ـ وكتب الشيخ ((أبو تراب الظاهري)): |
ـ ورد على أذني النبأ الفاجع، والخبر الجازع، بالمصاب القاصم للظهور، والمشجي للصدور، وهوى هذا الطود الشامخ، والعلم الباذخ، ((محمد حسين زيدان)) فأطار لبي، وهد ركني، وأكبت زندي، وفل حدي، واستكت منه مسامعي، واستهلت له مدامعي، وأوصل إلى قلبي كلماً لا يندمل وثلماً لا يلتئم، وصدعاً لا ينشعب، وثأياً لا يرأب، وحرقة لا تداوى، وارتماضاً لا يدانى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا بفراقك لمحزونون. |
وعلم الله أن جفوني لم تذق طعم النوم ثلاث ليالٍ متواليات، انثالت فيها عليَّ ذكريات نصف قرن مع صديقي الراحل، طوراً في كلمة له أقرؤها، ويرسلها منحوتة من فكره الثاقب، وذوقه الرائق، وطوراً في شخصه بعينه أعاشره في العمل يؤديه نسجاً منمنماً، وإتقاناً محكماً، وفي حاليه كان رحمه الله بارعاً لامعاً، مدرهاً مفوهاً، يقضي منه رائيه شدهاً إذا خطب، وعجباً إذا كتب. |
فلما التقينا والنقا موعد لنا |
تعجب رائي الدر منا ولاقطه |
فكم لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها |
وكم لؤلؤ عند الحديث تساقطه |
|
وشبهت ذاكرته الحاضرة بآلة التسجيل إذا غمزها لتسمع ما حواه الشريط فسبحان واهب القوى، الذي أودع رأسه خزانة ما طواه التاريخ، وما اقتبس من تجارب الزمان، ومخالطة الأقران. |
فكما علَّمه الرافعي الأسلوب في الكتابة، وطه حسين الارتجال في الخطابة، علمه فقه الأئمة استنباط الحلول لما يعتاص من مسائل تقع في الوقت والحال ملتفة كالحرجة، ثم علمته سير الصحابة والسلف دماثة الخلق، وحسن التعامل مع الناس، ولطف المعشر، وسماحة النفس، وعلمته التقوى والإحسان إلى ذوي الخلة والسعي في مصالحهم، وكان موحداً لله، متبعاً للسنة، يختار في الأحكام عند خلاف الفقهاء ما يؤيده الدليل، ولا يقلد واحداً بعينه، وإن هذه لعمري أمارة نضج العقل عنده، ورجاحة الحجى لديه، وقد حل في نجوة سامية، ورهوة رابية، وأوفى على قذفات الجبال، وسما إلى شرفات التلال، وتأطم وربا فوق المراقب. |
ورحيل مثله من الدنيا رزء فادح للأحبة، وحادثة ممضة للأمة، على إيمان منا بأن الموت حق، وكل نفس ذائقته، لا يحجزه وزر ولا تنفع منه شفاعة الشافعين، ولا طبابة الحكماء النطس، ولكن انقشاع مزن كهذا يؤذن بالجدب وزوال الخصوبة، فكان عماداً تزعزع، وبناناً انجذم، وجبلاً هقاً، وبحراً سبحى. |
وما كان عمر هلكه هلك واحد |
ولكنه بنيان قوم تهدَّما |
|
فالأسف عليه أليفنا، والأسى حليفنا، والغم كميعنا، والهم ضجيعنا وهذا لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، وإنما هو من سجايا النفس البشرية وقد قال عليه الصلاة والسلام: القلب يحزن، والعين تدمع (وفي الصبر مسلاة الهموم اللوازم). |
ودمعة العين من الرحمة، والتعزي مشروع، والمؤمن يسأل الله إذا استرد ما أعار، واسترجع لما وهب، المغفرة لمن تقدمه، ((وكل على حوض المنية وارد)). |
وإنما نتذكر محاسن فقيدنا العظيم، فقد كان ساد البرعاء، وبزَّ البلغاء وشأي الفهماء، ورأس الحكماء في عصره ووطنه، وكان المقدم على نظرائه، والأثير على أكفائه، وهو الأديب الذهن والعارف الفطن، والمفضل على أضرابه، وسيد أصحابه، وقد فات المدى، وتعدى الزبى، وبلغ في بيانه المبتغى الأعلى، والمرتقى الأنأى. |
مضى غير مذموم وأصبح ذكره |
حلى القوافي بين راث ومادح |
|
أليس ((الزيدان)) غيب في الجنن، وسامر الجنادل، وغطاه هابي التراب؟ بلى أنتزعته من بيننا يد الأقدار، ولله ما أراد وما اختار، وأجن في لحده ماسوفاً عليه فهل سيعود مكروراً منه، أكرم الله منزلته، لقاء ما كان يحسن إلى من يحتاج إلى وجاهته وشفاعته، وبرَّد مضجعه ونور ضريحه. |
