شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جبل ((سَلْع)).. ومَحْنِيَّ الضلوع
ـ في آخر مرة معه.. لم أره، بل أسمعني صوته وهو يتلقى - أيضاً - آخر كلمات قلتها له:
ـ كلما أردت زيارتك... عرفت أنك لا تستقبل أحداً، لكنني مشتاق إليك.
ـ قال بصوت يمتحه من بين ضلوعه: بالهاتف تطمئن عليَّ... المهم كيف صحتك أنت.. لا ترهق نفسك كما عهدتك.
ـ قلت: لا عليك مني... أريد أن أراك.
ـ قال: خلاص يا عبد الله.. أنا تعبان يا ولدي، وفي انتظار الموت!
الموت حقٌّ... لكن الكلمة تخلع ضلوعنا من الداخل.
هذا الموت الذي يخطف الأحباب، ويصادر الحياة من أجسادهم، ويغشيها بالدمع في عيوننا... هو ((الموت)) الذي لم يعد يعثر على دمعة طرية في الأحداق، لأن دموعنا جفَّت من كثرة فواجع عصرنا، وارتطاماتنا بالبغتة حيناً، وبالترقَّب حيناً آخر!
ولأن الدموع تعبير يسيل بالحزن، وقد قيل: ((المحبة.. لا يُعرف عمقها إلاَّ ساعة الفراق))!
لكن دموعي انهمرت تبكيه قبل موته، وبعد تلك المحادثة الهاتفية القصيرة جداً!
سالت دموعي - أيضاً - وأمامي عبارة ((زَفَرها)) قبل إعتزاله الحياة ربما.. حين أجاب على أسئلة صحافية وُجِّهت إليه، فقال بحزن حاول كظمه.. وتخيلت دمعة مَنَعت سقوطها من عينيه:
ـ ((قيل لي: إن اسمي وضع على شارع من شوارع جدة، ولكني لا أدري أين هو؟!.. فهل ليس من الضروري أن يعرف الجيل القادم من هو فلان؟!!
ولا أقول: إن الشارع هو الذي يعزُّ فلاناً، ويذل آخر.. إنما التكريم: إما أن يكون على المستوى اللائق، وإما أن لا يكون... فنحن لم نطلب منهم أن يُكرمونا))!!
ـ وأضيف: حتى الإذاعة والتلفاز.. قد ضنَّا على (إسمه) - بعد رحيله - ببرنامج خاص، أو حتى فقرة... وهو الثري بفكره، وبحكمته التي منحها لأجيال من بعده، وبذاكرته التي بقيت منتعشة حتى لحظة وفاته!
ـ قال لي سائقه الخاص، والوفي له ((فيصل)): كان قبل موته يردد أسماء أصدقاء له ومسؤولين.. كان يتجشَّم المصاعب في شيخوخته، ويذهب إلى مكاتبهم، ليُنجز ((معاملة)) أوصاه بها رجل، أو وسطته لإنهائها امرأة!!
* * *
ـ كنت أمام هذا المعلم الحكيم، الشيخ... أتمثله في بعض جوانب من شخصيته العفوية، مثل ((زوربا)): العجوز، العميق، الفيَّاض بالحيوية... أردد في سمعه عبارة ((كزانتزاكي)) الرائعة:
ـ ((نادراً ما كنت أجرؤ على الكلام، حين صوته يعلو ويتدفق علماً، وفكرة، وتحليلاً، وحكمة.
ما الذي يستطيع أن يقوله المثقف لغول ثقافة مثلك"؟
وكان - يرحمه الله - يقهقه غير صارخ، وهو يفرك كفيه ببعضهما، ويقول لي:
ـ للكلام نكهة، وتذوق، وطعم - أيها الفتى العاقل - بل إن بعض الكلام أمتع من ألذِّ أكلة تشتهيها في جوعك... لأن جوع العقل، وجوع الوجدان، أكثر شراسة وتدميراً من جوع المعدة!
ـ ويردف ضاحكاً عبارته الدائمة لي: سجِّل يا سيقور!!
