رسالتان متبادلتان |
ـ ضمن برنامج إذاعي - يوم كانت الإذاعة تحتفي بالأدب، ونشاط الأدباء - طُلب مني توجيه رسالة إلى أديب أصطفيه، وأحاوره، ويستثمر المستمع من الحوار: فكرة، ورؤية، ورؤى! |
يومها.. إخترت أستاذي، ومعلمي ((
محمد حسين زيدان
)) لتوجيه رسالة إليه، احتفظت بنصها، وبإجابته عليها. |
قلت له في الرسالة:
|
ـ تذكَّرني بالرافعي - يرحمه الله -، فقد كان لا يطيق مسك القلم... ولكنه كان يقف في وسط الغرفة ويدور في مساحتها وهو يهدر، وينفعل.. وهو يدمع، ويبتسم، ويملي أفكاره ارتجالاً. |
ولا أقول أنك تقلد الرافعي بهذه الطريقة، رغم حبك الشديد لكل ما كتبه.. ورغم فقدك ((الأحياني)) لبعض ما كتبه! |
يقال - أيضاً - أنك تكتب كما كان الزيات يكتب! |
ومن هو الزيات عند الرافعي؟! |
ومن هو الرافعي في وجدان الزيات؟! |
هذا طرف من السؤال إليك.. ولكن أهم نقطة يمكن أن نطلب التوقف معك عندها، هي سؤالي إليك: |
ـ هل تعتقد أن الرافعي والزيات، ومن كان يُبدع بالحرف في فترتهما.. استطاعوا أن يوجدوا مناخاً جديداً للفكر العربي؟! |
إنني أُحدد السؤال بالفكر العربي، ولم أقل الأدب العربي، أو الأسلوب الفني في الأدب العربي! |
إن طريقتهم في الكتابة جذبت إليها بعض المعجبين أو المتأثرين. |
ولكن.. هل كان تأثيرهم يرتفع إلى مستوى تاثير طه حسين مثلاً، أو تأثير نجيب محفوظ الآن؟! |
وهل تعتقد أن هذا اللون من ((الأسلوب)) الأدبي الغني يصلح اليوم لأن نكتب به؟! |
وهل تعتقد أن الأفكار التي كان الرافعي أو الزيات، أو غيرهما يكتبونها، ويطول الجدل حولها.. هي أفكار استطاعت أن تخدم حركة الوعي، والتطور الحضاري للقارئ العربي؟! |
وأعرف أنك تنتصر لهؤلاء الموهوبين أمثال الرافعي والزيات! |
من هنا أود أن أنتقل بك إلى نقطة أخرى هي: |
ـ كيف نستطيع أن نوفِّر النجاح لنشر الوعي بالكلمة التي تنطلق اليوم عبر الصحافة والتلفاز، والإذاعة، والسينما!! |
يخيل إليَّ أن جهود الفكر العربي تعاني من نقص في التغذية! |
أو أنها جهود تكاد تصاب بالكساح، نظراً لأن المثقف الذي يؤثر ويجدد غائب.. ولأن الكاتب الذي يستقطب الأفكار الجديدة، ويحملها إلى أذهان الشباب: كاتب غائب. |
فكيف يمكننا أن نعالج هذ النقص.. على كثرة ما يندلق عبر أنهر الصحف، ومن خلال الشاشة الفضية، وعلى الهواء!! |
وأسمح لي أن أسأل بعد ذلك عنك:
|
ـ لقد عرفناك بيننا من الكُتَّاب المفكرين القِلَّة، وقد وصفتك مرة في مقال كتبته عنك بأنك مفكر أكثر منك كاتب أو أديب.. هذا بالإضافة إلى أنك مؤرخ لم تُصَبْ ذاكرتك بخدش وبالإضافة إلى قيمتك التي نعرفها فيك. |
فأنت أديب صاحب عبارة مجنَّحة، وأنت نسَّابة لا تنسى جذور وفروع الأنساب، حتى على مستوى العالم العربي، وليس في بلدك فقط. |
أما الناحية الأدبية فيك.. فتتجلَّى عندما تكتب وأنت تعاني.. فنقرأ لك: العبارات المجنحة، والمسددة كما سهم إلى هدف لا تخطئه، وأسلوب مميز يعرفه قارئك، حتى لو لم توقع اسمك عليه. |
ولكنني أؤكد أنك ما زلت المفكر أكثر منك الأديب.. فهل تُلاحيني في هذا الرأي؟! |
وبهذه مناسبة أسألك أيضاً:
|
ـ هل أنت كسول في التفرغ لكتابة عمل فكري كبير يتفق وقيمتك، وروافدك الضخمة، وثقافتك.. حتى أطلقو عليك صفة (الموسوعة المتحركة)؟! |
