واحد مضيء.. جداً |
إنها رؤية جديدة سرقتني من أمواج النفس.. أخذتني إلى شواطئ تمنح الهدوء وتغتسل في الضوء.. |
تركت الوهم يتعرى ويتطوح، ويغرق بعد ذلك منتحراً!! |
إنها محاورة بين شفتي الحياة.. عندما تكون للزمن بسمة، وللعمر رؤية، وللخفق وجيب يعلو فوق تحديات الألم، والعجز وغموض الجنون!! |
إنها ذات ليلة.. همس فيها الشجن ففاض على حفافي النفس، وتبلور البوح نبراساً يشق ضياؤه انكسارات الظلال المتكدسة.. فكان الحوار بين اكتشافات النفس وبين حدودها.. كان الحوار بين إلحاحات الصعوبة، وبين سيادة الإحساس!! |
ـ كان الابتداء سؤال: هل أنت متأكد من صدق ما تحدثت به شفتاك؟! |
ـ جواب: إنني أشعر به نوراً يبدد غربة النفس التي قد يعانيها المرء زمناً.. عندما ينبت الضياع في ((مقر الحواس)) وهذا الشعور لا يكذب.. ذلك أن الحواس لا تقدر على هذا الإرهاق المكثف بدواعي الاحتمال للحاجة في الحياة! |
ـ سؤال: قد يكون الوهم نوعاً أو إنعكاساً لشعور بـ ((الإيروسية)) أو ما فسرته أجيال ما بعد اليونان بأنه: (الرومانسية.. الممزوجة باليأس والألم والمرارة)؟! |
ـ جواب: لقد تفاعل بها شعور الإنسان فجعل منها حياة مرغوبة.. بمعنى أن التأمل هنا ليس مرضاً وإنما هو صحة رؤية.. تؤكد أن ((الانتظار هو الأمل دائماً)).. ثم تتخطى هذه النظرة حدودها.. فيصبح الشعور هو حياة لا بديل لها. المعاناة المجسدة في الدمعة، وفي العشق وفي سيادة العاطفة، وفي محاورة العقل.. كل ذلك يؤدي إلى حصيلة من اليقين، ومن الأمان، ومن التعمق في العطاء!! |
ـ سؤال: لنقترب قليلاً.. نحاول أن لانخلد في الوهم.. ذلك أن ((بروست)) يقول فيما قرأت له: (إن العواطف وهم من الأوهام) فأنت لا تثبت إحساساً واضحاً، ولكنك تتمادى في الوهم وتعتقد أن شعورك يتحدث، ولكن هذا الصوت هو رغبتك فقط، أو استئثارك لمتعة وقتية ينصرم بها وقتك الفارغ.. فتسمى ذلك عاطفة! |
ـ جواب: أن يتعذب الإنسان من أجل فكرة.. هذا ليس عاطفة فقط، وإنما يقين بهدف كبير يسمو في الروح ويتعاطف مع الرؤية النظيفة، ويتمازج مع القدرة الإنسانية في أعماق الإنسان لكي يحقق بعض ما حُرم منه، وبعض ما ينتظره بالأمل، وبعض ما يشعر بفقدانه من حياته. |
إن تفجير القدرة على البذل لا يمكن أن تكون حالة، أو وهماً أو غروراً عاطفياً.. بل تصبح مشقة إثبات أن توجد فرصة مخبأة في الأمل أو محتجبة خلف العجز! |
ـ سؤال: إنك تحاول إقناع الإصغاء لك.. لوجدانياتك.. لفكرتك التي تناصرها من أجل أن تغنم شيئاً لا تعرفه، لكنك - ما يدريك - ربما إذا عرفته نفرت منه، وقذفت به كالنواة وأحسست أن هذا الذي اكتشفت لا أكثر من تجربة خضعت لوقت معين، وتبددت معه؟! |
ـ جواب: إن هذا الخوف هو محاولة بلا شك للقفز فوق اليقين. |
إن تكهنات الإنسان متشعبة.. هي الحيرة وهي الاضطراب، وهي الرغبة، وربما كانت هي العاطفة.. غير أن التصرف في الخوف هو حسي.. قد تقوده ((التلباثية)) - الحاسة السادسة - وبالتلبثائية يحمل الإنسان أشياءه فوق طاقتها.. يضخم الأشياء، ويدعها تتحدث بصوت السعادة تارة وبصوت اليأس تارة أخرى.. أي أن الإنسان هنا محكوم بالتوقع، وهذا لا يقود الأدلة إلى مزيد من العطش.. لقد قيل: ((إن كل ما يصنعه الإنسان في الحياة محاولات لحل ألغازها.. لعلّه يصل إلى السعادة في النهاية))!! |
ـ سؤال: لكن، كيف نبلغ حدود السعادة، وأهدابنا مبللة بالدمع.. كيف نصل إليها ونحن نعايش الإعياء؟ إننا نحلم كثيراً ونتصور هناءاتنا في اختلاسات للفرحة نفعلها ونرضى بها، ثم نعود إلى شيء يسمى ((مشقة إثبات أنه لا يوجد))؟! |
ـ جواب: ولماذا نقتنع بأنه لا يوجد ما تستلهمه الروح في ماديات الحياة الكثيرة؟! |
إن التوافق بين متناقضاتنا عسير حقاً.. ولكن بالإمكان أن نحول التناقضات إلى اكتمال آخر في رؤيتنا. |
بمعنى أن نجعل المحاولة متحركة.. |
والاستلهام إثبات. |
والتضحية خطوة في طريق اليقين! |
ـ سؤال: إنني أقرأ عليك هذه العبارة المنقولة: (هل قرأت قصة الثعلب الذي أراد أن يصل إلى العنب فلما أعياه الوصول إليه قال هذا حصرم)؟!.. أخاف على رؤيتك أن تتشوه، أو أن تصطدم بالتعري، أو بالحقيقة.. لحظتها لا تقدر أن تستفتي وإنما أنت تتخذ قراراً صارماً يشرخ الحب ويصدع مشاعرك ويحيل التجربة عندك إلى مجرد خطوة فقط؟! |
ـ جواب: أقول لك شيئاً: |
إن العجز ليس هو الحقيقة.. |
وإن الاكتشاف غير الشعور.. |
وإن الحب لا يكون الآمر واحده.. فإذا أحببنا لا نقدر أن ((نفاضل))، أو نتوقف، أو أن نبدل الانطباع الأصيل. |
أعطيك مثالاً للاستمرارية ولليقين: |
هذه ((أوتا أونيل)) زوجة شارلي شابلن منذ عام 43.. أحبته، وترسخت في ضلوعه، فكان عمره أربعة وخمسين عاماً، وكانت في الثامنة عشرة.. لكن الرؤية كانت مكتملة وكانت أصيلة.. زوّجهما الحب، وحافظ عليهما معاً، وأنجبا في إطاره ابنتهما ((جيرالدين)) وسبعة أبناء بعدها.. ولم تختلف الصورة، ولم تبهت!! |
وبعد هذا الزمن تزحلقت ((جيرالدين)) في كرسيها، وقالت: ((إن ما يدعو للدهشة والسعادة أن ترى والدين كأبي وأمي يحب كلاهما الآخر بهذه الدرجة من الجنون.. إنهما لا يفترقان ولا يغضبان كأنهما في عالم غير عالمنا))!! |
ـ سؤال: لا تتحدث عن اللذين غطّا شفاههما في النبع.. كيف تكون ((سيد عواطفك))؟! |
ـ جواب: بأن تكون عواطفي هي سيدتي.. |
إنني بذلك أبلغ اليقين.. |
وحينذاك لا تقدر التلباثية أن تكذب، وإنما هي تتفاعل بما في إحساسك من عطاء ومن غنى. |
ـ سؤال: كيف تعطي وأنت عاجز؟! |
ـ جواب: عندما أستطيع أن أعطي ينتفي عجزي. |
إن الحياة معان، وليست حكاية تبتدئ وتنتهي!! |
إن الموت لا يشكل النهاية دائماً! |
ـ سؤال: هذه هي ((الإيروسية)) أو الرومانسية.. كيف تضعني قريباً من الماء وتطلب مني أن لا أعب وأشرب؟! |
ـ جواب: إنه لا أحد قادر على منعك، ولكن المطلوب منك أن تفعل بإرادتك، وبخطوتك، وبمساحتك! |
إنه لا شيء يبدو ممنوعاً في الحياة، ولكن توحُّد اهتماماتك هو السحر، وهو الايجابية! |
ـ سؤال: هذا كلام نظري، إنه خيال عظيم.. فهل تطلب مني أن أطوع الحياة للخيال؟! |
ـ جواب: هذا جدل منك. |
إن الخيال يتسرب إلى أغلب تصرفاتنا، ولكني لا أطلب منك هنا أن تتخيل، وإنما لا بد أن تنتضي آلامك وتجليها وتحركها. |
لا بد أن تتخذ خطوة إيجابية.. إما أن تتقدم ولا تلتفت إلى ما يقال، وما ينتج، وما يتحول إلى رواسب.. وإما أن تتجمد وترضى بما أنت فيه، فلا تطالب بما هو مرهق لاحتمالك، وبما هو فوق طاقتك! |
ـ سؤال: ماذا تقدم للحياة إذن؟! |
ـ جواب: أقدم لها وقوفي، وإصراري ويقيني، |
وبذلك سأكسيها قيماً، ولغة، وشعوراً. |
إنني أقدم احتراقي لأشعر بالضوء.. هذا يقين وحصيلة!! |
* * * |
وكانت التفاصيل تبدو ((مناسبة)) لا أكثر. |
إن ما يملأني ويعطيني هو الأبعاد والدخائل، والماورائيات. |
إنني لا أتعب من الانتظار، ولأن تحديقي لا يصيبه الإعشاء والترمد، سيطول الوقوف.. فالمساحة متسعة بالأمل وبالحب وباليقين.. وسيكون! |
|