الصبر.. فأنت واحد من هؤلاء الكبار في نفوسهم، في طيبة معدنهم، في سموِّ أخلاقهم، في كرم طبعهم.. فأنت يا سيدي أحد المشائين بالخير، والفاعلين له، والمتحرِّضين عليه. ولولا كثيراً من الحرج يتلبسني الآن لذكرت بعضاً يسيراً مما كنت تفعل، وتبذر من أعمال الخير.
ـ وكنت تقول في هذا: ((إذا لم تستطع أن تنفع.. فلا تضر)). أتوقف الآن.. وفي العين دمعة، وفي الصدر آهة، وفي الحلق شجى.
رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.. أيها ((المعلم)) الكبير، المحب لكل هذا الكيان الكبير.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :595  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 452 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.