دمعته!! |
ـ قلت له يوماً: إن البكاء هو قمة الحنان!! |
وحين جاءني النعي بخبر موته.. تحجَّرت الدموع في عينيَّ، حتى رأيته: نعْشاً محمولاً على الأعناق.. فاستمْطرت عيني دموعها. |
شعرت في تلك اللحظة بهذا الحنان المكثَّف في دمعة انزلقت من عيني.. ونا أرى نعش هذا (الإنسان) الذي عاشرته في زهوة عمر، وطموحات شباب.. فأرغد فكري، وشذب عنعنات نفسي، وسقى جفاف الألم.. فكان بالنسبة لي: يمثل (الوجود) الذي يشرع لي نوافذ الضوء، ويفتح ستائر الأمل، ويدعوني لرؤية الأبعاد على امتدادها الأرحب! |
ويبقى البكاء - في مثل هذه المواقف - هو: عنوان رحلة الحياة، التي يبدأها الإنسان بصرخة، وينهيها بدمعة منه، أو عليه. |
وأذكر مما كان يرويه لي، ويحدثني عنه: أن أديب العربية الراحل (مصطفى صادق الرافعي) يبكي كلما انتهى من كتابة مقال، أو مقطوعة شعر، ويقول: |
ـ إنني أرثي كلماتي الآن.. فالكلمات بمجرد انتزاعها من القلب، والتقاطها من الفكر .. تتحول بعد قراءتها في عيون الناس إلى: انعدام.. برغم الإدِّعاء القائل: إن الكلمات تبقى، ولا تموت. |
* * * |
ـ وأجد أستاذي ((الزيدان)) في كثير من الدقائق، و الساعات التي أقضيها بصحبته: مستمعاً، مصغياً لأحاديثه، وكلماته... وهو (يبكي) فجأة!! |
كان سريع البكاء... أو أن دمعته متجاوبة مع: أحاسيسه، وانفعالاته.. بل مع: جذوره، وانتمائه، وغضبه، وحزنه، وفرحه! |
وأكثر من ذلك: كانت دمعته سريعة التجاوب، يمجرد أن يذكر موقفاً من التاريخ الإسلامي، أو يحكي عن بطل من الإسلام.. يبكي بنشيج! |
دمعته تسقط أسرع، كلما تحدث عن أمته العربية، وكلما استرجع صفحة من تاريخها الماضي المضيء بالأمجاد، أو المعَفَّر.. وقارنه بصفحة جديدة من التاريخ المعاصر!! |
دمعته - وحدها - لها أكثر من موقف، وحكاية! |
وأكثر ما استقر في ذاكرتي، بل وحفر أضلعي.. ما عاصرته معه، بعد تركه (لوظيفة) رئيس تحرير صحيفة، كما كان يسميها، وآخرها: رئيس تحرير (الندوة)... فكنت أسعى إليه بعد عصر كل يوم، وأستمتع بصحبتي له في عربتي.. ننطلق بها إلى (طريق المدينة) قبل إحداث الكباري.. ونتحدث على امتداد الطريق، وعلى الخطوة الهُويْني... فيضحك ويبكي.. يعبس،ويبتسم..يقول: الحكمة في كلمة، ويتغنى بالشعر، ويتلذّذ بالحوار عن الحب! |
كان يفرح كثيراً عندما يجد أمامه (محاوراً) متَّسع الأفق، متنوِّع الثقافة، حفيًّا بالكلمة.. فأسمعه - لحظتها - يقول كلماته المجنحة، كأنه يعزف على آلة موسيقية ببراعة.. ويحلل، ويستطرد في دفق المعلومات من ذاكرته! |
* * * |
ـ يوم استشْهَدت عروس الجنوب (سناء محيدلي): بكى بحرقة. |
وبحث عن صورتها، وأخذها بنفسه إلى استديو تصوير، وطلب تكبيرها، وعلقها على جدار غرفته الخاصة! |
ـ يوم استشهادها قال لي بغُصَّة الدمعة: |
ـ هكذا ينبغي أن يخُطَّ العرب المعاصرون تاريخ نضالهم ضد: الاستعمار، وضد القوة التي تحمي الاستعمار، وضد كل أسخريوطي يبيع وطنه للاستعمار!! |
* * * |
ـ كان يوماً يبكي في مكتبي، وهو يملي عليَّ مقالاً له عنوانه: (التاريخ يتحدى.. والواقع يتصدى).. ثم لم ينشره حينها، حتى قرر بعد فترة، أن يعطيه لإحدى الصحف، فذهب إلى مكتبها لإعادة إملائه من جديد! |
ومن خلال دموعه.. قال لي: |
ـ تعرف؟!.. إن الكلمات التي لا تموت.. هي تلك المتصلة بدموعنا الهادئة، كلما قلنا كلمة صدق، وكلما فقدنا قيمة في إنسان أهدرها، وكلما فقدنا الغوالي.. من الناس، أو من المواقف! |
ـ قلت له: أتذكَّر كلمة قالها الروائي العالمي (تولستوي) عن الدموع.. يقول فيها: |
ـ نحن لا نبكي من القسوة.. بل نبكي من أجل الحنان!! |
* * * |
|