شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حميد سعيد
ـ في سنوات عمره الأخيرة.. أجرى التلفاز الأسباني لقاء مع الكاتب الأرجنتيني الكبير ((خورخي لويس بورخس)) بمناسبة إصدار كتابه الجديد يومها، وأظنه كان الأخير!
وتحدث ((بورخس)) عن السياسة - على غير عهده - ولم يكن يرتاح كثيراً لحديث السياسة، ولا لخيوط السياسة المسرحية... ولكنهم حين سألوه، كأنما أرادوا زجّه في حمى السياسة، ليقول شيئاً في اللغط العالمي، والحرب الباردة، والحروب الأهلية.. ويبلور دور ((المثقف)) قَفْزاً فوق: الانخذال، أو الذيلية، أو الغوغائية، أو ذلك التجلط الفكري!
وإذن... كان لا بد للكاتب ((بورخس)) أن يدلي بدلوه، لأنهم أرادوا أن ينكأوا جراحه، أو جراح وطنه.. فقال:
ـ ((إن الحرب الحقيقية والأفظع، هي: هذه التي تحدث داخل وطنك، وتتخذ أبعاد وخطر الحرب الأهلية المقنّعة، وسيطرة طغمة عسكرية على مقدرات الوطن والمواطن))!
وشردت بي خواطري، وراء سؤال مرتبط، أو له شَبَه:
ـ ترى.. ما الذي يمكن أن يقوله - أيضاً - كاتب بلغ هذا السن، أو كان شاباً.. في وطن من العالم الثالث، الذي تشوّه ببثور الانقلابات العسكرية، والحكومات التي دقت - حين قيامها - طبول الشعارات البراقة التي تستميل الشارع بها، مثل: الثورة، والديمقراطية، والحرية، وحكم الشعب... ثم انقلبت على شعاراتها، أو انكشف وجهها القبيح.. فإذا هي حكومات تخضع (لفرد)، وتمارس الطغيان، والقهر، وتنحدر باقتصاد بلدانها إلى الحضيض من الفقر، والعوز؟!
ويبدو أن مبعث هذا الخلل، ينطلق من السلوك الاجتماعي والأخلاقي... وقد دلل على انطلاقته (( إميل دوركايم )) العالم الاجتماعي الفرنسي، الذي استخدم المصطلح اليوناني (غياب المعايير) وهو يشير إلى محصَّلة ((التفكك الاجتماعي)) التي تنعكس بتأثيراتها - بالضرورة - حتى على فئة المثقفين، المسؤولة عن توجيه المجتمع، أو الرأي العام.. سواء بنجاحها في الإِرتقاء بوعي، ونضج المجتمع، وبسلوكياته... أو بفشلها، وانحدار غايات هذه الفئة التي آثرت مصالحها الذاتية فوق مصالح مجتمعها، وترابطه!!
ـ ويقول عالم الاجتماع العربي الكبير (( ابن خلدون )) :
ـ ((إن هذه الصفات... تدل على انفراط الجماعة، وتشرذمها))... ولذلك ينصبُّ التأثير - بالدرجة الأولى - على فئة المثقفين التي يُمرِّغها الخوف، أو تحكمها المصالح في الارتقاء الذاتي بالتقرّب من السلطة، حتى ولو كانت جائزة، أو على خطأ))!
أما المفكر الفرنسي (( ميشيل فوكو )) فقد بَلْور مصطلحه المعروف باسم: (الاغتراب الاجتماعي) وهو يشرح أبعاد فقدان إنسان القرن العشرين لعوامل أساسية، يأتي في مقدمتها: (الثبات النفسي، والاجتماعي، والأخلاقي)!!
وحين تتزاحم مثل هذه الصفات المريضة، أو غير السويّة، وتقتحم واقع أمة ما.. فلا بد أن تتناسل منها أوجاع عديدة... مثل: الحروب الأهلية، والخلخلة الاجتماعية، وتعدد الانقلابات، أو فقدان الاستقرار السياسي، وتحطم القوة الاقتصادية.. مما يؤثر مباشرة في الفئة التي تدافع عن الحقيقة، وتُعتبر مسئولة عن الرأي العام: إيجاباً، أو سلباً، حسب صمودها، أو انخذالها!!
* * *
ـ ولم يكن مستغرباً أن تطفو على سطح بحيرة المجتمع العربي: طحالب من فئة المثقفين المنخذلين، أو ((المُسَيَّسين)) لأنظمة حكم تحاول استمالة الشارع العربي بشعارات مغرية عن: الحرية، والتقدمية، والقومية، والديمقراطية... وهي - في الوقت نفسه - تمارس العسف، والضغوط النفسية، والإِرهاب الداخلي.. تماماً مثلما تَجسَّد أمامنا اليوم هذا المثال الماثل في بغداد، لتأكيد الأسباب التي حدّدناها هنا!!
وقد وجدنا مثالاً على سقوط هذه الفئة من المثقفين.. وذلك في نموذج سيء آخر، من النماذج التي نُحلل هنا دواعي تجلطها، وانخذالها!
هذا النموذج.. يُسمى (حميد سعيد) رئيس تحرير صحيفة (( الثورة )) التكريتية في بغداد، والشخص الذي تسلل إلى قناعات المثقفين العرب، بنفس الطريقة الإعلامية الخادعة التي اتبعها نظام الحكم العراقي طوال عشر سنوات وأكثر، لتسخير الإعلام العربي، والمثقفين العرب، للدعاوة لهذا النظام، وإبراز: قوميته العربية، ونضاليته، وديمقراطيته، ودعوته للحرية (!!).
وقد اختار الأدباء العرب هذا الشخص (حميد سعيد) ليكون: رئيساً لاتحاد الأدباء العرب... وأشاد به الأدباء العرب، من المحيط إلى الخليج، وتحدثوا عن إبداعاته الشعرية وتجديداته بالكلمة، وبالرأي... حتى غلّفوه بريش الطاووس الزاهي!
فماذا فعل هذا ((الرئيس)) لاتحاد الأدباء العرب بحرية الكلمة، والتزامها بالحق والحقيقة.
تحوَّل من طاووس زاهي الريش والألوان.. إلى ((بوق)) أجير، يعتسف كلمة الحق، ويبلور الباطل حقاً، ويصف الاحتلال: وحدة، وغدر الجار والشقيق: ضماً تاريخياً!!
وفي مقال فاضح، نشرته صحيفة (( صوت الكويت )) للصحافي العراقي الأستاذ (( عامر بدر حسون )).. إتضح الوجه القبيح، لهذا النموذج البشع لفئة المثقفين الثوريين، الذين يعيشون الإِنخذال: نفسياً، وفكرياً، وضميرياً!!
ـ من كلمات حميد سعيد التي أوردها الصحافي العراقي:
ـ ((والله.. حين تنتهي الحرب، سأجيئ إلى هنا - يقصد باريس - وكلما التقيت بواحد من هؤلاء، سأخلع - قندرتي - أي جزمته، وأضرب بها على رؤوسهم الخاوية))!!
إن منطقه، وحواره.. ينحصران في نعاله... يضرب به رؤوس المثقفين العرب، أو رأس أي عربي يعارض نظام حكم الرئيس صدام، وَلِيَّ نعمته!
إن سلاح عقله.. هو (( قندرته )) التي يتفاهم بها مع العقول العربية!!
ـ تساءل الصحافي العراقي الحر (( عامر بدر حسون )) قائلاً:
ـ (كيف سيكون النقاش مع من يعترض على - العراق الموحد! - حسب طريقة صدام، وإذا كان ((كبير)) مثقفي النظام العراقي يستخدم الحذاء كوسيلة إيضاح في نقاشه مع المثقفين خارج العراق... فماذا سيستخدم الجلاد المحترف من وسائل إيضاح في أقبية الأمن مع المثقفين وسواهم من المعارضين)؟!
وتبقى الأسئلة: أشواكاً تُدمي هذا الواقع الثقافي العربي المؤلم!!
* * *
ـ وعدت إلى الكاتب الأرجنتيني الكبير ((خورخي لويس بورخس)).. وقد كتب عن سيرته، وإبداعاته: العديد من المثقفين العرب، وأكثرهم كان يعبر عن إعجابه بفكر (( بورخس )) وبحواراته عن: الحرية، والإِنسان، والضمير!!
ولقد كان ((بورخس)) في لحظة احتفاله بذكرى ميلاده السادس والثمانين قبل أن يرحل... يتلفَّت ، ويطيل التحديق في البعيد.. متجاوزاً ملامح البشر، ويقول:
ـ الآن أشعر أنني أصبحت أكثر حرية، وانطلاقاً مما لو كنت شاباً... أو ما كنت أفعله في شبابي من أجل الحرية، وفي سبيل ما جمعته لأحصده، أو يحصدني.. سواء كان مجداً، أو قيمة أدبية، أو اجتماعية!!
كتب الكثير... لكنه - في كل ما كتب - أصرَّ على الحقيقة، والحق، وشرف الكلمة التي تحمَّل مسؤوليتها طوال عمره... حتى توقف أخيراً، ليرى من داخله، بدون تأثيرات خارجية وقال يومها:
ـ ((أريد أن أتطلع بصفاء إلى: قبة مبنى، أو سياج بيت، وأتنزه في بيونس آيرس، وأتوقف كما يحلو لي))!!
كأنه كان يعلن عن ميلاد جديد لحرية الإِنسان في أعماقه!!
فكيف سيتلفت واحد مثل (( حميد سعيد )) الآن، وقبل موته؟!
وكيف سينظر إلى وجوه أقرانه من المثقفين العرب... وهو يشارك في تزوير التاريخ، وتدليس الحقيقة... وهو يرفع حذاءه لينهال به على رأس المثقفين العرب؟!!
إنه الانخذال الوقح... في موت الإِحساس الوطني، والضمير الإِنساني!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :909  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 399 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.