واحد تراجيدي.. جداً |
ـ المكان: يتبدد في الأزمنة.. لا جغرافية له. مكان من الصوت.. لا يحدد مساحة اللغط في الكلام! |
ـ الزمان: إمكانية الإصغاء في زحام الشجن المتواصل للتعاطف الإنساني! |
ـ الإضاءة: بمقدار المعرفة للزمان! |
ـ الصوت: ضائع في الوقت! |
ـ الحركة: بطيئة.. مجهولة في غياب المساحة الإنسانية: |
ـ قلت له: سمعتك تهمس بكلمة ولكني لم أتلصص على شفتيك.. بل كان صوتك واضحاً.. لكن الكلمة منه كانت واهنة، وخيل إلي أنك كنت تكسر جغرافية مكانك، فهل كنت تقول كلاماً مفيداً؟! |
ـ قال: وما الذي يهمك من ذلك؟! |
ـ قلت: إنني أبحث فقط! |
ـ قال: وما الذي تريد الوصول إليه؟! |
ـ قلت: إلى الإنسان فيك.. إلى كل ما يكمن في صدرك ويحزنك، وفي عينيك وينديها بالدمع! |
ـ قال: ستنوء في العودة من أعماقي.. ألم تسمع أن هموم الإنسان في هذا العصر قد فاضت فأغرقت الكرة الأرضية.. فهل تبحث لتضيع في حقائق الإنسان؟ |
ـ قلت: إنني أبحث لأجد.. لا لأضيع! |
ـ قال: إعلم - إذن - أنني عبارة زماني! |
ـ قلت: عرفني بزمانك كما تحسه وتفهمه.. فالأرض ليست قاعدة الخوف! |
ـ قال: وما هي قاعدة الخوف إذن؟! |
ـ قلت: الشعور بالضياع فوق الأرض! |
ـ قال: أليس من حق إنسان معاصر لهذا الزمان أن يفزع من شبح الحروب، ومن تهديد الفقر، ومن تسلط سفهاء التاريخ الذين يسرقون أراضي الغير ويصادرون ثرواتهم وحرياتهم.. أليس هو الخوف؟! |
ـ قلت: ولماذا تعتبره الخوف، ولا تسميه التحدي؟! |
ـ قال: إن مصنع الحضارة لم يكن ينتج الرفاهية للإنسانية.. بقدر ما يضاعف إنتاج السلاح لقتلها، ولتدمير حضارتها، فأين هو التحدي؟! |
ـ قلت: السلاح ليس كل شيء والقتل ليس نهاية الأشياء، ولكن المطلوب أن يؤمن الإنسان، ويزداد التصاقاً بمعتقداته ليجد القدرة والإرادة، فالإيمان عظيم إذا شاع في النفس! |
ـ قال: أعرف ذلك.. لكن القوة العاقلة مفقودة، أو لعلّها أصبحت فرس الرهان! |
ـ قلت: وفي هذا الصراع.. من أنت باختصار؟! |
ـ قال: أنا ((هَمٌّ)) يغني، وجرح يحيا في النزيف، أنا حيرة مندهشة بكل مخاضات الإنسان ومفاجآت الحياة، أنا ضحكة عائدة قبل انطلاقها! |
ـ قلت: هل هذا أسى.. أم حزن؟! |
ـ قال: وما الفرق؟! |
ـ قلت: فرق البدء، والمعاناة! |
ـ قال: لكني لا أحمل أصواتاً في داخلي!! |
ـ قلت: ماذا تحمل إذن؟! |
ـ قال: الأصوات هي التي تحملني.. فأنا محمول ومشتت! |
ـ قلت: وأنت في هذا.. قضية أم حالة؟! |
ـ قال: لم يعد الإنسان قضية.. بكل أسف، وإنما المصالح والأطماع، والقوة.. هي القضية! |
ـ قلت: ولكن الإنسان أيضاً أكبر من أن يكون حالة.. فلا بد أن نرتفع بفكرنا لفلسفة واقع الإنسان، ومعاناته، وطموحاته وحتى سقطاته! |
ـ قال: دعك من سقوط الفكر أو ارتفاعه.. إنما الذي أشيعه في نفسي هو ((الشعور))! |
ـ قلت: دعك أنت من محاولة الإجابة على أسئلة مفقودة.. لكنني أسالك في إطار تعريف الإنسان! |
ـ قال: أنت لا تسأل.. فأسئلة الناس اليوم لقطة فلاش في آلة تصوير خالية من الفيلم! |
ـ قلت: إنني أسألك.. أوافقك على ذلك، ولكنني أجرحك لتنطق! |
ـ قال: تقصد أنك تجرح جروحي.. إفعل ذلك، فما الذي بعد الجرح من ألم؟! |
ـ قلت: أريد أن أعرفك.. هل تحمل بطاقة هذا العصر، أم أنك هارب من عصرك؟! |
ـ قال: لست أستطيع أن أهرب من عصري، فأنا أنتمي إلى نهاية القرن العشرين.. فتأمل ذلك، وأنت تعرفني بكلمات القشور التي يتعامل بها الناس عاطفياً، وأنت تنكرني بكلماتي التي منحتها لك من صدري! |
ـ قلت: لكني لم أفهم! |
ـ قال: ليس ذنبي، وربما ليست مشكلتك، ولكن المحور هو رغبتك في تسميتي، أو تعريف حزني، ولا بد أنك تعلم أنه من أجل البحث عند الإنسان تضيع منه مفاهيم كثيرة، وتتعامى عليه مرئيات، ولا تصلح الفلسفة، أولاً يصلح التفلسف في أشياء عميقة مرتبطة بالشعور، أو بالخوف من المستقبل! |
ـ قلت: ولم أنت حزين، وفي استطاعتك أن تبرر ما تشعر به، أو على الأقل ليس حزنك ذاتياً، وإنما هو حزن من طبيعة العصر، أو بأسباب ما يتربص بحضارة الإنسان كما تقول، وهو وجع إنساني يغمر العالم؟! |
ـ قال: ها أنت فهمت شيئاً.. على الأقل بت في رأيك ونظرك إنساناً أتعامل بالمبررات، ثم إنني عضو في جسد العالم وأنت عضو، والآخر عضو، فإذا تألم عضو منا تشكى العالم كله، أو الإنسان في كل مكان، وينطبق هذا على العضو عندما يتألم العالم فيشعر هو بالألم! |
ـ قلت: أنت خيالي في هذا الشعور.. وإلا فهل تعتقد أن العالم كله يتألم من ألم تعذيب معتقل في سجون إسرائيل مثلاً.. ألا ترى كيف يستعدون الآن لمهرجانات الفرح في الإيحاء بالسلام؟! |
ـ قال: العالم كله ليس نقطة ما.. بل هو كل مكان يلتفت فيه الناس للدفاع عن المظلومين! أما السلام فليس هو توقيع زعامات!! |
ـ قلت: هذه نظرة جديدة، فلماذا - إذن - تفتعل الأسى وأنت تعلم أن الظلم قصير وأن الحق لا بد أن يلوح؟! |
ـ قال: صعب أن نفتعل الأسى.. إن أسانا حقيقي.. لكننا لا بد أن نكون أقوى من هزائمه! |
ـ قلت: ربما أنت تريد أن تحتفظ بشجنك، والشجن يوقد جذوة التفكير، ويوقظ الشعور! |
ـ قال: إن الإنسان في حزنه يتحمل الوزر وحده! |
ـ قلت: والذين تحبهم.. كيف تعاملهم؟! |
ـ قال: أردد ما حفظت ((تعيش الذكرى في قلبي، وأبقى دائماً مرتحلاً))! |
ـ قلت: الوقوف.. لا أكثر من ((رقعة)) في الخطوات!.. فما هو تعبك؟! |
ـ قال: ومتى يتعب الناس؟! |
ـ قلت: عندما تطول المسافة. |
ـ قال: يتعبون عند اليأس! |
ـ قلت: وأنت ألم تشعر بالتعب؟! |
ـ قال: الأسى.. ليس التعب! |
ـ قلت: ما هو إذن؟! |
ـ قال: هو تلك ((الرقعة)) في الخطوات.. أو هو العبور الاضطراري.. أعبر الحقد، والنكران، والفاقة النفسية! |
ـ قلت: وكم قطعت؟! |
ـ قال: إني لا التفت خلفي. |
ـ قلت: وما مقدار رؤيتك في الأمام؟! |
ـ قال: كل الأشواق.. عمق الحنين.. تقدير فعل الخوف لأتجاوزه! |
ـ قلت: وتشعر بالحزن بكل هذا الذي قلت؟! |
ـ قال: الحزن كله.. أن اكتشف في النهاية أن عبوري كان كما عجلة العربة التي تورطت في طريق رملي! |
ـ قلت: عندئذ لن يكون الأسى نتيجة.. بقدر ما سيكون امتهاناً إنسانياً أليماً! فهل تعني أن يكون ذلك هو منتهى الأسى؟! |
ـ قال: لا بل هو أسى المنتهى! |
ـ قلت: حدثني عن ذاتك كإنسان أيضاً.. ألا تفكر في حب جديد؟! |
ـ قال: لا أثق في البناء على الأنقاض.. فالحب مرة واحدة تطول وتشع وتتمدد حتى الموت! |
ـ قلت: لكن غيرك فعلها، ونسي الأنقاض كلها؟! |
ـ قال: ذلك الغير لم يحب، وإنما حاول التفاعل بملهاة كوميدية! |
ـ قلت: ولكنه يشعر بالسعادة؟! |
ـ قال: السعادة ليست هي انعكاس المرآة أو صدى الصوت! |
ـ قلت: ما هي إذن؟! |
ـ قال: عافية الروح، وعافية الضمير، وعافية المنطق! والكلمة من صدر الموجوع؟! |
ـ قال: ربما كانت لا أكثر من زفرة، وقد تصبح زاوية فقدت الإضاءة! |
ـ قلت: ومن أحببت؟! |
ـ قال: ((مولاي وروحي في يده.. قد ضيعها سلمت يده))!! |
ـ قلت: مقتول أنت إذن في العشق؟! |
ـ قال: الشراع لي.. والقارب ملك غيري! |
ـ قلت: والبحر.. من الذي يملكه؟! |
ـ قال: إنه من أملاك الملل! |
ـ قلت: قصائدك.. هل غرقت كلها؟! |
ـ قال: إنها ما زالت تطفو هناك بالقرب من الشط الآخر.. إنها كالظل.. كالحلم! |
ـ قلت: ونغمك الشجي الذي يرتفع بك من وهدة الأسى والحزن؟! |
ـ قال: نغم يتابع رحلته خلف كل الأشرعة التي ضاعت في زوابع البحر! |
ـ قلت: وما هي فلسفتك؟! |
ـ قال: لا تخرج فجأة من مكان شديد الظلمة لتقف تحت قرص الشمس، ولا تدخل إلى مكان مظلم من مكان كثيف الإضاءة. |
ـ قلت: وما هو الذي ترى به؟! |
ـ قال: بمقدار ما عرفت! |
ـ قلت: ما هو عنوانك الأخير؟! |
ـ قال: نهاية القرن العشرين!! |
* * * |
|