شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبارة.. تتيَّم الزيدان
ـ من أدباء ((الشباب)) - يومها! - الذين لفتت ثقافتهم إهتمام أستاذنا ((الزيدان))، وتقدم هو بالخطوة الأولى منهم.. كان صديقنا الأديب المثقف، الذي هجر بعد ذلك الكلمة، كاتباً لها، وتحول إلى ورَّاق، أو صاحب مكتبة، وناشر: الأستاذ (عبد الله الماجد).
وقد ربطت بين الزيدان والماجد: علاقة أدب وفكر.. كان يحدثني عنها أستاذنا الزيدان باعتزاز، واعتبر أن صداقة مثل هذه تعتبر مكسباً للطرفين، بكل تواضعه الذي عرف به.. حتى صار ((الزيدان)) بالنسبة للماجد: أباً روحياً، ومعلماً، وقريباً جداً من أسرته.
ـ وقد وجهت للأستاذ ((عبد الله الماجد)) ذات يوم: رسالة مفتوحة عبر صحفنا، قلت له فيها:
ـ ((أتذكَّر في النداء عليك.. عبارة ((زوربا)) القديمة، الطوافة: ((أيها المعلم.. هل يبيع الطاووس ريشه))؟!!
وأعرف - متاكداً - أنك لم تبع عشقك للكلمة إلى تجارة نشْرها، بل اثق أنك بكل ما فيك من معاناة وظمأ، قد غادرت ساحة الذين ((يمارسون)) الكتابة - مبتعداً بهدوئك المعروف عنك - عن الزحام الغارق في اللجج، والأقنعة!
ترى.. هل ما زلت تذكر تلك الورقات الثلاث التي كتبتها في الصفحة السابعة بـ ((عكاظ)) قبل سنوات شاخت؟!
دعني أذكِّرك بالورقة الأولى، وكانت عن ذلك القارب الذي: ((تناصلت أجزاؤه ولم تعد، في القلوع مقدرة على إرساء القارب، بل نحن في مياه تشهد الأعاصير المحملة بزخات متتالية مع الرياح))!
ـ وأسألك: هل اقتنعت بأن تكفُّ عن نشر شراع جديد لهذا القارب؟!
ودعني أذكرك بالورقة الثانية، وكانت عن تلك ((الحماية البابلية التي عاشت في عهد أشور بابل، وجدتها في كوة غطى تراب الدهر توهُّج ريشها الأزرق المتكحل، فأصبحت كلون الحجارة البنية))!
ـ وأسألك: متى ستنفض تراب الدهر عن حمامتك البابلية، ليتوهج ريشها الأزرق المتكحل، ويعود لونها إلى هذا الفضاء الرحب؟!
ودعني أذكرك بالورقة الثالثة، وكانت عن تلك : ((النخلة التي لم يتساقط بلحها هذا الخريف))!
لقد استطردت بعد تساؤلك عن سر امتناع بَلَحِها عن السقوط فقلت: إنها لم تُسمَّد!!
وأقول لك: إنك هذه النخلة المسمَّدة التي طالما أعطت من ثمارها.. فهل يطول صمتك المتأمل، في هذا الاستسلام لتمدد الخريف))؟!
* * *
ـ وبعد نشري لهذه الرسالة، هاتفني أستاذي ((الزيدان)) يسألني:
ـ هل تنتظر رداً من صديقك القديم/الماجد؟!
ـ قلت له: متفائل.. لعلّنا نفتح محارته التي أغلقها عليه!
ـ قال بصوت متهدج: لم يتملكني أسف على غياب ((قلم)) شاب، ورشيق، ومثقف... مثلما أسفت على صمت كاتبين، توهَّجاً بالثقافة، وبجمال الأسلوب، وهما: عبد الله الماجد، ومشعل السديري!... إنه لم يرد عليك، فقد أضاعنا جميعاً: أنا، وأنت، و... الكتابة التي كانت عشقه!
لقد كان ((الماجد)) يتمتع بذهنية (أكول) كما وصفتها له يوماً... وهو حيِّي،تهذيبه نابع من معرفته، هدوئه... وهادئ حتى الصمت... وهو إذا لم تجده يقرأ، فإنه يستعيد ما قرأه وهو يمشي!
وكان إعزاز الأستاذ ((الزيدان)) لعقله، ولثقافته، ولأخلاقه.
ولقد بعث ((الماجد)) رسالة لم تكن معتادة إلى أستاذنا ((الزيدان)) وكانت تتضمن رأيه في أستاذنا!
وأطلعني ((الزيدان)) على الرسالة، ورأيت فرحته بها.. بل أكثر من الفرحة، فقد كانت الرسالة بمثابة حافز جيد للأستاذ الزيدان ليبادر إلى تأليف كتاب.. احتار في عنوان له، فوضع عنوانين لنختار منهما الأصلح، واستفتاني برأيي مع رأي صديق عمره الكاتب الرشيق السيد (ياسين طه)، وهما (من فقه التاريخ) أو (الوجه الخلفي للتاريخ/ ملامح من تاريخنا).
واستطعت أن أحتفظ بتلك الرسالة القديمة من ((الماجد)) لأستاذنا ((الزيدان)):
ـ أستاذنا الكبير/محمد حسين زيدان:
أنت دائماً في نظري تمارس ((مرحلة النغم)) في معايشتك للحياة.. تأكد أنك شيء كبير، لكن حتى الآن يبدو لي هذا الكبير كالمقصورة التي يحرسها حرس مدجج بالسلاح.. حرس تقليدي في لباسه وسلاحه.
أحب أن يتفجر ما بداخلك، ولتصيبنا شظايا هذا التفجر.
أعرف أن الحديث ربما أزعجك، لأنني حرصت أن يكون مثيراً.. أن يطرد الرهج الذي يكسو كُتَّابنا الشباب.
نحن في حاجة إلى تفهم معنى أن نتعامل مع الكلمة.. في نظري - وهذا شيء معروف وقديم - إنها مسؤولية حياة.
إن التعامل مع الكلمة: تعامل مع الحياة..
تحياتي للأخوة في جدة، وخصوصاً - عبد الله جفري - وتحيات أخرى ((للريِّس)) الأستاذ عبد المجيد شبكشي، وإلى اللقاء)).
* * *
ـ وأذكر موقفاً آخر.. تسببت فيه (عبارة) تتيَّم بها أستاذنا ((الزيدان))، فكتبها فوق تحليل قصير لها، متشبثاً بها في لحظة شعور خالجه، أو أحزنه كثيراً... فكأن العبارة جاءت لتفرِّج همه.. فهو يقول لي:
ـ بعض الكلمات تتذوقها، كأنك تستكنه لذتها فوق لسانك.. لأنها تلامس شعوراً أو معاناة في أعماقك.. فيكون لها فعل التأثير الذي يغير في نفسيتك حينذاك!
والعبارة.. كتبها لي الصديق ((عبد الله الماجد)) في رسالة مبتورة لم يكملها.. فأراد ((الماجد)) إكمالها...
ـ تقول العبارة: (أحسن الأشياء: ما كان مبتوراً، لم يتم)!!
والتقطها ((الزيدان))... وقال لي مملياً: أكتب يا سيقور!!
وأخذ يملي عليَّ تحليله القصير لتلك العبارة.. قائلاً:
ـ ((تأملوا هذه العبارة المجنحة، تصوروا صورةً لفنان لم يكمل ملامحها.. كم هي جميلة تحمل على التحديق فيها، ليكمل الصورة في نفسه.. لا ينفرد بها واحد، فكل الذين ينظرون إليها، يضعون كلامها من تصورهم.
وقد لا يوافق ذلك لو كملت بيد رسام، ومثل هذا تمثال ناقص اليد لم يُكمل، ولأبسط ذلك: في طريق مسفلت مرت عليه ثم انقطع كماله، فأعرب عن شعورك نحوه.. ثناءً على جمال الخطوات التي خطوتها، وحسرة على خطوات تخطوها، والأمثلة كثيرة)).
لكن ((الناقد)) - يومها - الأستاذ السيد ((علوي طه الصافي)) لم يرُقْه هذا التحليل الزيداني، فانبعث من هدوئه مستشيطاً غضباً.. معتبراً أن:
ـ (تعليل الزيدان فيه اعتساف.. يحمِّل الأشياء أكثر مما تحتمل).. وكتب مقالاً معارضاً، قال فيه:
ـ ((إن هذه العبارة - في رأيي - خالية من كل مضمون.. سوى أنها تعبير عن لحظة خاطفة وسريعة، لا تُمكِّن الإنسان من الانتظار الواعي لإصدار الحكم السليم!
فاللوحة.. أو الصورة التي لم يكمل الفنان ملامحها، لا تحمل على التحديق لأنها جميلة .. وإنما لأنها ناقصة، ومبتورة، وعمل غير متكامل!!
فالتحديق هنا: علامات استفهام كبيرة.
لماذا لم يكمل الفنان هذه الصورة؟
ماذا ستكون عليه لو أكملها؟
هل كانت عملاً فنياً جاء فوق المستوى الذي أراده الفنان لها.. فشعر بالعجز، ولم يكملها؟
أم أن مصيبة حلت به، حالت دون إكمالها؟
أم أنها جاءت دون المستوى الذي أراده لها هذا الفنان، فتركها دون أن يكملها؟
عبارة من سقط متاع، وعمل فني لا يستحق الاستمرار في إنجازه!
هذه الأسئلة وغيرها هي التي تحمل على التحديق ليس لأنها جميلة.. بل لأنها ناقصة ومبتورة!!
هي صورة مبتورة.. والأمثلة كثيرة!!
هذا شيء.. والشيء الآخر.. كثير من الجرائم عقابها البَتْر: بتر اليد، أو الرِّجْل.
فهل عقاب البتر لهذه الجرائم شيء جميل للمجرمين، أو لفعل هذه الجرائم؟!
إن القصد الذي أراده المشرِّع من هذا العقاب هو التعزير.. والتنكيل والتشويه/عظة وعبرة.
فهل في التعزير، والتنكيل، والتشويه جمالاً؟!
وهل يعقل أن يكون عقاب المجرم شيئاً جميلاً؟
لا أعتقد ذلك.. والأمثلة كثيرة.
وهكذا تبدو عبارة ((أحسن الأشياء ما كان مبتوراً لم يتم)) فارغة من كل مضمون، أو محتوى.. إنها تعبير سريع وخاطف عن لحظة، وليست قاعدة، ولا يعقل أن تكون قاعدة))!!
* * *
ـ وانبرى الأستاذ ((عبد الله الماجد)) لصديقه ((علوي الصافي)) - في نفس الصفحة التي أشرف عليها من صحيفة (البلاد) - وذلك في عام 1393هـ، ونشرنا له هذا الرد على اعتراض الصافي:
ـ ((هناك مثل شعبي يقول (( عمل من الحبة قُبَّة )) !!
هذا هو السهم الذي أراد الزميل الصديق ((علوي الصافي)) أن يصيب به أستاذنا الزيدان في رده عليه حول هذه العبارة المتُيَّمة بالعشق، في البحث عن شيء غير موجود .. شيء لم يتم بعد، أعني عبارة: ((أحسن الأشياء ما كان متبوراً لم يتم)).
فالزيدان كتب حول هذه العبارة انطباعه.. تحليلاً تأثرياً في بضعة أسطر، وأتصور أن الصديق الصافي يعرف ميزان أو معيار المذهب الانطباعي في النقد الذي اتبعه الزيدان في تحليله لتلك العبارة، وهذا يعني أنه من الطبيعي أن يختلف هو والزيدان وغيرهما في تحليل هذه العبارة أو أي أثر فني آخر، وإذا عرفنا هذا، وجدنا أنه لا مبرر لإعلان الاختلاف بصيغة اعتراض.. فنحن نعرف اختلاف النقاد حول رباعيات الخيام، وفلسفة الخيام.
ونعرف الاختلاف نفسه في تحليلات النقاد للمعرِّي، ودانتي، والشيء نفسه ندركه عندما نقرأ عدة دراسات نقدية حول روايات الروائي الأمريكي ((وليم فوكنر))... بل نعرف اختلاف نقَّادنا حول نجيب محفوظ، ونعرف اختلافهم أخيراً حول روايات الطيب صالح، وبالذات حول روايته الرائعة ((عرس الزين)) بل حول العديد من قصائد الشعراء.
هذا كله لا يعني أنه يجب أن يتم نفس الاختلاف - حول سطر كتبه إنسان مبتدئ، أصدق تعبير عنه تلك العبارة التي كتبها!!
ـ المنعطف الآخر: هو أنه في الوقت الذي كان الصديق الصافي يتهم الزيدان بأنه أعطى تلك العبارة أكثر مما تحتمله، أجده يقع في الفخ، ويوجه السهم إلى صدره!؟
لقد انطلق الصافي في تبريراته، من مبدأ مباشر تقريري، استشهاداته جميعها لا تحتاج أصلاً إلى تقرير.. قررت نفسها في الأصل، ولا حجة بأي قول نقوله بصددها.
وعلى الطرف الآخر من القضية، تقف تلك العبارة هادفة إلى نواحٍ غير مقررة وليست محددة، وعلى هذا يصدق ما ذكره الزيدن حول العبارة - بصرف النظر عن كون من كتبها - المهم أنني كمتَلقٍ وجدت ما أبحث عنه في تلك العبارة في تحليل الزيدان لها.
العبارة فوق ذلك، تقفز فوق كل الحواجز، لتحطِّم علامات التوقف، وتفتح الطريق للبحث المستمر عن أشياء لم تتم، فلو وجدت تلك الأشياء وتكامل تواجدها.. لكان ذلك إعلاناً عن موت روح البحث والتوق إلى كل مجهول في نفس هذا الإنسان الذي يبحث عن شقائه، عن ((المعرفة))، ذلك الصليب الذي صلب نفسه عليه))!
* * *
ـ وجاء أستاذنا (( الزيدان )) في إثر الصديقين: ((الماجد)) و ((الصافي))، ليقول كلمته المختصرة، الحافلة بالإضاءات:
ـ ((السيد الأستاذ علوي الصافي/ما صنع من الحبة قُبَّة، كما قال الأستاذ عبد الله الماجد، ففي الواقع أن الصافي كان يحاول أن يمسخ القُبَة حبة!!
يا صديقي: لو كملت كل الأشياء لما ظهر أحسنها، ولتعطَّل التخيُّل، ولا أثمر الخيال.
ولو تمت كل الأشياء، لما أخرجت لنا فناناً يكسر أوهامنا عن تمامها، إلى حقيقة ما فيها من نقص.. يُرويها لنا مبتورة، ليعيد هو لها كمالاً من إحساسه بالصورة المبتورة، ليصنع الصورة الكاملة.
إنه حين يصنع الصورة الكاملة، يفرح بتمامها.. ولكنه سيفرح أكثر حينما يرى صورة ناقصة يحاول إتمامها!
الأشياء المبتورة، بترها إيحاء.. يوحي للفنان كأنما ينحت مكنونه من وجدانه ليأتينا بفن جديد!!
لو كمُلت كل المطالب والرغبات، لما تحيَّر أفلاطون، يفتش عن المدينة الفاضلة.. ولما حلم المثاليون بالطوبى!
ألاّ تعرف أن الجنة من بعض معانيها: وصفها الحياة الدنيا بأنها ناقصة مبتورة.. كمالها يأتي حين يُبعث الناس؟!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :835  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 419 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج