الثقافة العربية.. إلى أين؟! |
ـ الكوابيس غطّت حِماناً، وآفاقنا، وذرانا... وألْوَت بأحلامنا في خِضَمِّ المآسي الكبار.. |
ورهْنَ صَحَارى العذاب! |
فهل يا تُرى هو مَنْعَى القرابات... |
والذكريات الجميلة؟!! |
|
|
ـ هل ستبقى (الكلمة): غذاء يقيم أوَد الجائعين إلى المعرفة، وإلى الحقيقة، وإلى الخير والجمال؟! |
ـ هل ستثبت (الكلمة): قاعدة... ينطلق منها إدراك عقول البشر نحو حُسْن الرؤية، وحماية الضمير، والدفاع عن الحق، والعدل؟! |
ـ الكلمة: إقرأ... أمر منزّل من رب العالمين إلى سيد البشر، ومعلمهم، ونبيهم إلى الهدى... |
وهو أمر... يحمل كل التقدير للكلمة/الحق، وللكلمة الضوء، وللكلمة المعلِّمة، وللكلمة الهادية إلى صوى اليقين، والعدالة، والمحبة. |
ـ الكلمة: هي الغذاء الحقيقي للعقل، وللروح... الذي يقضي على كل ألوان الجوع، والسغب، والانحراف! |
ـ الكلمة: رجاحة فكر، وصفاء إحساس، وجسر محبة، وجمال ينبع من العقل والروح، ليقيم بين الناس رابطة الحياة، وركائز المجتمعات الإِنسانية! |
ـ لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه في عصر إهانة الكلمة، وإغراقها في عار الانحراف، وفي عهر الانجراف بسيل الأطماع، والبغضاء... هو: |
ـ ما هي كلماتنا التي راجت اليوم في عالمنا العربي... ما لونها.. ما صوتها.. ما إيحاءاتها وإيماءاتها؟! |
نؤمن أن للكلمة التزاماً كريماً، يطغى على عوز المادة، وبشاعة توظيفها... مثلما الكلمة: سحراً، وجاذبية! |
وبالكلمة النقية... تبقى دواخلنا: رحيمة مُحِبَّة، مترفعة عن الجور على أرواحنا ومشاعرنا.. وعلى منطقنا، وشواهد حياتنا! |
نحن نحترق أعصاباً، وجسداً، وعمراً.. لنكتب كلمة الصدق، والمنطق، والشجاعة والقدرة على الحوار! |
وفي المقابل.. نجد هنالك من يكتب كلمة: الإِفتئات، والتزوير، وانسحاق الضمير، وتعتيم الرؤية!! |
* * * |
ـ إنّ المساحة التي يكتب فيها الكاتب العربي، صارت ((قضية عصرية)) ولعلّها ترتهن في بعض الأحيان بالهموم الإِقليمية، والتأثيرات المنصبة! |
لذلك.. يأتي الكاتب إلى ((القضية)) القومية، أو الوطنية، وهو مثقل بهموم متعددة.. بعضها ذاتي محض يرتبط بلقمة عيشه.. وبعضها إنجرافي يتولَّد من شتات فكره، وزيغ إيمانه! |
وفي هذه المساحة.. يفكر الكاتب العربي، وهو ملتصق بعقله... لكنه - في الوقت نفسه - يتعرض لتمزقات عاطفية نابعة من احتياجاته الذاتية، أو من جوانب قمع! |
لحظتها.. يتضاءل الحنان، والعشق، بالنظرة إلى الواقع! |
ويتضخم الخوف، والقلق.. في النظرة إلى الغد! |
وهناك بعض الكُتَّاب من الذين استغرقهم التأمل، وعصفت بهم الفلسفة والمعاناة معاً.. يحاولون قَفْل أنفسهم على التعاسة، وهم يرددون: العمر لحظة!! |
لكنَّ الكاتب المتفاعل.. هو ذلك: العاشق في الغضب العادل.. وهو المشاكس في زمن الانكسار، وزمن الانتصاب معاً! |
ولعلّنا نتذكر - هنا - بطل رواية ((مرتفعات ويذرنج)): هيثكليف... الذي كان ينتصب في عنف إنكساره مستعداً لقتل كل الناس، من أجل ((رغبة)) تتبلور في أَخْذ حبيبته.. وتأكيداً على حق عادل ينصبّ على ((
الأرض
)) التي يتمسّك بها! |
فالحبيبة هنا: عشق... والأرض: مبدأ، ووطن، وقضية!
|
ـ وتساءلت: هل كان بطل ((مرتفعات ويذرنج)): عاشقاً، أم حنوناً.. قاتلاً، أم مقتولاً؟! |
إن إستعمال (الكلمة) - للإِجابة على السؤال - يتموّه ما بين: المعاناة بالعشق... كأنها فوهة بئر مهجورة في هذا العالم، يقذف فيها الإِنسان بكثير من استطاعاته التي يتعرف عليها غالباً في مواقف التحدي، ومواجهة الحدث، أو الموت... ما بين: الاستطاعة بالمبدأ... كأنها مساحات العالم التي امتلكها الإِنسان بالرؤية، وبالثبات على الكلمة/ الحق!! |
إنّ الذين يمارسون (الكلمة) ولا يبدعونها... مثل هذا المواطن العربي الذي اكتنفته أحداث فاجعة عبر تاريخه الحديث، قبل أن يطوي صفحات تاريخه القديم!! |
إنّه مثل ضحية (سالومي) اليهودية: رأسه مقطوع فوق صحن من الفضة... تسمع قهقهاته أحياناً، وأنت تشرب قهوة الصباح، عبر سطور عاجلة.. وقد تسمع أنّاته خلفية لسطر لم يعجبك... وأنت - كقارئ عربي - تبحث عن: الحقيقة، والصدق، والحنان، والأمل!! |
* * * |
ـ لقد توقفت - منبهراً - ذات صباح، أمام تقرير صحافي نشرته صحيفة (الأهرام) قبل أعوام لم تبعد كثيراً، بعنوان صارخ، مثير، يقول: |
ـ هل ينتهي العالم قبل عام 2000؟! |
سؤال.. يطرحه المثقفون اليوم.. أمام الأسلحة النووية، والقمع الصهيوني للعرب، والفتنة التي أضرم نارها قائد عربي من بغداد... بكل شهوة حادة للتسلط، والتوسع!! |
ـ في البدء: طرح التقرير حقيقة عن واقع الكتاب في مصر بالذات.. وقد كانت مصر مصدر النشر، والتأليف، والجديد في الكتب والإِبداع الأدبي! |
ـ لكنّ الحقيقة قالت: ((نحن في مصر نواجه تراجع أهمية الكتاب، والكلمة المكتوبة، أمام غزو التلفاز، والفيديو))! |
وهي حقيقة تفشَّت في أنحاء الوطن العربي كله.. فالمعاناة واحدة، لأننا - العرب - ندخل في حزمة هذا التوجُّه الخالي من الترشيد، والمندفع إلى الوسائل المرئية، خاصة بعد الأقمار الصناعية، والإِحجام أو التقهقر عن الوسائل المقروءة! |
والسبب - في الرؤية الملاصقة - يعود إلى: إنقياد الكلمة نحو الهموم السياسية، ونحو هيمنة بعض الأنظمة القمعية وذات الشعارات، على حرية التعبير والكلمة... حتى وظِّف بعض الكُتَّاب للكتابة الذاتية للنظام السياسي القائم.. ولم يعد لدينا في المكتبة العربية - في أغلب ما يُعرض - إلا كتب السياسة الموجهة، والمذكرات السياسية، وهدم المرحلة السابقة، وتزييف التاريخ... بينما يتوارى الكاتب المبدع، والأديب، والشاعر، أو يسقط في الإِحباط، أو تأكله الغربة! |
ولدينا أمثلة نستمدها من مئات الكُتّاب الذين هربوا إلى المنفى في أوروبا من أقطارهم العربية... خوفاً من البطش، أو السجن، أو توظيف فكرهم وإبداعهم!! |
ـ أقيم في فرنكفورت قبل عدة أعوام قريبة معرض للكتاب، كان من أهم ما تميز به: |
ـ انعكاس الأحداث السياسية المضطربة على الساحة الثقافية... وظهر بوضوح: الخوف السائد من دمار العالم، والتسابق في مجال الأسلحة الذرية، ورُعْب الدول - كبيرة وصغيرة - من نشوب حرب عالمية، تكون نتيجتها التدمير الكامل للإِنسانية! |
ويبدو أن كبار العالم، قد سارعوا إلى هذه الاجتماعات المكثفة فيما بينهم، لإِطلاق صفة مميزة على العام 90/91 بأنه سيكون: عام الوفاق الدولي... وذلك لإِبعاد شبح الحرب، وامتصاص الخوف من صدور الناس على امتداد رقعة العالم! |
لكن ((
معرض فرانكفورت
)) أطلق المسؤولون عنه يومها شعاراً غريباً، وجسَّد الخوف، وهو: (أورويل 2000) ويعني الشعار: (الرواية السياسية المعروفة التي كتبها ((جورج أورويل)) عام 1948، وتوقَّع فيها ما سيحدث للعالم بعده بأربعين عاماً)!! |
* * * |
ـ ولعلّنا - بهذه المناسبة - نحرص على التوقف أمام ما طرحته مؤتمرات وزراء الثقافة العرب، منذ أول مؤتمر عقد في العاصمة الأردنية ((عمّان)) في شهر ديسمبر/كانون الأول، من عام 1976... وتمخّض عنه، كأول إنطلاقة للعمل الثقافي العربي، بيان عمّان، الذي رسم الطريق نحو تنفيذ الخطط المرجوة للمستقبل الثقافي العربي... وحتى آخر مؤتمر (لم ينعقد)!! |
ولا بد أن ملامح ذلك الطريق الذي ابتدأه أول مؤتمر للثقافة العربية... كانت تقوم على تحقيق وترسيخ فكرة (الوحدة الثقافية العربية)... حتى نسفت (عمّان) كل الأفكار عن أية ((وحدة)) عربية، قد تقوم في أي مجال، أو نشاط يخدم التجمع العربي، وأهمه: مجال الثقافة!!! |
ـ في عام 1979م: عقد وزراء الثقافة العرب في ليبيا مؤتمرهم الثاني، وذلك لبحث: إِمكانية تنفيذ الخطوة الثانية التي تعمل على وضع ((استراتيجية)) واضحة لمسيرة الثقافة العربية!! |
ـ أما في عام 1981م: فقد شهدت بغداد مناقشات المؤتمر الثالث لوزراء الثقافة العرب، وكانت مناقشات ساخنة جداً، بلغت حد الاشتباك بالأيدي بين (المثقفين) العرب... بسبب أن كل ((فريق)) ينتمي لشعار، أو حزب، أو أيديولوجية... يريد أن يوظف الثقافة العربية لتوجهاته!! |
ـ في عام 1983: عقد المؤتمر الرابع لوزراء الثقافة العرب، تحت عنوان، أو فكرة: (الأمن الثقافي) بعد أن تعرَّضت الثقافة العربية، والتراث العربي بالذات لمحاولات تشويه، ومحو، وتشكيك.. وتعرضت اللغة العربية لمخططات تهديمية لها، حتى داخل العالم العربي!! |
ـ وشهدت تونس بعد ذلك إنعقاد الدورة الخامسة لوزراء الثقافة! |
وقد حَضَرْتُ - يومها - تلك الدورة، وتابعتها.. وحاورت الدكتور ((محي الدين صابر)) الذي كان يشغل وظيفة ((المدير العام للمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم)).. ولخّص لي برؤيته الثاقبة الأبعاد التي تحمل المخاطر، ومما قاله لي: |
ـ نحن نواجه عدواً شرساً، لا تقف مخططاته المضادة عند حد، ضد لغتنا، وتراثنا، وتاريخنا، ليعمل فيهم تشويهاً وتحريفاً... وهذه النقطة بالذات تشكل لدى وزراء الثقافة العرب أبعاد الحرب الاستعمارية الشرسة بكل جوانبها... كما أنها تهتم - في الاعتبار الأول - بفكر الإِنسان العربي وبحمايته من أخطار الغزو الثقافي الذي يستهدف حضارتنا، ويتسدد مباشرة إلى عقل الإِنسان العربي لخلخلته، ولزعزعته بالتشكيك، وبالتغريب!! |
وكان من أهم المشكلات المطروحة أمام وزراء الثقافة العرب، وما زالت إلى اليوم تراوح، ويكثر اللغط حولها.. هي: |
ـ الغزو الفكري، والأمن الثقافي، وصعوبة الإِنطلاق ببرامج التعريب في المغرب العربي بالذات، ومواجهة الأقمار الصناعية العالمية التي ستغزو ببرامجها وبخططها: عقل الإِنسان العربي، بل ووجدانه.. ومناقشة فعالية وخدمات القمر الصناعي العربي الذي لم تتم الاستفادة منه بإيجابية مطلوبة، وبمستوى الأخطار المتحدِّية... والاستفادة الفعلية من هذا القمر العربي ضمن إطار الثقافة العربية (الموحَّدة)، بل و (المتَّفِقة) على خطط إعلامية وثقافية مثمرة! |
إن الواقع العربي الراهن، ثم المصير العربي ككل.. يرتبطان بأبعاد نجاح الخطط الثقافية المدروسة، والمشمولة بالقدرة على تحقيق الحماية لتراث أمة عظيمة في التاريخ.. وتوفير الكلمة التي لا تخاف الحرية، بل تفاخر بها، وتخدمها في إطارات القيم العظيمة التي ندين بها!! |
|