واحد قمر ... جداً |
على الدروب الطويلة يضيء القمر فيؤنس الساري! |
في ليالي الشوق ينعكس نور القمر، وفي ظله يتعاطف الصدى وتسهر العيون، وقد غرب عنها الكرى، مشرعة شاخصة إلى ((زورق الفضة)) على صفحة السماء! |
والقمر رقرق قلوب كثير من الناس.. كانت أشعته تغسل الشوائب في النفس.. تغمر الذات بالطمأنينة والحب.. ويحتضن هو كل النظرات المتجهة إليه. وكلها نظرات ألم الحب .. ونظرات السارين في دروب الوحدة.. ونظرات الذين فقدوا الهجوع! |
ومن قديم.. وحتى الآن برغم الصورة البشعة التي نقلها علماء الفضاء عن القمر، لازال الناس ينطرحون تحت ضيائه شاردين في تأمل عميق! |
ولم يزل الاحتفاء بموكب القمر في لياليه المعروفة.. احتفاء مستمراً لم يؤثر عليه حتى ((منطق)) العلماء.. والناس يستمرون يرددون مع أم كلثوم: |
هلت ليالي القمر تعال نسهر سوا |
في نور بهاه |
|
وفي الأغاني.. أحب الناس أغنية حديثة في محيطنا وأقبلوا عليها.. كأنهم بذلك الإقبال يخرجون ألسنتهم لكل محاولات الوصول إلى سطح القمر.. ويغنون: |
يا قمر شوف الحبايب |
كل واحد له رفيق |
إلا قلبي مالو صاحب |
ماشي وحدي في الطريق |
|
لقد جعلوا من القمر محكمة استئناف للمحبين، وملاذ ((التعبانين)) من الحب! |
ومن قديم.. حفظ الناس على مر العصور بيتاً شعرياً تصويرياً للشاعر عبد الله بن المعتز القائل: |
وانظر إليه كزورق من فضة |
قد أثقلته حمولة من عنبر |
|
مساكين المحبين، حتى آلمهم يحملونه القمر.. يصفونه بالعنبر! |
وشعراء كثيرون تغزلوا في القمر الحقيقي، وفي القمر مجازاً! |
ولكن هناك أيضاً من هجاه وذمه.. فقال ابن الرومي: |
يا بدر أنت تغدر بالسار |
ين وتزري بزورة الحسناء |
كلف في شحوب وجهك يحكي |
نكتاً فوق وجنة برصاء |
يعتريك المحاق ثم يحليك |
شيبة القلامة الحجناء |
ويليك النقصان في آخر |
الشهر فيمحوك من أديم السماء |
فإذا البدر ينسل بالهجو هل يأ |
من ذو الفضل ألسن الشعراء |
|
أجل.. ابن الرومي أراد أن يرسل شؤمه إلى القمر أيضاً.. لكنه لم يستطع في النهاية، فقال: هل يأمن ذو الفضل ألسن الشعراء؟! |
وكان بهذا يعترف أن القمر من ذوي الفضل!! |
وجمعت معي بعض المعايب التي قيلت عن القمر، وفيه، والمشاكل الجديدة التي أكتنفته. وغمرتها في نظراتي ذات ليلة من ليالي النصف.. |
وجلست أتطلع إلى القمر وهو في موكب رائع فاتن.. كنت أريد أن أتحدث معه، أعرف منه أشياء كثيرة غامضة. وأناقشه في مشاكله مع سكان الأرض، ومشاكل الناس على الأرض معه! |
إنه لا يعرف - عندما سألته أول سؤال - ماذا أعني بالتحقيق الصحفي؟.. إنه يعرف فقط التصوير العلمي الذي استخدمته واستفادت منه الصحافة يوم نشرت صوره.. وفضحته وكشفت سرائره وبواطنه.. كان يبدو غاضباً.. وعصبياً، وكان يقول: |
ـ هذه منكم يا سكان الأرض؟ أنا أحنو عليكم، أواسيكم في وحدتكم.. أضيء دروبكم.. أمنحكم بوجهي راحة نفوسكم.. أرقرق قلوب من تحبونهم. وأنتم - بطبيعتكم - تجرون وراء الأسرار.. تعكسون الجوانب البشعة في داخلي.. لماذا تبحثون عن الجوانب البشعة فقط؟! |
ـ قلت له: بالعكس.. نحن نحبك أكثر، وهذا الحب هو الذي دفعنا أن نرتاد الفضاء لنصل إلى سطحك.. نعرفك أكثر وعن قرب وملامسة.. ألا تعرف يا - يا قمر - أن الذي يحب يصر أن يعرف كل شيء عن محبوبه. حياته. تصرفاته. سلوكه. جوانب الجمال فيه. معايبه. نفسيته.. أعماقه؟! |
ـ قال: هذا فضول الإنسان، مع أن السكان هنا على سطحي يقدِّرون كوكبكم. يتطلعون إلى الأرض بإعجاب.. والذي يحب هنا يقول لحبيبته متغزلاً: أنت وجهك زي الأرض.. وبهذا يمتدح جمالها! |
قلت في سري: أية أرض هذه؟.. ورفعت صوتي أقول له. |
ـ أريد أن تصف لي نفسك.. طبيعتك.. أعماقك.. ماذا فيك؟ |
ـ قال: حتى تفضحني عند سكان الأرض؟.. ومع ذلك فقد أحسست أن جسمي يتألم بما وصل إليه من صواريخ ومركبات.. إن القذائف العلمية أهلكتني.. ألم تقرأ ما قاله عالم أمريكي لديكم على الأرض؟! |
ـ ماذا قال؟! |
ـ قال العالم: إن القذائف العلمية الأساسية التي يمكن إطلاقها من الصاروخ ((سنتور)) تجعل من الممكن الحصول على نزول لين بالمعنى الصحيح إلى سطح القمر)). |
ـ قلت ضاحكاً: هذا فأل.. دليل أن الناس يحبونك لأنهم يريدون أن يكون النزول على سطحك ((ليناً)). |
ـ قال ساخراً: إن الناس يحبون أنفسهم.. إن النزول اللين يخدمهم هم حتى لا تتحطم مركباتهم، ولا يفقدون رجالهم.. ولذلك بدل أن يستعمروني بعد خمس سنوات يستعمرونني بعد سنة.. صدقني إن كل الذين يحاولون الوصول إلى سطحي هم استعماريون.. إنهم يضحكون عليكم في الأرض بالأسلوب العلمي، وهذه أحدث موضة للاستعمار! |
ـ قلت: دعنا من هذه الصورة فأنا هارب إليك.. إلى هدوئك.. إلى ضيائك فلا ((تغم)) نفسيتي! |
ـ قال ضاحكاً: لا تهتم.. أنا متسامح، إنما قل لي.. أنت من سكان أية منطقة في الأرض؟! |
ـ قلت: من منطقة الشرق الأوسط (!). |
ـ قال: ها.. من أجل هذا نفرت من الحديث عن الاستعمار، لأنكم تكتوون بناره في المنطقة. |
ـ قلت: أنت تقول إنك متسامح.. فما دليلك على ذلك؟! |
ـ قال: دليلي من عندكم. ألم يقل أحدكم يا سكان الأرض: ((إن يبغ عليك قومك فلا يبغ عليك القمر))؟! |
ـ قلت: هذا مثل عربي.. هذا دليل حبنا لك! |
ـ قال: وقلتم مثلاً آخر يختلف.. هو ((أضيع من قمر الشتاء)) لأنه لا يجلس فيه ولا إليه أحد! |
ـ قلت: البرد قارس أحياناً.. والإنسان لا يتحمل الارتعاشات القوية! |
ـ قال: وهل هناك أقوى من ارتعاشة القلب عندما يحب، ومع ذلك تتلاعبون بقلوبكم أحياناً حتى وهي ترتعش! |
ـ قلت: لحظتها - يا قمر - لا نفكر إلا كيف نزيد تلك الارتعاشة! |
ـ قال ضاحكاً: أنتم معذورون.. فكل أدوات التعبير الملموسة عندكم.. أول شيء تفعله: الارتعاشة! |
ـ قلت: وبعدين معاك.. لتكن لطيفاً كعادتك!! |
ـ قال: إذن غيّر الموضوع.. فأنتم يا أرضيين لا تتحملون حقائقكم! |
ـ قلت: يقولون إن طبيعة مناخك قاسية.. فماذا تقول؟ |
ـ قال: ((إن نهاري يبلغ الأسبوعين طولاً، ويتعرض سطحي في هذا النهار لشمس ساخنة محرقة.. وهو السطح المضيء، وترتفع درجة الحرارة عند خط استوائي إلى أكثر من درجة غليان الماء عندكم))! |
ـ قلت: ومتى يحدث عكس ذلك؟! |
ـ قال: (يحدث عكس ذلك أثناء الليل الطويل إذ يبرد السطح بسرعة كبيرة، فليس هناك طبقة عازلة من الهواء، ولهذ تهبط درجة الحرارة إلى 240ف وهذا المدى يبلغ نحو ضعف المدى الحراري المطلق الذي سجل على سطح الأرض في تاريخها الطويل). |
