ـ الزيدان.. الزيدان.. الزيدان!! |
ـ ذهب الزيدان.. وترك لنا غُصَّة في الحلوق.. ما كان لها أن تزول.. وما ينبغي لها أن تزول. |
ذلك الرجل الدامع العينين أبداً.. الطافح بالوجد.. والمتورط بقراءة التاريخ الماضي نحو المستقبل الصعب. |
كان ولوعاً، وشغوفاً، ومثابراً حتى مع العكَّاز.. حتى مع ترنُّح الخطوة.. حتى مع المرض، والكآبة، والصمت، والعزلة، والموت الذي تأخر قليلاً، ثم تقدم أكثر وأكثر، فحسم الموضوع بطريقة لا تمتُّ للفروسية بصلة.. لأن الزيدان سقط في ميدان الصمت.. وهو الفارس في ميدان الكلمة المسموعة، الثاقبة، والمفجرة لطبلات الآذان المترهلة الصماء. |
سجن نفسه بطوع نفسه.. وكأنما هو قد سجن العالم كله في داخله.. حاصره الحزن، وحاصر هو الحزن وحيداً، لا سلاح، ولا مال، ولا أحباب.. رغم أن العالم من حوله مدجج بالسلاح.. والمال يجري في عروق الناس، مجرى الدم.. والأحباب - كل الأحباب - يتهافتون عليه.. ولكن (لا حياة ولا موت أيضاً لمن تنادي)!! وتلك كانت أقسى، وأبلغ، وأعنف، وأشقى، وألعن، وأمضى فواجع الإنسان في عمره.. إنها اللحظة الحاسمة، والواقفة على حد السيف.. وعلى شعرة الضمير - إن صح التعبير -! |
لحظة ليس فيها خيار، ولا مقارنة، ولا تفكير، وأيضاً ليس فيها تردد.. لأنها صنعت الإنسان الذي صنعها.. وقدَّته بخنجرها المصقول قدًّا من الوريد إلى الوريد.. فكان الموت عذاباً، وبهجة، وإحباطاً، وترفعاً يتخبط في كل المتناقضات، فيصهرها صهراً، لتتوحَّد في كتلة ليس لها حجم ولا وزن، ولكن لها حضور يخترق الزمن، ليكون منه وفيه ظلالاً، أو شعاعاً، أو ظلاماً، أو غراماً، أو بكاءًا.. يشهد للناس، ويشهد عليهم! |
ـ ما صبر الزيدان على الضيم يوماً.. |
وما توجع أو تفجَّع، ولا لعق جراحه بلسانه.. |
ولا طوى كبده المحروقة في جوفه، كما يطوي الليل البهيم شُهب النيازك.. |
ولكنه تقاطر على الحياة والناس، وأوغل فيهم ((الحب)) الذي لا يعرف المواربة.. |
فكان هو الشَّدْو، والفخر، والمداخلة بين أحلامنا ومآسينا.. |
وكان هو القفز في كل شيء، في حياته الحافلة، وفي علاقاته الاجتماعية، وفي أسلوبه الخطابي، والكتابي، والفكري، والعاطفي.. |
نعم كانت شخصية متميِّزة لا تراها إلاَّ مرة واحدة، وفي جيل واحد، شخصية قافزة على الحواجز أنَّى كانت الحواجز. |
كان معلم صبيان ورجال ونساء وأجيال.. مات البعض منها، وسيولد - حتماً - البعض منها ويتعلم. |
لقد أحببتُ الزيدان مرتين: مرة لفكره المتقدم.. ومرة لشخصيته الآسرة.. |
ولم أر إنساناً تندمج شخصيته بعطائه إلى حدِّ الذوبان أكثر من الزيدان.. |
وقد قال أخي عبد الله الجفري: إنه موسوعة تمشي على قدمين.. وأنا أزيد عليه، وأقول: وأيّ قدمين؟! |
* * * |
ـ فيا رحمة الله انزلي، فما أكثر المساكين.. |
ويا أيها الراحل عنا: نحن الراحلون، مثلما قال صديقك أبا الطيب.. |
فتمهل أيها الصبر والسلوان، ولا تتمهل.. |
وتبختر أيها (الفقد).. فقد أصبحتَ أميراً على أيامنا، وليالينا. |
والعزاء لك أيها السيد اليتيم: (ياسين طه).. الذي ما أن رأيتك في العزاء، حتى لجلج في كياني صائح البين.. فلم أجد كفاً لأصفقها بكف!! |
لم أجد يا سيدي غير هذا الذي كان!! |
* * * |
|