ـ وسألته يوماً، وهو يُملي عليَّ مقالاً له عن: الحنين إلى مسقط الرأس.. فقلت له:
ـ هل تحنُّ إلى سفح جبل ((سَلْع)).. حيث ولادتك هناك في شمال المدينة المنورة؟!
طفرت دمعة من عينيه، وقد كان سريع البكاء.. فيَّاض العاطفة والشوق.. وقال لي:
ـ أوه... وكيف أنسى ((حوش خميس))، وبيت الشَّعَر، والمرأة العجوز الكفيفة - البدوية الممتدة من عالية نجد، واسمها (ميثاء الوضيَّان) وهي التي كانت حضن أمي البديل، بعد أن فقدت حنان الأمومة في بدء مولدي.
لقد ذكَّرتني - يا سيقور الحصيف - بجبل ((سَلْع))، وتلك القصيدة التي صاغها الشاعر الكبير ((ضياء الدين رجب)) - يرحمه الله - وصرتُ أرددها على مسامعه بتنغيم من ((الحَدْري)) فيلتذذ الضياء، وتندُّ دمعة من عينيه... وكلما شقَّقت الحياة حناننا وحنيننا، أرددها على مسامعه، أو هو يذكرني بها... وضياء الدين رجب هو: أستاذي الذي كان تلميذي!!
أسمعه يبدع.. كأنه ذاك الغناء على مشارف المدينة المنورة:
بين سلْع، وقُبَا
من مجالي يَثْرب
قد مشينا الهَيْدبى
سبسباً في سبسب
صفَّقت أيامنا
شعشعت أحلامنا!
إلى آخر تلك القصيدة/الأهزوجة الجميلة!
كان دائم الإعتزاز بالانتماء إلى ((بدوية)) جدَّته، وأمه.. وذكريات الفقر، والتقشف القسري، والبيت من الشَّعْر!
مثلما كان دائم التغني بعشقه للنهر الخالد/النيل، وتربة الكنانة السمراء الولود، وذكرياته الطويلة هناك مع رفيق دربه السيد ((ياسين طه)) منذ كان ذلك الرجل الفارع طوله بشمخة الهاشمي العربي، وبثقافته المتطورة دائماً!
والإعتزاز، والتغني.. لا يهدرهما جزافاً، ولا حتى بالمجاملة... فقد كان شديد التركيز على الجذور، والأصول، والعمق الإنساني!
وكان وافر الدفء لمعاني وقيم الارتباط الأسري، وما يُردده بالآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة عن: المودة، والرحمة كقاعدة لبناء الأسر.
وعندما يزورني في بيتي.. نُبصره ذلك العطوف، الحاني، وهو يتلو دائماً - وفي عينيه دمعة - قول الله عزَّ وجلَّ:وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ (النساء: 9).
* * *
ـ كان يختص بلمحات، يجعل ((الأسلوب)) بانوراما لها وعنها... وقد قرر ذلك يوم أن يذهب إلى الطائف مصطافاً، هرباً من حرارة جدة، ولزوجة بحرها.. وكان يكتب لنا في ((عكاظ)) عموده اليومي الشهير: (كلمة ونص)، وبقي مكان العمود فاغر الفاه، وهو كاتب ملتزم لم يكن يخلُّ بذلك الالتزام.. فسمعته يقول لي بالهاتف:
ـ أكتبه غداً بالنيابة عني!
ـ قلت في مفاجأة طلبه: أنا أكتب بالنيابة عنك... ومن أنا؟!
ـ قال ضاحكاً: أنت حرَّان، ترشح عرقاً ورطوبة، وأنا مبتهج في نسمة الطائف الجميلة.. أرني ماذا ستقول؟!
حقاً... أُسقط في يدي، فقلت له على الهاتف:
ـ سأكتب عن الرحيل، إنطلاقاً من عبارة الكاتب اللبناني الروائي ((كرم ملحم كرم)) القائلة: (الرحيل: إنتصار لمن يهفو إليه، وكلما جدَّ في الوثبة استأنس بالدعة)!!
ـ قال: دعني في الدعة.. وانتصر أنت بالوثبة!
