واحد آخذ... جداً |
ـ المكان: أي موقع هنا أو هناك على امتداد المسافات! |
ـ الزمان: لا يخضع للذكرى! |
ـ الإضاءة: مسائية.. تنبعث حزمها من تحت المقعد! |
ـ الصوت: عميق.. يكاد يتحول إلى أصداء! |
ـ المناسبة: هذا الزحام الكثيف الذي يغمر عنوان الإنسان في أعماقه! |
ـ الحركة: امتدت يد هذا الواحد إلى الأرض، وأخذت أصابعه ترسم خطوطاً متشابكة.. معقدة، وفي داخلها مربعات مفتوحة ضائعة في كثافة الخطوط الطويلة والعريضة: |
ـ قلت له: هل تلعب الكلمات المتقاطعة؟! |
ـ قال: تجاوزت هذا الانشغال المحير! |
ـ قلت: فما الذي تفعله إذن، وتقصده من هذه المربعات المفتوح بعضها على البعض الآخر، ومن هذه الخطوط المتشابكة كأنها أمعاء مبقورة؟! |
ـ قال: هذا الذي تراه أمامك اسمه: الأخذ والعطاء! |
ـ قلت: ترسم بطريقة المدرسة السيريالية إذن؟! |
ـ قال: إنني لا أجيد الرسم، ولكنني أحاول التعبير عن فكرة.. عن صورة أجسدها عبر هذه الخطوط والمربعات! |
ـ قلت: وماذا عن الأخذ والعطاء عندك؟! |
ـ قال: ما عندي هو عندك وعند الناس كلهم، والفرق أن أغلب الناس اليوم لم يعد عنده الاحتفال بهذه القيمة في التعامل والشعور فيما بينه، أو أن الناس قد أسقطوا العطاء من حياتهم، وأصبح كل همهم هو الأخذ! |
ـ قلت: تعني أننا نعيش زمن الأخذ؟! |
ـ قال: أعني أن الناس لم يعد يشق عليهم شيء، فظنوا أن قدرتهم تمكنهم من أخذ ما يريدون فقط دون أن يعطوا في المقابل لما أخذوه، ولقد نعم الإنسان في الزمن القديم بلذة مزج الأخذ بالعطاء.. دون أن يكون الأخذ سؤالاً جائعاً ينتظر العطاء إجابة عليه.. أما في الزمن الجديد فقد أصبحت اللذة مكثفة في إرضاء ((الأنا))، وضاعت الأجوبة في تسلط الأسئلة! |
ـ قلت: قل لي.. من أين يمكنك أن تأخذ حينما تتسلط عليك رغبة الأخذ؟! |
ـ قال: من النقطة التي تتركز عليها رغبتي وتدور حولها.. ألم يصبح الناس مجموعة رغبات مجوفة من الأحاسيس؟! |
ـ قلت: وهل تأخذ النقطة التي رغبتها فقط، أم أنك تستحوذ أيضاً على ما حولها وما يتبعها وما يتبع لها؟! |
ـ قال: أمارس ما يفعله الآخرون اليوم.. إنني لا أستطيع أن أجزئ رغبة الأخذ، ولكنني امتلكها كاملة بكل فرصها وضعفها في الجانب الآخر! |
ـ قلت: ولكن ذلك يتجاوز معنى الأخذ إلى فعل الاستحواذ بالاستغلال للظرف، أو لنقطة الضعف، وهذا يعني خلخلة الضمير وتشويه صفاء النفس! |
ـ قال: صحيح.. ولكن عندما أشعر في لحظة ما إلى الاحتياج الملح وهو من فعل التسلط المادي على فكر ونفس الإنسان.. لحظتها أفكر في استغلال الظرف الملائم لمزيد من الأخذ لأسدّ احتياجي! |
ـ قلت: وقد يتحول الاستغلال إلى سرقة، والاستحواذ إلى نهب، وبذلك تجد نفسك وقد تعفن ضميرك، وأفقدت نفسك - كإنسان - وسامتها وأناقة تعاملها؟! |
ـ قال: ومن قال لك أن الأخذ الآن هو سؤال ينتظر الإجابة؟.. لقد تحول إلى إجابة ضرست ما قبلها وما بعدها من الأسئلة، فأغلب الناس اليوم ليس عندهم الوقت الكافي لطرح الأسئلة، والأسئلة تعني الاستفهام والتعرف والتعلم والحيطة، ولكننا نهزم كل تلك الأسئلة ببعثرة العديد من الإجابات التي لا تهتم بالأسئلة.. لأنها لا تهتم بالنتيجة، أو بالحصيلة، أو العبرة! |
ـ قلت: وبعد أن تأخذ.. هل تصعب عليك الأفكار، وتتحرج إرادتك.. أم يسهل عندك كل شيء؟! |
ـ قال: في البداية أقول لك.. إن من يريد أن يأخذ بدافع الأنا وبدون أن يعطي.. فهو لا يفكر.. لا تعنيه أية فكرة.. إلا ما كان ملاصقاً لرغائبه وذاته. أما الإرادة.. فهي طبيعة في الإنسان.. تقوى عند البعض، وتضعف عند البعض الآخر، وميزانها يتمثل في النوايا.. نواياك نحو ما تريد أن تأخذ ونواياك أمام ما تريد أن تعطيه، ولا أكذب عليك.. إذا أخذت ما تريده واستنفدته، فما الذي تبتغي بعد ذلك من قشرته؟!.. لكنك تتلفت بحثاً عن أخذ جديد بعد أن تقذف بالقشرة السابقة! |
ـ قلت: ألم تحاول مرة أن تحاسب نفسك.. أن تسألها عن ما أخذت وما أعطيت، أو عن ما هو مفروض أن تعطيه؟! |
ـ قال: في لحظات قصيرة عابرة أتوقف، فأعرض نفسي للانتقاد الذاتي.. أحاول بصعوبة أن أتذكر تلك الضرورة التي تلح على البحث عن تربية سليمة ومثالية للنفس.. على الأقل لأقتنع بالتفكير أو لأشبع بما أخذت أو الالتزام بخلق أهدرته! |
ـ قلت: وماذا تكون النتيجة في نفسك؟! |
ـ قال: احتار واصطدم ببعض الأسئلة التي تلف رأسي، ومنها على سبيل المثال: هل تبدو رغبات الإنسان كثيرة بلا حصر وقوية مندفعة بلا ضبط، ونهمة أكول بلا شبع.. حتى أنها تدفع الإنسان وتقسره على الانسياق وراء إغراءاتها.. أم أن مغريات الحياة التي تتحول إلى رغائب ودوافع للأخذ فقط.. هي مغريات متعددة وملونة، وإن الأشياء لا تتشابه وأن الطعم يختلف من شيء لآخر؟! |
ـ قلت: ولكنك بهذه الأسئلة لن تطفو على السطح المتلاطم في أعماقه، وإنما مثل هذه الأسئلة تدفع بك إلى القاع والمزيد من الغرق! |
ـ قال: لا.. إنني أخالفك، فهذه الأسئلة تدعونا لطرحها ومناقشتها بعد كل تجربة ((أخذ))، فنحن في لحظات الامتلاء والشبع نشعر بالقرف من كل شيء.. حتى مما أكلناه أو أخذناه أو استحوذنا عليه.. طبيعة إنسان تمرض وتتمرد في الملل، فلماذا - إذن - لا نقارب بين الأشياء ونفاضل عند الشبع؟.. إننا لا نقدر أن نحسن المفاضلة إلا عند الشبع وبعد الأخذ، وطالما كان الإنسان مدفوعاً باحتياجاته فهو لا يفاضل ولا يختار وإنما يندفع للأخذ على أي شكل كان. |
ـ قلت: ولكن النتيجة أيضاً قد تأتي عكسية.. ففي لحظات الامتلاء أو الشبع تبرد الهمة وتتكسر الأجفان، ويسري الخدر، وتغفو العيون، ويتعطل الذهن، و.. |
ـ قال مقاطعاً: وتصاب الغرائز بالإغماء وتتضخم الشهوات! |
ـ قلت: إذا تضخمت الشهوات فقد تتحول إلى حيوان هائج؟! |
ـ قال: أبداً.. إن الإنسان بمجرد ما يأخذ فهو يسقط من التعب، أو من البطنة أو من الامتلاء.. لحظتها من الممكن أن نختار للغد رغبات أفضل تقوم على التعاون بين الإنسان والآخر.. أيضاً إن الإنسان حينذاك يتنازل عن مطالب ذاتية لأنه محكوم بالقرف! |
ـ قلت: هذه نقطة جدلية لن نخلص منها، ولكن قل لي.. ألا تعتقد أن ساعات الملل تزداد فيها رغبات المرء أكثر.. لأنه ينطلق من فراغ؟! |
ـ قال: أعلم في كل الأحوال.. أن الإنسان متورط في الرغبات التي لا يملك طريقة تحقيقها، ولا تصدق أن إنساناً ما قد حقق كل ما يرغبه، أو أنه قد أخذ كل ما أراده واشتهاه.. أبداً. إن كل العاطلين يحلمون فوق رقعة شاسعة من الأشياء بينما مقاساتهم محدودة، وقدراتهم محدودة.. أما الذين يعملون، ويعرقون. ويكدحون ويفكرون.. فإن رغباتهم تبدو مبلورة ومتأثرة بالحركة وبالعمل! |
ـ قلت: هذه لا نسميها رغبات، وإنما هي طموح، وفكرة للحياة الأحسن التي يتوافق فيها الأخذ والعطاء، ومهما كانت نسبة المستغلين لفرص الأخذ بلا عطاء كبيرة.. لكن منطق الأخذ والعطاء قائم بين الناس، ومهما أخذت فلن تقدر على مواصلة أسلوبك.. فغيرك أيضاً يريد أن يأخذ.. حتى في الحب الأعمق.. فلن تأخذ إذا لم تعط، أو أنك لن تحصل على شيء إذا كان الطرف الآخر لا يريد! |
ـ قال: لكن الغرائز لا ترتبط بهذه القوانين. أو الأنشوطات الاجتماعية والنفسية.. أحياناً تجد رغبة الأخذ تدفع صاحبها لأن يقفز فيرتكب جريمة ونتساءل لحظتها: لماذا عجز أن يتحكم في تلك الرغبة؟! |
ـ قلت: لا بد أن نربط هذه الحالة بمستوى التفكير.. بصحة الإدراك.. بالإحساس الذي لم يتعرض لصدمة، أو لعاهة أو تعرض لهما! |
ـ قال: ولكني أعتقد أن الإنسان لن يتخلص من غرائزه! |
ـ قلت: الغرائز موجودة.. لكننا نشذبها، ونهذبها، ونحكمها بدل أن تحكمنا.. نحكمها بالتفكير.. بالقناعة.. بالحب، فالحب يمنع الانحراف ويدعو إلى تنازلات الرغائب فينا عن أشيائها الحادة! |
ـ قال: أما زلت تتحدث عن الحب بين الناس؟! |
ـ قلت: لا يمنعني شيء عن ذلك برغم التبدُّل الذي طرأ على نفوس الناس، ولا بد أن نفرق بين الرغبة وهي طموح وإبداع وتفوق إنساني.. وبين الرغبة وهي دافع للامتلاك.. دافع للأخذ، فالامتلاك مادة، أما الأخذ فهو في بعض المواقف يسمى تجاوباً، أو أصداء عندما يقترن بالعطاء، ويبقى الأخذ امتلاكاً بتصورك عندما ينحصر في الأشياء المادية.. الأشياء التي نأخذها فتصيبنا بالخدر!! |
ـ قال: ألا تشعر بأنك قد أخذت مني الكثير الآن؟! |
ـ قلت: بلا شك.. لكنني أعطيتك الأكثر في الوقت الذي لم أكن راغباً فيه إلى أخذ ما عندك لأبيعه، أو أستغله، أو استحوذ عليه.. فالذي عندك لا يشترى وإنما يباع للتخلص منه، ولا يستغل لأنه لا مكسب منه أو فيه، ولا يغري بالاستحواذ عليه.. لئلا يسقطنا في هوة العزلة!! |
* * * |
|