فلماذا لا تنكبَّ على إصدار الكتب التي تعكس مضمون ثقافتك، وتدون لنا عطاءك الفكري؟! |
إن المفكر مثلك لا يرضى منه القارئ أن يعطيه ((سندويتشاً)) في صحيفة يومية.. في مقال قصير تدفعك إليه الأحداث العابرة. |
ولك قيمتك تُلحُّ عليك أن تعطي عملاً ضخماً.. تماماً كما تُلحُّ على كل الذين هم في وزنك، وقيمتك، وغطَّاهم الصمت. |
ونعرف أنك تختزن الكثير من المواقف العظيمة، والتجاريب، والصور، والحكايات... فلماذا لا تشارك فتكتب كل ما لديك، أو حتى تدونه في مذكرات خاصة لرجل عاصر الكثير والهام من الأحداث، ومارس التجربة مع الرجال الذين صنعوا لبلادهم تطورها؟! |
ذلك هو مأخذنا عليك.. وليس عذراً أنك لا تجد من تملي عليه! |
أما وجدانك، فحديثي عنه لا يترمد. |
إن الشباب فيك يكتسح خريف العمر. |
الشباب فيك قطرات طلٍّ لا تخضع لجغرافية نفسك التي تقاتر بالعمر، وبما حولها من انفعال وتأثُّر... ولا تخضع للجوانب الأربعة في بعض رؤيتك.. فأنت تحيا العمر شاباً، وتنسكب كما قارورة عطر! |
* * * |
ـ وأرغد فكري، ورؤيتي بإجابته السريعة، في رسالته/الرد على رسالتي... فكتب: |
ـ التلميذ: الابن/ عبد الله جفري:
|
وقرأت رسالتك بعد أن سمعتها قبل ذلك من المذياع.. فأكتب الآن أجوبتي على كل ما تساءلت عنه: |
ـ حين بدأت أقرأ، أخذني الرافعي بأن لا أفهمه، وكنت أتهمه بأنه يعسِّر ولا ييسر. |
ولكن حينما بدأت أقرأه في مقالات الرسالة - تلك التي جمعت في وحي القلم - بدأت أفهم. |
ليس هذا تقدماً في فهمي، ولم يكن ذلك كما كنت أتفهم: إنه التعسير، أقرؤه همساً. |
وحين قرأته بجَرْس - أي بصوت مرتفع - إتضح الغموض. |
ذلك أن الرافعي يقرأ بالأذن أكثر مما يقرأ بالعين!
|
ولقد كان هذا التغيير للقراءة بالعين إلى القراءة بالأذن مصادفة.. حولني إليها صديق أقرأ له ويقرأ لي ما يكتب الرافعي، فبدل أن أسمع بعين قارئة.. كنت أطرب بالأذن القارئة! |
فالجرس في الكلمة هو تلحينها.. يأتيك بالطرب. |
ولعلّ هذا ما فطن إليه أمين الريحاني، فيلسوف الفريكة، حين قال: |
ـ لكي تفهم حينما تقرأ، ينبغي أن تقرأ جالساً.. كأنما أنت على مائدة طعام.. لأنك حين تقرأ واقفاً عجلاً، يفوتك الكثير! |
فالفرق بين المائدة وبين الأكلة العاجلة.. هو الفرق بين السندويتش، والطعام المُعد.. لا يؤكل إلا باحتفال! |
بهذا كله أحببت الرافعي. |
ولعلّ مدرسة القرآن، وقراءة التراث، صنعت الرافعي: حَرفه وحرفته، أو بأسلوب العامة: حِرَافته صًنَّاعُ كلمة، فهو لاعب باللفظ لعب الحرِّيف، ولا أدري كيف تكون كلمة (الحَرِّيف) عامية، وهي أصلية الاشتقاق. |
ولعلّ الذي جعلها تنسب إلى العامة: المعنى المستفيض منها كمجاز، أكثر مما كانت تطيقه كحقيقة مشتقة من الحِرفة. |
فلا أزعم لنفسي نفي الإتهام أني أقلده.. تلك كما يقول سعد زغلول، وهو من صُنَّاع الكلام: تهمة لا أدفعها.. شرف لا أدَّعيه! |
وإنما الأمر هو المنبع: |
ـ كلمة القرآن. |
ـ عشق اللغة الشاعرة. |
ـ ثروة من التراث علمتني ذلك.. |
فَلِمَ لا نكون - وليس ذلك من الغرور - على نهج واحد، ليس من التقاليد فيه شيء، وإنما هي أصالة فيه كما هي الأصل لي!! |
ـ ما هو الفرق؟!
|
أما الفرق بين الزيات، والرافعي، ومحمد السباعي، وعباس حافظ، والمنفلوطي... فليس من الوضوح بحيث أن تقرر أنهم على نسق واحد، وإنما عى نهج واحد.. كل الفرق في دواعي الإحتراف. |
فالمنفلوطي: إحترف الكلمة ليقولوا: هو ذاك.. جاء بدعاً جديداً، وأرجو أن لا يغضب من ذلك طه حسين، فقد اعترف الدكتور بأنه أخطأ في حق المنفلوطي، جاء بدعاً أشرقت به الكلمة العربية. |
والزيات، والسباعي: إحترفا الكلمة ليقال أنهما أدقَّ من المنفلوطي.. تبَاهيَا باللغة الأجنبية التي يعرفانها، فالزيات والسباعي، دواعي الاحتراف فيهما أكثر من نفحات الموهبة.. أما الرافعي فَقَسْر الموهبة فَرَض عليه إعلان الاحتراف. |
فالرافعي إبداع الإبداع.. جاء ذلك عن أصالة من عشق الكلمة القرآنية، أخذها من بيت ذي أعراق قرآنية.. تربية مسلمة، فقد شرب من ثَدْي ((عُمَري)) علَّمه، بل كلمه أن يكون كلمة جديدة. |
أما الزيات ومن إليه، فتعليم لا إلهام، وفرق كبير بين من يتعلم فيستلهم، وبين من يلهم ليعلم. هذا مجد الرافعي. |
وتعجبني كلمة الدكتور ((عبد الوهاب عزام)) تلك المجنحة.. كأنه قبسها من الرافعي نفسه حين قال: كاتب نسيج وحده، لا يُذكِّرك بأحد، ولا يُذَكِّرك به أحد! |
كأنه هو يرد على أمير البيان ((شكيب أرسلان)) حينما وصف الرافعي بأنه: الجاحظ الثاني. |
كأن هذا الوصف لم يعجب عزام، وبالتالي لم يعجبني.. مع أن الجاحظ إمام في البيان، إلا أن الرافعي بيان جعله غماماً من نوع جديد! |
هذا عشق.. لكنه لا يسلبني بعض المآخذ على الرافعي.. جعله يسرف في السباب أكثر مما يتصرف به من دفع الباطل بالحق... فقد أسرف على طه حسين في ((تحت راية القرآن))، وأسرف على العقاد، فلم يأخذ منهما شيئاً، وإنما كان هو الآخذ من نفسه! |
لقد كان في كلمته المجنحة: - ليته اقتصر - يعني العقاد: إذا اتُّخذت سفيهاً ليُسافه عنك، فاحذره في اليوم الذي لا يكون فيه سفيهاً إلا عليك! |
لقد جمع في خلفية هذا الكلمة المجنحة، الأخذ من سعد عن تعامله مع العقاد.. لساناً من ألسنة الوفد، كما هو الأخذ من مصطفى النحاس! |
أما عطاء الجميع من هؤلاء للفكر العربي: ثروة عقلية.. قد أعطوا أكثر من هؤلاء. |
أما عطاء هؤلاء.. فإضاءة الطريق للمفكر العربي.. وضعوا أمامه انفتاح فهمه، حتى إذا جاء المفكرون.. كان المفكر العربي على استعداد لتقبل الفكر، وإعطاء الفكر. |
إن المنفلوطي، والزيات، والرافعي، ومن إليهم... فتحوا الطريق، ومن جاء معهم أو بعدهم عبَّد الطريق، وسن الطريقة، وأعطى للتفكر قيمة الفكر. |
ـ القاريء العربي يفهم الكلمة:
|
ـ ولكن إذا لم يكن هذا الأسلوب البياني هو الأسلوب المنير للفكر.. فإننا نحارب الكلمة القرآنية التي هي نور الفكر. |
إن القاريء العربي ينبغي أن يعلو بأسلوب اللغة الشاعرة.. لا أن يحارب لغته مظهراً عاطفة، تدَّعي التفهيم.. فالقاريء العربي يفهم الكلمة القرآنية، وليس هناك بيان أعلى منها، فكيف ندعي أن الأسلوب المشرق لا يفهمه العربي؟! |
إن الفسولة، والضحالة، هما الانحطاط بالقاريء العربي إلى لغة العامة، بينما من حق القيمة القومية العربية أن تكون لغتها الشاعرة في أسلوبه العالي.. فكل الذين عابوا على الرافعي بيانه، ما زالوا يكتبون باسلوب بياني، على طريق لا أزعم أنه قد انحط، وإنما هو في الواقع من السهل قد استطاع به كُتّاب الصحافة اليوم أن يكونوا الوسيط بين لغة الرافعي وأمثاله، ولغة الأبنودي وأمثاله. |
ذلك ما استطاعه أنيس منصور، ومن إليه من الذين نبغوا في عالمنا العربي.. فأسلوب أنيس منصور سهل، لكنه بياني.. فقدرة من أنيس وأمثاله أن يكون الكاتب الوسيط! |
ـ كيف ننشر الوعي؟!
