شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عندما اكتمل نداؤه
ـ في الأيام الأجمل من وعي فكري، ومن أصالة وجداني.. كان يمنحني ضوء الفكر، وكان يهدهد وجداني ويسقيه من شجون تجاربه، ومن رحابة نفسه!
لم أكن جاحداً فضله في يوم ما..
ولن أكون في تذكُّره اليوم.. إلاَّ هذا الثراء الكبير الذي شذَّب أفكاري، وأترف أحلامي بالأمل، وغذَّى طموحاتي: متكلماً في أذنه، ومصغياً إلى حكمته وتجاربه.. حتى صار العمر محشوداً في (لحظة) واحدة: تضيق بنا إلى درجة الاستفزاز، أو الانفعال، أو.. الغضب!
وحتى صار العمر مزدحماً (بلحظة) واحدة: نضيق بها.. لأنها فاضت بالجراح، واكتوت بالجحود، وطافت في أرجائها أصداء الوحدة المترددة كموسيقى الحزن الجليل!!
وعندما أقام له ((نادي جدة الأدبي)) حفلاً لتكريمه، لم أذهب إلى حفل (شفهي)!
وبعدها بايام.. قال لي صديقي/الأديب ((الدكتور عبد الله مناع)):
ـ لقد افتقدتك كثيراً في الحفل.. وهو تكريم لأستاذنا الذي وحَّد الكثير من أفكارنا، وحتى مشاعرنا: ((محمد حسين زيدان))!!
ـ أجبته يومها: حتى أنا افتقدت نفسي هناك، بعد أن تفقَّدتها في داخلي، وفي داخل أستاذي، ومعلمي، وأبي الروحي ((محمد حسين زيدان)).. لكني رأيت أن (قيمته) في وطنه أكبر من ذلك بكثير جدًّا!!
ولكن أستاذنا، ومعلمنا - في تاثير ذلك الحفل داخل نفسه الشفافة - قد فرح بما أسماه وهو يبتسم حزيناً: مبادرة كريمة!
ـ وقال يومها: أشعر أن هذا التكريم لي.. هو حفل ((وداع)).. ترثونني فيه قبل موتي الذي أزف!!
* * *
ـ حقاً... لم أكن أرغب يومها في هذه الخاطرة/اللمحة التي أشار إليها أستاذنا ((الزيدان)).. فوصف التكريم له، بأنه ((وداع))!!
حتى الذين تنتهي أعمارهم ويرحلون نهائياً عن حياتنا.. نحن لا نودِّعهم لأنهم بما تركوه، وبحبنا لهم.. لا نشعر بمعنى ((الوداع))، أو الغياب النهائي عنا.. بل نشعر بآلام الفراق، وبأن حوارنا ((الصوتي)) معهم قد انقطع، أما صلتنا معهم - روحياً وفكرياً - فهي تُشكِّل الحياة الجديدة.. الأكثر رسوخاً، والأكثر إلتصاقاً، والأنقى والأكثر صفاء!!
إننا في حياتنا، ونحن نمشي، ونتحرك، وننبض، قد لا نلتقي وجهاً لوجه.. قد نخاصم، ونحتجب، ونغضب، ونقاطع من أحببناهم بسبب تافه، أو لسبب يتصل بالكرامة، أو بعزَّة النفس، أو لموقف جازم... لكننا لا نقدر أن ننسى، إذا كنا لا نقدر أن نكره، أو نحقد، أو لا نقدر أن نتنازل عن الحبِّ!!
إن ((الزيدان)) مدرسة فريدة، وعصر ((أستاذيٌّ)) متميز،ونكهة - في أسلوب الكتابة، وفي أسلوب التعامل أيضاً - وهذه النكهة تُجسِّد قيمة هذا الطراز من المعلمين، المثقفين، الحكماء، المجربين، العاطفيين أيضاً!
وأستطيع أن أقول عن ((أبي)) الزيدان:
ـ إننا وقفنا أمام ((إنسان)).. عاطفي جداً، ولكن ليس في صناعاته: الكراهية!
علَّمني مرة هذه ((الرؤية))، فقال لي:
ـ لا تقل أنني أكره فلاناً.. لأنك بهذا الوصف تعني أنك تحبُّه، أو تفكر فيه، أو تحسب له حساباً.. ولكن قل: إنني أحتقر فلاناً!!
إن الكراهية: عاطفة أيضاً مثل الحب، ولكن ((لإحتقار)): إسقاط تام!!
ـ قلت: إن الاحتقار لن يكون معنى، ولكنه ممارسة وتصرُّف.. أما الكراهية فتحمل المعنى!
ـ قال ضاحكاً: الأفضل لمثلك ومثلي.. أن نتحدث عن الحب دائماً، فنسقِّط الكراهية، ولن نحتاج أو نضطر للاحتقار!!
* * *
ـ ذات يوم... دخل إلى مكتبي - يوم كان لي مكتب يعرفه ويعودن فيه! - وشعرت أنه قد أصيب ((بنوبة)) ترف!!
والحوار معه يبدأ هادئاً حتى يسخن.. فإذا سخن، سقطت من عينيه الدموع فجأة، ويبقى ترف العبارة.. هو وميض الدموع!!
ولاح لي أن في ذهنه فكرة تلوب، ولا تكاد تستقر حتى تتقافز.. أما لأنها تريد أن تخرج على الورق، أو لأنها تعاني!
ـ قلت له: ما بك.. هل تعاني اليوم من ترف الكلام، أم من فيضان الكلام... بينما نحن في حاجة إلى صدق الكلام؟!
ـ أجاب: صرنا نعاني من الثرثرة، ومن فيضان الكلام.
ولكن.. إسمع: إن الكلمة البيانية عند الرافعي - مثلاً - تبدو في ذكاء الترف من حضارة الحب، أو هي ترف الذكاء من الغلو في العفة!!
والأستاذ ((الزيدان)) يعشق أسلوب الرافعي وصُوره، ويمتح من عطائه مثل كل ذوَّاقة للكلمة، وإن أطلقوا على أسلوب ((الزيدان)) بأنه ((زيَّاتي)) نسبة إلى الزيات!
ويفرك الأستاذ يديه، وهو يتذكر حياة الرافعي العريضة/المنكمشة في آن واحد!
ـ قلت له: إن الترف لم يتمخض عنه ذكاء مطلقاً، ولا تقف الأمثلة الشواذ لتكون مدلولات وحُجَّة!!
إن العبارة التي تنعكس عليها ملامح الترف.. هي كما ((السندويتش)).. يقرأها القارئ في لحظتها ويطرب لها، ويعبر بها أجواء ذاتيته ومشاعره، ثم يتلاشى بذوبان الشعور الطاغي الذي يتحكم آنذاك!
إن الرافعي - في رأيي - لم يكن يكتب العبارة المترفة، بقدر ما كان ينحت من وجدانه: سطوره وكلماته، ويرسمها على الورق.. وكأنَّ وجدانه يفيض بالأسى والمرارة.. مثلك أنت تماماً!
ودمعت عيناه من جديد.. وعقَّب قائلاً:
ـ أراك تستمرئ مشاكستي.. حتى أضطر إلى ضربك!!
* * *
ـ ويحلو ((للزيدان)) أن تُحدِّثه عن ((مي زيادة)).. كأنها ترمز - في امتداد سيرتها - إلى عدة (ميَّات) في حياة الزيدان.. بدون زيارة (!!)
ـ قلت له: كان واقع ((مي)) هو الترف، والأرستقراط، ومجتمع النبلاء والسادة، والمفكرين.. لكنها كانت تطمر آلامها في أعماقها، وكانت تُهيل على تلك الأحزان طبقة من الترف المصنوع الذي تعيشه ولا تحياه.. علَّها بذلك تصنع التغيير في حياتها!
لكنَّ أعماقها كانت حافلة بالشجون وهي: عاشقة ومتألمة.. فأرادت أن تكتب العبارة المترفة بذلك الإيقاع الحزين، تحت إلحاح التغيير الذي تطمح إليه!
ولقد جنى الترف عليها، حتى اتهموها بالجنون!
وجنى الطموح عليها، حتى حملوها قسراً إلى مصحة للأمراض النفسية!
ـ قال: لكنها في كل ذلك.. لم تخسر صدقها مع قلبها ووجدانها، وإن أنفض من حولها الترف!
