واحد قلبه مزروع... جداً |
كان طبيب الأسنان اليهودي.. يتجول في حديقة المستشفى بـ ((كيب تاون)).. |
كانت ملاحظات الناس عليه أنه دائم الابتسام، لكن يده دائماً أيضاً كانت على قلبه. |
يهودي.. ومن الضروري أن يتشبث بالحياة! |
إن اليهود لا يهمهم أن تنتزع من صدورهم قلوبهم.. لأن الإحساس منعدم فيها. |
ولكن عندما يكون القلب هو السبب الرئيسي في الموت والحياة فإنه يحرص عليه ((كجهاز)) يعتبر المركز للدورة الدموية! |
((واشكانسكي)) من قبله: زرعوا له قلب الفتاة التي انتهت حياتها في حادث تصادم، ولم يمت بالقلب.. وإنما بشيء آخر مات! |
والإنسان بكل ما فيه من تناقضات، وعنعنات، وعيوب، إلا أنه ولوف.. يتولع بقلبه، ويتدله قلبه في داخله.. فيحب بقلبه، ويحب قلبه.. لذلك عندما زرعوا ((لواشكانسكي)) قلب فتاة.. لم يتحمل قلبها عفونة ضلوع ((واشكانسكي)).. ولم تتحمل ضلوع الرجل فورة قلب فتاة الخامسة والعشرين.. فكأنه صرخ وهو يموت قائلاً: |
لست قلبي أنا إذن |
إنما أنت قلبها! |
كيف يا قلب ترتضي |
طعنة الغدر في خشوع |
وتداري جحودها |
في رداء من الدموع؟ |
|
ولم يكن جحود الفتاة ذاك، وإنما جحود الحياة عندما تغدر بالشباب! |
ومات قلب ((واشكانسكي)) المعار!!.. إلا أن الذي شد انتباه العالم كله.. أن القلب المزروع في صدر طبيب الأسنان الذي بقي حياً.. إنه قلب لم يلفظه جسد الرجل، وإنما حدث ما يشبه التآلف والامتزاج.. قلب زنجي مغدور قتيل استقر في صدر رجل أبيض؟! |
إن هذا هو العجب! |
ولهذا تسللت بخواطري، وتأملاني.. حتى وصلت إلى حديقة المستشفى الذي ينزل فيه طبيب الأسنان بقلب زنجي، وخيل إلي أنني أراه يتنزه في الحديقة ويده على قلبه. |
وبشفافية الرؤى، والخواطر، والتأملات.. اقتربت من قلب الزنجي المزروع على صدر الأبيض اليهودي.. ورأيت القلب المزروع ينبض بعنف، وبعصبية!.. إن القلب، كما يقول الأطباء والعلماء يخفق حوالي 72 مرة في الدقيقة مدى الحياة.. ولكن خيل إليَّ أن ذلك القلب يخفق 170 مرة في الدقيقة بسبب عنفوانه، وغضبه داخل جسد اليهودي الأبيض.. وتطلعت إلى ((الأذين)) الذي يستقبل الدم القادم إلى القلب.. فرأيته نشيطاً في استقبال الدم، وانتبهت إلى ((البطين)) فراعني أنه وهو يدفع الدم الصادر منه - كما المضخة - يدفع بشدة، وظننت أن الرجل سيموت بسبب عنف هذه الحركات! |
والعلماء قالوا إن جسد الإنسان هو الذي يرفض أي جزء دخيل عليه.. لكني - كما قيل لي - اكتشفت أن الحكاية انعكست.. أعني أن القلب المزروع كان يناضل في داخل الرجل الأبيض - رافضاً الالتئام بالجسد - غير أن العملية الجراحية الدقيقة جعلته يلتئم وإن كان كثير الحركة.. مواراً.. عصبياً! |
ـ لماذا أنت منفعل هكذا.. ألاّ يسرك أن تبقى نابضاً.. يخرجونك من صدر قتيل مات إلى صدر رجل يعيش؟! |
ـ قال القلب المزروع: إنني رافض.. رافض. ألاّ تشم رائحة ضلوعه.. كأن هنا حظيرة للخنازير؟!.. إن نفسية هذا الرجل ثعلبية، وأنا لم آلف مثل هذه الحياة.. إن صاحبي كان صريحاً، مرهف الحس، غني الشعور، والرجل هذا متبلد الحس.. تصور يحاول أن يقول لممرضة: أنت حلوة.. فهل هذا يستحق قلباً ينبض؟! |
ـ قلت: كيف انتزعوك من صدر صاحبك الزنجي؟! |
ـ قال وهو يتنهد: إيه.. حكاية، لقد انتظم صاحبي في مظاهرة من المظاهرات المعروفة - مظاهرات السود التي تنادي بالعدل، وشجب العنصرية - وكنت أنا في داخله أتفاعل مع رغباته الوطنية واللونية.. تأكد عندي أن صاحبي على حق.. نعم أنا أكره البيض أيضاً! |
ـ قلت: لماذا؟ |
ـ قال: كاد أحد البيض مرة أن يقتل صاحبي، وبالتالي يعدمني النبض.. إنهم هناك يتحركون بإيحاء من عقدهم النفسية، وحقدهم على الملونين! |
ـ قلت: أكمل الحكاية! |
ـ قال: آه.. لقد خرج صاحبي في المظاهرة، وجاءته الرصاصة من الخلف فسقط على وجهه مضرجاً بالدماء.. كانت الرصاصة موجهة إليّ أنا بالذات، ولكن أخطأتني وإن كادت تميتني لولا أنهم أسرعوا بإجراء عملية لصاحبي ليس لإنقاذه من الموت، وإنما لأخذ قلبه - أخذي أنا من صدره - وكان سبب موته تجلط الأوعية التاجية التي تغذي عضلتي، ولو بقيت في صدره فترة أطول لتوقف نبضي! |
ـ قلت: قل لي يا قلب.. هل أحب صاحبك الزنجي.. أقصد هل خفقت مرة بشدة وورطته في حب؟! |
ـ هدأ القلب المزروع نوعاً وقال: إيه.. دنيا..! تصور لقد كانت هناك فتاة شقراء من البيض تجري خلف صاحبي.. ترجو وصاله، وتأمل في وده وحبه. كانت ابنة رجل من البيض يخرج لقمع مظاهرات الزنوج وفي يده بندقيته، ولكنها وقعت أسيرة حب صاحبي.. طاردته في كل مكان، وكان يشيح عنها.. لقد تفاقم - أنا قلبه - حقدي على الأبيض، فلم أنبض بحب لها. كانت في نظري كما فأر أبيض. لقد نبضت بحب فتاة ملونة من لون صاحبي.. كانت زميلة له في المصنع الذي يعمل فيه، وكانت مضطهدة مثل صاحبي وتكافح معه ومع الملونين لتأكيد حقهم في الحياة.. لكن تلك الفتاة التي أحبها صاحبي بخفقتي أنا.. سقطت قتيلة في مظاهرة قبل سقوط صاحبي بيومين! |
ـ قلت: وماذا فعل الفأر الأبيض.. أقصد الفتاة الشقراء؟ |
ـ قال: لم تكن تعنيني كثيراً.. لقد ضاعت في زحام البشر! |
ـ قلت: وكيف تجد الحياة اليوم في صدر هذا الرجل الأبيض؟! |
ـ قال: حياة عفنة.. ألم أقل لك؟ إن إحساسه خاب، كئيب.. إنه لا يسمح لقلبه أن يحب بل عوّد قلبه القديم على الحقد - كعادة اليهود - وهو أيضاً لا يسمح لقلبه أن يعمل.. بالقدر الذي يترك العنان لأفكاره أن تستطرد وهو يفكر في النقود والتجارة والثروة، على الرغم من العتي في عمره! |
ـ قلت: وما هو شعورك نحو زوجته، وأهله، وأحبائه؟ |
ـ قال بابتسامة ساخرة: إن العلاقة الزوجية بزوجته يبدو لي أنها تبلدت من زمن، من قبل أن يتعطل ويسوس قلبه الأصلي.. يخيل إلي أنه يعامل زوجته كما يعامل أخته التي تكبرها في السن!.. ويعامل الناس كما يفحص مجموعة أسنان في الفم.. يخلط بينهم أحياناً فيقلع السليم ويترك المسوس المنخور! |
ـ قلت: ولماذا لا تجعله يحس بروح جديدة.. أليست هذه وظيفتك؟! |
ـ قال: لا.. وظيفتي التي تقول عنها كانت خاصة بصاحبي الحقيقي، أما هذا فيكفيه مني أنه يمشي، ويتكلم ويعيش.. إن هذه الأنماط من الناس لا يهمها الإحساس كثيراً، وإنما هي تتكالب على المادة، والحياة ذاتها كحركة! |
ـ قلت: أنت تحقد؟! |
ـ قال: أبداً القلوب لا تحقد.. ألم تقرأ بيتاً من الشعر قاله شاعر من عندكم؟! |
ـ ماذا قال: |
((اغضب فلولا الموج لما تكوّنت البحار! |
كن عاصفاً.. كن ممطراً.. |
فإن قلبي دائماً غفور))! |
ـ قلت: نعم.. هذا شعر نزار قباني. |
ـ قال: نعم.. وبالمناسبة، يقولون إن هذا الرجل قد يحتاج إلى قلب مزروع بعد فترة.. لأن قلبه قد استهلك! |
ـ قلت: هل ترضى لو خيرت أن تستقر في صدره؟ |
ـ قال: على أي حال.. هذا الرجل شاعر، وفنان.. وليس يهودياً (!).. ولكن ماذا تقول عنه بطلات قصائده عندما يعرفن أن في صدره قلب زنجي؟! |
واقتربت من القلب المزروع أقول له: |
ـ ألم تسمع ما قاله الأخطل الصغير في قلب مثلك؟! |
ـ قال: هذا الشاعر الذي قتل قلبه بقلبه؟! |
ـ قلت: كيف؟! |
ـ قال: لكثرة ما عشق الجمال! ولكن ماذا قال؟! |
ـ قلت: |
أيها الخافق المعذب يا قلبي |
نزحت الدموع من مقلتيا |
أفحتم عليّ إهراق دمعي |
كلما لاح بارق من محيا؟! |
|
- قال: أرأيت.. كلما لاح بارق من محيا.. يهرق دمعه، ويشجُن قلبه! |
ـ قلت: وصاحبك.. ألم يكن يحب الشعر؟ |
ـ قال: بلى.. إنه يحفظني شعراً حلواً.. لكن لا يمكن أن أسمعه لك الآن.. طالما كنت مزروعاً في صدر هذا الرجل المقعي في الحياة! |
ـ قلت: أريد أن أسألك - أنت القلب - متى يتحرك القلب ويحب؟! |
ـ قال: عندما يشعر أنه وجد خدينه وإلفه.. يتحرك، وعندما يثق القلب بنبضه.. يحب! |
ـ قلت: هذا كلام عادي.. كيف؟! |
ـ قال: عندما يجد الجمال الذي يغدق على النفس! |
ـ قلت: ألاّ يحدث أن يحب القلب القبيح؟! |
ـ قال: يحدث.. أنا أؤكد لك أن قلب هذا اليهودي الحقيقي كان ينجذب إلى كل قبيح! |
ـ قلت: لماذا؟! |
ـ قال: لأنه قلب قبيح.. فهناك قلوب جميلة مشرقة فتانة، وقلوب قبيحة كابية، جاهلة، وإلاّ.. هل هناك قلب فنان يرتضي هذه الزوجة الشمطاء؟! |
ـ قلت: ومتى يكره القلب؟ |
ـ قال: القلب لا يكره.. إن الكراهية توحي بها النفس عندما تجفل من إنسان! |
ـ قلت: أخيراً.. ماذا تريد مني أن أتمنى لك؟! |
ـ قال: تمنَّ لي أن أستطيع القيام بمظاهرة داخل صدر هذا الرجل.. تؤثر على الدورة الدموية، وتسد التجويفات هنا.. فأنا لا أستطيع أن أبقى.. إلا في صدر إنسان يحب! |
|