ـ قلت: على مهلك.. توقف. كيف عرفت هذه المعلومات عن نفسك؟ |
ـ قال باسماً: ألم تقولوا أنتم رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه؟! |
ـ قلت: صحيح.. ولكن هذه المعلومات وزعتها إدارة الأبحاث الأمريكية من سنوات! |
ـ قال: تريد أن تقول أني أمريكي؟! |
ـ قلت: ليس هذا.. وإنما لعلّ معلوماتك عن نفسك أمريكية! |
ـ قال: إذن أسمع وتعلم.. ((القمر خالٍ من الهواء الجوي.. لذا يتعرض الإنسان إلى أشعة الشمس المباشرة فيكون هناك إشعاع شديد من الأشعة فوق البنفسجية. وبعض الأشعة السينية الشمسية))! |
ـ قلت: ماذا في هذا الكلام؟ |
ـ قال: كلام علماء الروس! |
ـ قال: إخِّيه - بتشديد الخاء - إذن فأنت شيوعي. حتى القمر يحاولون جعله شيوعياً؟! |
ـ قال: لا شيوعياً.. ولا أمريكياً، ولكني مشدود من الطرفين.. كل فريق يريد أن يأخذني في أحضانه قبل الآخر! |
ـ قلت: وأنت ماذا تريد أن تكون، أو إلى حضن من تلوذ؟ |
ـ قال: شوف.. الحضن الشيوعي يمحي الشخصية. وينكرني في النهاية فلا يعد للناس قمر بعد ذلك، والحضن الأمريكي يضعني في فترينة بديكور، ويكتب على وجهي: U.S.A بحجة أنه يحميني من الآخرين! |
ـ قلت: قل لي يا قمر، ما رأيك في لجنة ((سيتكس)) التي كوّنتها أمريكا من سنوات لتبحث في نتائج العدوى التي يخشى أن تصيب القمر والكواكب عن طريق البعثات الأرضية؟! |
ـ قال: والله هي عدوى بلا شك.. فأنتم يا سكان الأرض مشاهدتكم عن بعد أكثر سلامة من الاختلاط معكم، ولهذا فأنا في داخلي عراقيل ستتعب روّاد الفضاء وكذلك في الكواكب الأخرى. والسبب أننا لا نأمنكم ونعتقد أن فيكم وباء لا يصح أن يصيبنا! |
ـ قلت: على هونك يا قمر.. أرد عليك بحقيقة عملية أخرى فلقد قالوا: ((يجب حماية المكتشفين في القمر ضد الأشعة الضارة.. ولذلك فإن الآلات التي تسجل باستمرار في المحطات القمرية ستعطينا المعلومات الضرورية عن هذه الأخطار قبل أن يضع الإنسان قدمه فوق أرض القمر!)). |
ـ قال: ربما أعطتكم آلاتكم المعلومات.. لكن ذلك سيكلفكم كثيراً حتى تصلوا!! |
ـ قلت: نغير الموضوع، فحدثني عن الحب على سطحك؟! |
ـ قال: عندنا جميلات مثل الأرض! |
ـ قلت: وبعدين معاك؟ الأرض حجارة ومستنقعات وجبال وأتربة. |
ـ قال: ألم تقولوا أن في القمر أيضاً جبالاً وحجارة وإشعاعات قاتلة.. ومع ذلك أتيت إلي.. تتأملني وتسألني وأنت شحنة شجن؟! |
ـ قلت: علماء الأرض قالوا: ((إن تحليل ترابك إذا لم تصبه عدوى من يد الإنسان فهو هيدروكاربونات انبعثت في الفضاء الكوني))! |
ـ قال: إن ترابي هذا هو تاريخي، وأنا لن أسمح لكم يا سكان الأرض أن تلوثوا تاريخي. |
ـ قلت: ول، أنت حمقان جداً!! |
ـ قال: أنا أدافع عن تاريخي! |
ـ قلت: طيب. قال العلماء إن الإنسان على ارتفاع 50 ألف قدم لا يفقد قابليته للحب.. فكيف يكون الحب عندك؟! |
ـ قال: الحب هنا التئام.. إن كل السكان متمرسون على أنواع الرياضة البدنية، وعلى الانزلاق المستمر، فخطوات السكان هنا كلها انزلاق! |
ـ قلت: يا حلاوة يا قمر على الانزلاق في الهواء! |
ـ قال: أما في الأرض فأنتم تنزلقون على أهوائكم ورغباتكم، ولهذا فقد أرادت امرأة من عندكم مرة أن تهرب وترضى أن تصعد في مركبة فضائية، وتجرب انعدام الوزن - إنما على خفيف - ولو قدر لها أن تخرج في الفضاء من مركبتها لأحبت الانزلاق في الهواء. فهو يقرب الاثنين بعضهما إلى بعض.. دائماً. أما انزلاقكم في الأرض فهو يبعد الاثنين دائماً. وبسبب انزلاقكم تأتون.. وتتطلعون إلى ضيائي. وتشكون قلة بختكم.. وهجران أحبائكم عنكم! |
ـ قلت: لكن هذا لا يمنع من الاقتناع بحقيقة تقول: إننا نحب! |
ـ قال: تحبون على طريقتكم، ثم تتأوهون وتنوحون وتقولون غناء: ((يا قمر: ايش حصل بيني وبينك.. حتى عن عيني تغيب))، فيا أيها الأرضي أنا أرفض الاستجداء في الحب، فكونوا سماويين! |
ـ قلت: عندنا حب الروح.. ألاّ تعرف عنه شيئاً؟! |
ـ قال: نعم نعم.. يذكرني هذا بحكاية طريفة شاهدتها من علوي، فقد كان أحد المحبين طافشاً مهموماً حزيناً.. اختلف مع حبيبته، أو هي تركته لتذيبه، فجاء إلى نافذته وجلس يتطلع إليّ، والدمع يترقرق في عينيه، فسطع نوري عليه.. منحه صبابة وطمأنينة، وأخذ يفكر، ويستغرق في تأمله.. ونام على حافة النافذة. وفي الليلة الثانية رأيتهما معاً - هو وهي - وضحكاتهما تشوش عليَّ جلال الهدوء من حول نوري على الأرض! |
ـ قلت: يا سلام.. شيء حلو؟ |
ـ قال: مبسوط؟! مساكين.. فرحتكم مستعجلة، وغضبكم عاجل! |
ـ قلت: ومن الذي يحب يا قمر؟! |
ـ قال: الذي يبكي! |
ـ قلت: إذن.. الدموع في رأيك هي تعبير عن الحب؟! |
ـ قال: الدموع هي حدقات الوجدان، فبعدما يبكي الإنسان يرتاح ويبصر أكثر. |
ـ قلت: عجيب.. ومتى يحب الإنسان؟! |
ـ قال: يحب.. عندما ينكر ذاته! |
ـ قلت: ولكنهم يقولون: الذي يحب يترف نفسه، والذي يترفها يحب نفسه.. وهو الأناني! |
ـ قال: الأنانية عندكم في كل شيء، فقط.. تختلف أبعادها، ومفعولها، ودوافعها.. فهناك أنانية مضيئة! |
ـ قلت: لا تجنني! |
ـ قال: لقد جن غيرك، ولكني عرفتكم جيداً يا سكان الأرض! |
ـ قلت: والحب عندكم هنا.. أليس فيه أنانية؟! |
ـ قال: عندنا الذي ينزلق على الهواء منفرداً دون أن يلتم بمن يحبه أنانياً! |
ـ قلت: عال!.. تعني أن الانزلاق على الهواء طموح؟! |
ـ قال: أبداً.. إنه طبيعة الحياة، والذي لا يشارك في هذه الطبيعة.. إنسان أناني؟! |
ـ قلت: ولماذا أناني؟.. هل الانزلاق على الهواء منفرداً متعة، ويجب أن يشترك من يحبه في هذه المتعة؟! |
ـ قال: بالضبط! |
ـ قلت: طيب.. أليس كل واحد يستطيع أن ينزلق بمفرده؟ |
ـ قال: إذا لم يكن يحب لا يستطيع (!) |
ـ قلت: عجيب!.. إذن كلكم تحبون!! |
ـ قال: أليس هذا موطن القمر، والقمر هو ملاذ تحضر العشاق والمحبين؟! |
ـ قلت: يا قمر تسلم لي عينيك!! |
ـ قال: إذا أردت أنه تعود إليَّ ثانية فلا تحضر منفرداً - وحدك، فسأرفضك!! لا أريدك صحفياً بورق فقط! |
ـ قلت: لكني جئتك وفي صدري قلبي.. وفي قلبي وجداني كله! |
ـ قال: هذا لا يكفيني.. فأنا أعبر عن ((طموح)) الحب والمحبين! |
ـ قلت: سأنادي الآن تحت ضيائك: |
هلت ليالي القمر... تعال |
نسهر سوا.. في نور بها، |
* * * |
|
|