|
ـ إذن.. هناك المثقف الغائب، وليست الثقافة غائبة! |
إن الغيبوبة تلاحق القارئ فلا يقرأ، وإن قرأ سئم.. فطابع العجلة، وتكالب القلق والغزو الفكري بالقليل القليل من الثقافة، ينشر على الناس في المذياع والتلفاز: كان هو المخدر ليكون القاريء في غيبوبة. |
إن العلاج: أن يقرأ العربي.. لا يكتفي بالسماع، ولا بالرؤية، ولا يقتصر على الكتاب الرخيص.. وإنما ينبغي أن يكون النهج، أن يقرأ العربي كل جديد، كل قديم. |
فالقراءة الجديدة طرقات على الفكر تفتح كل باب له.. |
والقراءة القديمة ذخيرة للفكر. |
حين يفتح الجديد الأبواب، يجد الكنز الدفين من الثقافة القديمة، فيكون المزيج فكراً عربياً جديداً. |
إختزن القديم من التراث، واختار الجديد من كل ما تورثه الإنسانية... فالترجمة تكاد أن تكون معدومة في العالم العربي.. ذلك قصور الدولة وأجهزتها: أن تضع الترجمة جامعة جديدة للفكر العربي. |
لقد كان جهد أفراد كفتحي زغلول، وعجاج نويهض، وعادل زعيتر، وخيري حماد، ومنير البعلبكي، ومن إليهم.. جهداً فائقاً أعطى القارئ العربي الأفكار التي ترجموا كتبها، وعيب أن يكون جهد الأفراد أقوى من جهد الدول، والجامعات، ومن إليها، وما إليها!! |
ـ أديب.. أم مفكر!
|
ـ أما أنني مفكر لا أديب... فتهمة لا أدفعها وشرف لا أدِّعيه، أعيدها مرة أخرى! |
فالمفكر في معيار الأمم أديب.. كاتب، تحصره الشعوب الحافلة بالفكر في قليل من رجالها. |
الأديب قد يكون لديه فكر، لكن لم يصل بعد إلى هذه الدرجة التي وصفتني بها. |
فالأمر في ذلك: كل مفكر أديب، وليس كل أديب مفكر! |
فالمفكر من يقسره التفكير على العطاء، والأديب يفرض على نفسه أن يكون فكراً لغيره أكثر من أن يكون فكراً لنفسه. |
ـ هل أنت كسول في التفرغ للكتابة؟!
|
ـ ليس هو العجز، ولا الكسل، ولكنه التعجيز.. فلو مددت يديك إليَّ لتعطيني بعض القدرة، لأمكن لي أن أصنع شيئاً أفكر فيه. |
إني ملول، يأخذني ((القرف)) أحياناً فيعجزني.. |
لكن التشجيع قد يطرح القرف عني. |
ولعلّي في سبيل أن أجمع ما كتبت، وأن أضع بعض التحقيق.. أرفع به ما توصف به ((موجة بني هلال)) من أنها ذهبت للنجعة.. مع أنها ما ذهبت لذلك، وإنما ذهبت بها أحداث جسام وقعت في الجزيرة العربية... فهي تحتاج إلى إيضاح القيمة لهذه الموجات من نجد والحجاز.. تفتح للإسلام الأراضين، وتفتح للغة الألسنة! |
|