وما كان إلاَّ كالسحابة أقلعت |
وقد تركت في الناس مؤعى ومشربا |
|
وكان مما جبل عليه رحمه الله حب العلم والعلماء، وتكريمهم ندى الكف، رحب الفناء، إذا اعتصر عوده، وهزَّ جذعه، وكذا حب الأدب والأدباء، والتظرف معهم، وتمكينهم من حاجهم، إذا استماحو نهره، واستمدوا سيبه، ويطرب للشعر الجيد الجميل، رقيق الحواشي، لطيف الكلمات، غير غامض المعاني، كأنه يشور لك من لسانه عسلاً مصفى، وترنحه الكلمة الشاعرة، بمطبوعته السليقة، وربما تقهقه لها مستأنساً، وتمايل كأنه عقير العقار ولوّح بيده يعبر عن سرور خاطره، بإشارة ظاهرة. |
وفي موقف وجدان كان يبكي، وينشج وهو شج يستعذب العذاب، ويرى الوصل في الموافقة على المخالفة، وترى الدمعة تتحدر على خديه حبات جمان لا ينتظمها سلك الجوهر، ويتأوه كالرجل الحزين، كأن نار الحب تتقد في أحشائه، وأوار الوجه يتلهب في جوانحه، وهو عفيف يفن جاوز الثمانين عاماً. |
ما درى نعشه ولا حاملوه |
ما على النعش من عفاف وجود |
|
إن الحب الذي تغلغل في جلجلان فؤاده كان علوياً ذا عنصر زاك، تحالف معه وهو في مسرحه يرتع، وفي منادحه يسيم، مطنب الخيمة، منجم الأدب، أرهف إحساسه فانحاز بوقاره، محمود الشاكلة، ممدوح الدخلة، ومضى على مذاهبه المستحسنة، وطرائفه الجميلة، وهو مدرب مجرب، محنك محكك، وناوشته الكماة فقارع كل قرين مرهج واحتدقت به الفوارس فأنحى على كل بطل مدجج، فارتجفت هامات الرجال حين أذهل النهى، وتزلزلت الأقدام حين نزع الشوى، فكان الأغلب الوقاص، والصارم المعقاص. |
فتى كسماك الغيث والناس دونه |
إذا أجدبوا جادت عليهم سحائبه |
|
وداعاً يا خليلي وقد هيل عليك التراب، ووسدت في رمسك حتى نتلاقى يوم البعث والنشور، وسأمسي مثلك دفين ثرى، ورهين بلى، ضيف اللحود، قرى لبنات الأرض والدود، وسأظل وأنا حي واجم القلب، ذابل النفس، متقسم الفكر، متقلقل الحشاء، موقناً بأنه مصرع لا بد من وروده، وحال لا بد من شهوده، وسبيل مسلوك لا تقي منه بروج مشيدة ولا قصور ممردة، فنزع لباس البقاء هو غاية كل حي، ومصير كل شيء، ليس له دافع، ولا دونه مانع. |
حسب الخليلين نأي الأرض بينهما |
هذا عليها وهذا تحتها فان |
|
اسأل الله لك الرحمة والرضوان وأن يتلقاك بالعفو والغفران وينلك من كرامته أجلَّها، ومن رأفته أكملها، وينزلك منازل الأبرار، ويبوئك غرف الجنان، ويورثك النعيم المقيم، والأجر الجسيم والثواب التميم، ويمنحك العيشة الراضية، منحى من ورطة الهاوية، ويعينك من أن تذل وتشقى، وأن تهان وتخزى. |
يا رب إن العبد يخفى عيبه |
فاستر بحلمك ما بدا من عيبه |
ولقد أتاك وماله من شافع |
لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه |
|
اللَّهم شفِّع فينا نبيك ولا تحرمنا من كرمك، واجعلنا من جملة المعفو عنهم. |
قال أبو تراب: ذكرياتي مع الفقيد الغالي، الرزين العقل، الطيب النجار، حبالي لو أستعرضها ما وسعها حيز هذه الكلمة المقتضبة، ولعلّ محبيه وهم كثر ينهضون لإصدار كتاب يترجم عنه فأكون أحد رافديه بما عندي من لطائفه ونوادره، تجالسنا فيها زمناً طويلاً تارة، وتهاتفنا بها أخرى، وما يمر بنا يوم إلاَّ وقد تذاكرنا في مسألة بحثاً وتنقيباً، ألا ما أحلى تلك الأويقات مضت كالشهاب وضوئه، وحارت اليوم رماداً اللَّهم إلاَّ الارتسامات اللطاف، عن أجلى ذلك المطاف. |
* * * |
ـ وقال عن الشيخ ((أبو تراب الظاهري)): |
ـ أستاذي ولا فخر أرجع إليه إذا ما جهلت.. إن علم الإجابة صدع بها وإن لم يعلمها تريث ليراجع حديثه. |
في شواهد القرآن أعاد لنا ذكرى أئمة المربدين: مربد البصرة والكوفة. |
هو تلميذ المربدين: مربد البصرة والكوفة. |
هو تلميذ المربدين، وتلميذ المسجدين، ويكفيه أن يكون كذلك. |
* * * |
|