وحاولت - يومها - أن أترسَّم نهج وأسلوب ((ولي الدين يَكَن))، أو ((إبراهيم اليازجي))، أو ((جبران خليل جبران)) وإن كان لم يُغره بشجنه، وإن أطربه بشَجْوه، كما قال لي بعد ذلك!
وعاد في اليوم التالي: كاتباً، يصهلل على تلميذه/أنا، ويقول: لقد نجحت في إثارتك، وتحديك!
كانت مودَّته للكلمة.. هي: ولَه يسمو بالمعاني في نفسه.. فلا يجعل الملل ينتصر على وقته.. ولا يجعل الغرض يهزم معانيه!
إن ولهَه بالكلمة: عطاء جزل لحياته على امتدادها.. لتطلعاته، فقد بقي - في شيخوخته - شاباً بروحه، وبعزيمته، وبفكرته، وبرؤيته للغد... يكتسح خريف العمر بالحبِّ!
كان الشباب في روحه ونفسه: قطرات طل، لا تخضع لجغرافية شيخوخته، ولا للجوانب الأربع في بعض رؤيته!!
كانت رؤية هذا العجوز (زوربا القرن العشرين) تتمدد، وتكبر، وتعْبُر المحيطات... لأنه يُعبِّر عن إنسانيته، ولأنه - كإنسان - يغبط الشاب المنتصر على ملل السنين الطويلة المديدة.. تلك التي كان اسمها: عمره!
حتى في ((الملل)) الذي يشعر به في السنة قبل الأخيرة من عمره، وكان يجأر به في أذني.. لم يكن في نفسه: كفراناً بالمودة، بل كان ((نهزة من إستراحة.. تتوطد بها الألفة للعودة))!
كان بين الفينة والفينة يبادر إلى أعماقه، فيفلح وجدانه، ويضذِّب ملله.. ليعود بأرضه/نفسه: تربة صالحة للبذر، وللزرع، وللثمر من جديد!
وهمُّه مع الناس،وبالناس: أن يغنم معهم وبهم ((شتلة)) من مسرَّة النفس.. وغرسة تُنبت عشباً أخضر.. وبذرة من أماني، تفوق إعتساف الملل، وهجمة الإِحباط، وقسوة الظلم!!
* * *
ـ وفي اتكاءته الأخيرة... حين كان يأتي إلى مكتبي زائراً، يصحبه رفيق عمره، وأستاذي ((ياسين طه))... سمعته يكثر من الاستشهاد بأبيات شعر للمتنبي أكثر من غيره.
لكنَّ ((الشريف الرضي))، كان شعره: موسيقى يعزفها صوت ((زيدان))، وإلقاؤه.. وكأنه لم يحفظ من شعر ((الرضي)) إلاَّ هذه الأبيات التي يكثر من ترديدها، على كثرة ما يحفظ له.. فأسمعه يُنشد:
وفي الركب مَحْنِيِّ الضلوع على جوى
متى يَدْعه داعي الغرام.. يُلبِّه
تذكَّر، والذكرى تَشوُق..
وذو الهوى يتوُق...
ومن يعْلق به الحب.. يُصِبه
غرام على يأس الهوى، ورجائه
وشوق على بُعْد المزار، وقربه!
ـ وقلت له ذات يوم: صرتَ تفكر في أيام، وقد كنت تتخذ قرارك في لحظات؟!!
عرفتك: تزهد في أشياء عديدة.. كان توقك إليها ركضاً!
ـ قال: لا أدري... ربما لأن اللحظات في شعوري اليوم، تحولت إلى أيام.. لطولها!!
ـ وسألته أخيراً: هل هذا هو قرارك النهائي في الحياة اليوم؟!
ـ قال: ليس هو قراري يا ولدي... بل حياتي المستقرة، في العمر المتبقي!!
ـ وطفقت - لحظتها - أتأمله، وأتأمله، وأتأمله... لا يطرف لي جفن.. لا يدق قلبي.. لا أجد ما أقوله له.
ـ لكن دمعة جمرية.. انفلتت من عيني.
ـ قال: لا تبكي علَيّ... لم أعد أحتاج إلا إلى: كلمة حب!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1990  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 416 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج