واحد مبسوط... جداً |
ـ المكان: صفحة مرآة.. انعكس عليها وجه غطته فتحة فم مقهقهة. الوجه واقف على صفحة المكان.. على المرآة! |
ـ الزمان: مسروق.. اختطفته الضحكات، ومدَّته ثوان لا تطول! |
ـ الرؤية: صافية.. كلون الماء! |
ـ الصوت: صخب يرتفع من الأعماق عنوة. |
ـ قلت له: هل هذا صوتك؟! |
ـ قال: أبداً.. إنه صوت نفسي. |
ـ قلت: نفسك تقهقه؟! |
ـ قال: ألا تسمع القهقهة على وجهي؟! |
ـ قلت: إني أرى على وجهك، ولا أسمع منه! |
ـ قال: بل أنت تسمع! |
ـ قلت: ماذا تعني؟! |
ـ قال: أعني أن الرؤية انطباع.. دمغ، أما الاستماع فهو صوت.. يضيع بعد لحظات في الهواء! |
ـ قلت: تعني أن قهقهاتك ضائعة؟! |
ـ قال: أقصد أنني ((سمبوط))! |
ـ قلت: تقصد مبسوط؟! |
ـ قال: وهذا الانبساط لا يترجم معاني الفرحة! |
ـ قلت: أجل؟! |
ـ قال: الانبساط تأثير وقتي.. لكنه لن يبقى.. لكن يكون شعوراً صادقاً! |
ـ قلت: وما الذي يبسطك الآن؟! |
ـ قال: عمق الحزن! |
ـ قلت: كيف؟! |
ـ قال: أكره أن أموت وأنا ((مبلِّم!)) أريد أن يكون موتي من شفتي! |
ـ قلت: هل مات أحد من السرور؟! |
ـ قال: كثير.. إن تضخم السرور أو الفرحة يقتل! |
ـ قلت: وتريد أن تموت بفرحة؟! |
ـ قال: أحاول.. فالموت ليس وقفاً على الألم والحزن فقط.. إنه يتعاطف أحياناً مع الفرحة! |
ـ قلت: هل أنت صحيح؟! |
ـ قال: لا أشكو مرضاً، ولا أشك في قواي العقلية.. كل ما هنالك أن أحاسيس الإنسان تتضخم أحياناً فتسبب هذه الحالة.. حالة ها؟! |
ـ قلت: وما سبب انبساطك؟! |
ـ قال: سؤال معاد.. ألم أقل لك عمق الحزن؟! |
ـ قلت: قصدت ذلك لأطابق الإجابتين! |
ـ قال: لا.. إنك نسيت فقط.. فنحن لا نرضى باكتشاف أخطائنا، وهذه من الأشياء التي تجعلني أضحك! |
ـ قلت: تحب أن تضحك من الناس؟! |
ـ قال: وهل وجدت أنت فرصة لتضحك مني ولم تغتنمها؟! |
ـ قلت: إني لا أحب الضحك على غيري، أو منهم.. إني أضحك معهم. |
ـ قال: أنت ترضى أن تكون مرآة عاكسة إذن؟! |
ـ قال: هل تعتقد أن أي واحد يرضى بحالة هذه المرآة التي أقف أمامها الآن وأقهقه؟! |
ـ قلت: على شرط أن لا تكسر المرآة بعد فراغك من انبساطك. |
ـ قلت: وهل هذا هو الجمع بين الألم والفرحة؟! |
ـ قال: بدقة متناهية.. فالنفس تحمل في وقت أخذ عبء الحزن وعبء انتظار الفرح، وفي المنتصف قد يموت الإنسان باللحظة الفاصلة! |
ـ قلت: وهل تعوّدت على هذا الرأي؟! |
ـ قال: إني أناقشه أمام المرآة دائماً.. فالزجاج لا يجامل. إن الزجاج مادة صريحة.. إنه مرآة، ونافذة، وأنبوبة اختبار، وشيء يصر أن ينكسر ويتحطم إذا أهملت حمله! |
ـ قلت: وعندما تحب.. هل تبدو مبسوطاً؟! |
ـ قال: المحبة ليست حالة.. إنها شعور، والشعور منطق! |
ـ قلت: لكن قلوبنا تخفق مع كلمة الحب؟! |
ـ قال: هذا لا يسمى انبساطاً.. إنه منطق الفرحة.. إن الحب يجعلك مبسوطاً، وليس الانبساط هو الذي يدفعك أن تحب! |
ـ قلت: لكن الإنسان يحب ثم يتألم! |
ـ قال: عندما يجعل من الحب حالة.. إننا نعتسف الحب، فلو أصغينا جيداً إلى صوت أعماقنا لسمعنا الصدق. |
ـ قلت: وما هو صدق الحب؟! |
ـ قال: أن تتألم حقاً.. إن الأم تفقد بهجتها عندما يتزوج ابنها، والحبيبة تنادي من تحب عندما تفقده، والقلب يخفق بشدة قبل لحظة اللقاء، فإذا التقى الحبيان، وشعرا ببقائهما معاً تحولت دقاته إلى وظيفة.. باعتباره عضواً دموياً في الجسد! |
ـ قلت: لكنهما في اللقاء يحسان بكل الانبساط! |
ـ قال: حالة.. مجرد حالة. |
ـ قلت: وما هي الحياة المليئة بالفرحة؟! |
ـ قال: أن ترغب، وتتمنى، وتحقق! |
ـ قلت: وبعد ذلك؟! |
ـ قال: بعد أن تحقق ما أردت تقف في المنتصف.. تشعر بالانبساط، ثم إما أن تموت بفرحتك أو تتحول إلى أشياء متجمدة.. فارغة! |
ـ قلت: إذن.. ليست هناك فرحة دائمة؟! |
ـ قال: لكن طبيعتنا كلنا أن نحطم كل الأشياء التي ننتهي من استعمالها! |
ـ قلت: أنت عاقل إذن؟! |
ـ قال: بمنطق الناس عاقل، وباستنتاجاتهم مهبول! |
ـ قلت: وماذا تود أن تكون عند الناس؟! |
ـ قال: أريد أن أكون في منطقهم! |
ـ قلت: وهل الانبساط منطق؟! |
ـ قال: أبداً.. إنه استنتاج! |
ـ قلت: ومتى يمكننا أن نستنتج؟! |
ـ قال: حينما يؤلمنا الآخرون! |
ـ قلت: تضحك لهم؟! |
ـ قال: نضحك فقط.. فالناس لا يسمحون لك أن تفسر تصرفاتك.. إن التفسير يضعونه هم! |
ـ قلت: وهل عرفت ماذا فسرت أنا قهقهاتك الآن؟! |
ـ قال: نعم.. تفسيرها عندك أنني إنسان مبسوط! |
ـ قلت: فقط؟! |
ـ قال: هذا كل شيء.. فعندما تفسر أنني مبسوط.. يعني هذا استنتاج، والاستنتاج بحث نجري وراءه بكل جهدنا! |
ـ قلت: ومتى شعرت بحالة الانبساط هذه؟! |
ـ قال: عندما شعرت بفيضان ألمي! |
ـ قلت ((تاني))؟.. لماذا تربط الألم بالانبساط؟! |
ـ قال: إنهما السالب والموجب.. اللذان يحركان أعماق النفس، ويفعلان التصرف! |
ـ قلت: لكنك تجمع بينهما بقوة؟! |
ـ قال: أعطيك مثلاً.. إنسان مريض.. دفعوا به إلى غرفة العمليات، وقالوا له: العملية خطيرة وقد تموت، وعندما يفيق من البنج.. يسمع أن العملية نجحت، وأنه سيخرج بعد عشرة أيام، فيشعر أنه بحاجة إلى ضحك متواصل ليعبر عن فرحته.. إنه يحس الفرحة فعلاً، لكنه يموت فجأة وهو يضحك - إنه يموت بالفرحة! |
ـ قال: أن تبقى في المنتصف! |
ـ قلت: كيف؟! |
ـ قال: أن تحقق بعض ما تريد، وأن تبقى في انتظار البعض الآخر! |
ـ قلت: أن أفرح وأحزن في آن واحد؟! |
ـ قال: بالضبط! |
ـ قلت: وهل يكره أحد الفرحة المستمرة؟.. لماذا لا أنغمر في البعض الأول الذي تحقق؟! |
ـ قال: الإنسان لا يثبت على شيء واحد، والحياة نفسها أيضاً لا تبقي لك أشياءك كما هي! |
ـ قلت: مثلاً؟! |
ـ قال: مثلاً.. الشيء الذي أردته وتحقق قد متحته كله، وأغترفته، وبدا لك فارغاً، فلا تطيق أن تستمر معه فتخطو إلى مأمل جديد.. وفي هذه ((النقلة)) أنت تغني.. أنت مبسوط.. إنك تخاطب من تحب بعبارات لا أروع منها، فإذا تحقق لك مبتغاك نسيت كلماتك! |
ـ قلت: هل جربت؟! |
قال: جاءتني عبارة ذات عام في مظروف أنيق، وعبق.. وقالت لي العبارة: أنا بنفاق الناس وكذبهم، ومجاملاتهم.. أريد إنساناً يصدقني.. يخاطبني نداً له.. يكشف لي أخطائي.. يحبني لشخصي.. لحلاوتي.. لتفكيري، وليس لإسمي أو لقيمتي الاجتماعية.. فهل تعطيني هذا الضائع مني؟! |
ـ قلت: وماذا فعلت؟ |
ـ قال: كانت لحظة انبساط لا نهائية.. استجبت.. صدقت.. اندفعت.. أعطيت كل الصدق، وكل الصراحة، وكل الفرحة، وكل نفسي الحقيقية. |
ـ قلت: وماذا حدث؟! |
ـ قال: استنتج!.. تحولت إلى شيء كالوعاء الذي كان ممتلئاً، وعندما انتهى المتح والاغتراف منه.. قذف به إلى زاوية النسيان الأليمة! |
ـ قلت: منطق الحياة! |
ـ قال: أسميه استنتاج الأحياء.. فلا يمكن أن يعيش الواحد دون أن ينبسط، لكي ينبسط فعلى حساب غيره! |
ـ قلت: ولماذا سمحت لنفسك أن تكون وعاء، وأن يغترف منك الآخرون؟! |
ـ قال: عندما نحب نسقط الاستنتاج.. أي أننا نبادر بجعل السالب والموجب يتلاحمان.. والشحنة لها طاقة، والطاقة لها نهاية هي الاحتراق، والحب سالب وموجب، وشحنة وطاقة، واحتراق! |
ـ قلت: وأنت مبسوط الآن.. لعمق حزنك؟! |
ـ قال: لم يعد هذا سؤال! |
ـ قلت: ماذا إذن ؟! |
ـ قال: رؤية - واضحة.. ألا تراني أقف أمام المرآة، وأقهقه عالياً.. منتهى الانبساط .. منتهى الرؤية.. استنتاج يعطي الحزن! |
ـ قلت: وإلى متى تبقى في وقفتك هذه؟! |
ـ قال: حتى أستطيع أن أضرب هذه المرآة، وأكسرها، وأحطمها، فلا أرى، وأبحث من جديد! |
ـ قلت: أتمنى لك وقفة قصيرة! |
* * * |
|