ـ قلت: هناك منْ بالغ في السخرية - فأتهم ((الجاحظ)) بالترف أيضاً!!
ـ قال: إننا لم نختلف، ولكن الترف الأخطر.. هو ذلك الذي يصيب الضمائر، ويصيب الذاكرة، ويصيب السلوك والتعامل... حينما يتحول إلى ((بطر))!!
ـ قلت: إن كثيراً من العبارات المترفة.. كتبت في كوخ، أو في ظلال شمعة!
ونحن في هذا العصر نبحث عن عبارات تكتب تحت وهج الشمس.. حينذاك نتذوق الترف، لأنه سيكون حصيلة عرق ومعاناة!
ـ قال: دعني أسألك.. ماذا نفعل بسمو الأخلاق؟!
ـ قلت: إنك تُحرج زمني بهذا السؤال!!
ولكني أجيبك: إننا نتعلم بهذا السُّمو كيف نعيش، ونعرف به ماذا نصنع، ونلتزم في إطاره بالمثل، وبالنظافة، وبنقاء النفس... وبذلك نفرح!!
ـ قال: هل تكتب موضوعاً إنشائياً؟!!
ـ قلت: لماذا تشتمني؟!
ـ قال: ألا ترى أن سموَّ الأخلاق.. يسقط أمام رغيف العيش؟!
ـ قلت: بلى... عند أصحاب النفوس الضعيفة، والذين يقبلون القهر، والأذهان القاصرة، والظروف الرطيئة!
ـ قال: إن واقع الحياة يا بُنيَّ.. قد أفسد فينا أخلاق الكتب!!
* * *
ـ ذات يوم... دخلت إلى سمعه بعبارة قالها الشاعر ((نزار قباني))، وهي:
ـ ((الحلم.. هو الشيء الوحيد الذي لا يعار للآخرين))!
ـ فقلت له بعد قراءة العبارة:
ـ ألم تُعِرْ حلمك يوماً للآخرين؟!
ـ قال ضاحكاً: بلى.. لكل الذين أحببتهم، حتى لو لم يحبُّوني!
ـ قلت: لذلك... فقد ملأت أيام أعيادك في الحلم بعدوى الفرح.. لا بالفرح ذاته، وأردت أن تقود أحزانك ومواقفك إلى أفراحك في الحلم، وتغمسها في مسرات من أحببتهم!
إن الذي يفرحك.. قد لا تستطيع أن تقوله لمن حولك.. والذي يحزنك قد لا تستطيع أن تُخفيه عن الذين أحببتهم.
إن مقاييس الفرح والحزن.. لم تعد في ضميرك بفلسفة الشعور، بقدر ما هي إغفاءة التعب.. التي يصعب أن يرفضها الإنسان!
لذلك - أيضاً - فمن الصعب أن تنتمي إلى حالة معينة.. ولا إلى استكناه متفرد.. ولا إلى موقف تجعله ينتصب في صدرك كالرمح!!
إن ما يهمك هو أن تحقق زمن التعب الذي لا ترفضه!
إنك تطلب من نفسك أن تتوغل في أحراش الحياة.. لتصل إلى كل الناس.
وما دُمت قد توصلت إلى كل الناس.. فإنك تعطي فلسفة حكيمة لهذا العالم المؤلم.. بقدر ما فيه من فرحة!
ـ قال: لقد أرغدتني أحلامي كثيراً.. أحلام اليقظة بالذت، وأحلام الوجدان.
إنها النفس التي لا تعرف الكراهية، وعشت بها حتى بلغت هذه السن.
ولذلك.. لا بد أن تعرف أنني حين أضع رأسي على الوسادة كل ليلة.. أستغرق مباشرة في النوم العميق، لأنني أمتلك تلك القدرة التي يبحث عنها الكثيرون: قدرتي أن أطرد كل الأفكار من رأسي، وكل رواسب اليوم الطويل، والمواقف... وأنام!
* * *
ـ وبقيتُ أفكر - بعد حوارنا هذا - في أبعاد سؤال:
ـ هل كان يعيش ((الزيدان)) العزلة التي يطلبها مع نفسه؟!
ربما كان يفعل ذلك أمام حميمياته، ووجدانه، وأحلامه أيضاً.. وهو في هذا السن!
ذلك... لأن الأحلام لا تشيخ، طالما بقيت روح الإنسان حيوية، ومتدفقة العطاء.
ويذكرني الأستاذ الزيدان بشاعر إيطاليا الكبير الراحل ((أوجينيو مونتال)).. الذي قال وهو يبلغ الرابعة والثمانين من العمر:
ـ ((إنني أعيش في عزلة روحية.. كأسلوب وحيد يُمكنني من تَحمُّل حقائق الحياة))!!!
وحياة ((مونتال)) مع الحياة.. قضاها: إبداعاً، وفلسفة، ورؤية، وحلماً.. فقد حصل على جائزة ((نوبل)) (الزيدان حصل على تكريم لنادي الأدبي بجدة!!) ووصفه النقاد يوم حصل على تلك الجائزة: بأنه: ((حرب على الحياة ويخلو من الأحلام))!!
وأول ديوان شعر أصدره ((مونتال)) أطلق عليه هذا العنوان: ((عظام سمكة))، أو رفات سمكة، وكأنه يمزج الحياة بالموت، أو كأنه يبتكر حياة من أحلامه، وتصوراته الخاصة من بين هجمات الموت!!
و ((الزيدان)) أطلق هذا العنوان على أوائل كتبه: ((تمر وجمر))، وفسر هذا المزج بين الغذاء/الحياة، وبين الاحتراق/الموت.. فقال:
ـ ((إن النخلة كانت الزاد، دعامة المسيرة، وركيزة العبر للصابرين الطامحين.. غذاء في عام جائع، وزاداً لجيش فاتح!
فالثمرة، والجمل، والحصان، والسيف، والجمرة: مادة الحضارة العربية، لأنها عدة الصحراء))!!
ولكن.. أي إنسان لن يقدر أن يعطي الحياة أمل البقاء، بل هو الذي يستمد دائماً من الحياة. جمال البقاء، والشعور به))!! المهم أن لا نكون مثل ((مونتال)) : قدرة على هجرة الحياة، وضعفاً أمام الموت الذي يعلمنا دائماً شجاعة المواجهة لما نخاف منه!!
أما الأب ((زيدان)).. فقد كان يهدهد أحلامه، ولا يهجو الحياة، ويدعو إلى الحب مبتسماً.. ويحدثك عن الأحلام، ويبدو أكبر بكثير من جائزة ((نوبل)) المشبوهة، ويقول مبتسماً:
ـ أي رمز هذا.. الذي جعل ((القلب)) مهد الحب؟!
لأنه أول ما يخفق.. ولأنه آخر ما يسكت!
* * *
ـ إنه ((محمد حسين زيدان)): الرائد، المؤرخ، النسَّابة، المفكر، الأديب، العاشق، المنتمي... الذي تفيض عيناه بالدمع فجأة عندما يذكر تاريخ أمته الوضيء، والحزين!!
وعندما كرَّمه ((النادي الأدبي)) بجدة.. فقد أراد أن يتزوَّد هذا النادي بإضاءة الوفاء منه.
وإذا فرحنا بتكريمه يومها - نحن أبناءه، وتلاميذه، ومريديه - فإنَّ فرحنا يمثِّل: ((ترانيم تناهت من نواقيس قصية))!!
إن دموع ((الزيدان)).. كانت دماء أشواقه الدائمة!
إنه ومشاعره، وفكره: عهد قديم مشيناه معه، ومشاه قبلنا، ونمشيه أجيالاً بعده.
إن عطاءه - على امتداد عمره - قد شق أرضيَّة الدهشة، والحلم، والقدرة.. ومنحنا نحن قرَّاءه: زماناً مميزاً، ورؤية إلى الأبعد.. ما زالت تُمحِّض سفرنا إلى الحقيقة، والوعي، وتُطلعنا فنارات من الإدراك، والوجدان، والإنتماء!!
وعندما أسلم الروح لخالقها... فقد كان: نداؤه يكتمل.. والفم يصبح كلمة واحدة له، ومنه، وعنه!!
كأننا - في حديثنا عنه دائماً - نتجه جميعاً خطوة واحدة نحو شجرة وارفة، شامخة، متكاتفة.. ظلالها تفرش الأرض!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :702  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 456 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج