واحد شيطان... جداً |
في وسط الزحام.. |
وبين جلبة الأصوات التي اختلفت في لهجتها، ولغتها.. وفي محاذاة تلك الأكتاف الملونة غير المتناسقة.. كان يسير، وفي أعماقه يتردد صدى صوت شيطاني يوسوس له: |
لقد كان يصغي إلى الصدى في داخله.. لصوت لم يتبين مصدره.. إن نفسه لا توسوس له بمثل هذه الأفكار! |
إنه الشيطان اللعين.. وفي يوم ضَرْبِه بالحصا؟! |
لقد كان الشيطان يقول له في تلك اللحظة: يا أخي أرمي الحجارة وأركب سيارتك، وأذهب إلى بيتك بلا وجع دماغ! |
ـ ويتلفت حوله.. ويرد على الصوت: أنا لست أخاً لك يا شيطاناً يا مريداً، وسأكمل حجي، وأؤدي ما يتوجب عليّ كمسلم! |
ـ ولكنك شاب، وفي إمكانك أن تؤدي الحج في أوقات كثيرة! |
ـ ولكني لا أضمن عمري.. ربما انتهت حياتي غداً؟! |
ـ ولا يهمك.. كل شاب يموت هو شهيد! |
ـ ايها الشيطان الملعون.. من أين أخرجت كلامك وأتيت به؟ |
ـ لا يا عم.. ليس كلامي هذا، لقد قاله إنسان مثلك. كل شاب يموت هو شهيد.. هكذا سمعت! |
ـ طيب حل عن نفسي وفارق.. أنا أرفض أن أكون شهيداً بالصورة التي تصفها! |
ـ على كيفك.. أنتم هكذا، ترفسون النعم بأرجلكم.. وإلاّ لو تسمع الكلام الآن تروح تنام في بيتك.. يا سلام. شيء لطيف! |
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! |
* * * |
ويسير في شوارع ((منى)) يتلفت حوله، وبين يديه مجموعة حصوات صغيرة منتقاة، وفجأة يسمع في داخله صوتاً: |
ـ شوف.. شوف!! |
ـ فيه إيه كمان؟! |
ـ يا ولد الناس اعتدل، خليك شباب بصحيح.. شوف الجمال اللي قدامك.. يا حلاوة! |
ـ أشوف إيه.. إلهي تنطص على عيونك يا شيطان الكلاب! |
ـ لا.. لا.. سفاهة ناس من أشكالك ما بيننا. أنا أفتح عيونك على النعيم يا بجم! الجمال قدامك. شوف وجهها قمر. شوف جسمها ((ملبس)) شوف.. |
ـ يا شيطان ابتعد.. بس (يصرخ وسط السائرين). |
ويجتمع حوله بعض السائرين، ويبدو وجهه متوتراً كمن صفع عدة صفعات.. ويأخذونه إلى مقهى قريب، ويدلقون على رأسه الماء، وهو يبدو مذهولاً.. يشير باصابعه إلى ((الجمرة الوسطى)) ويقول: |
ـ شوفوا.. شوفوا.. جميلة.. يا حلاوة. |
ويتخلص من حصار الناس، ويغيب في زحام جديد! |
وفي محاذاة تلك الأكتاف كانت يدي تقبض على الحصى لأرمي الجمرات، وكان يسير بجانبي في ذهول، في عينيه حملقة فارغة ليس فيها تركيز! وفي تفكيره - كما قدرت - أشباح آراء لم يكتمل نموها، ولم يحن مخاضها، وسمعته يقول لي بصوت خلته قد ضاع في هدير السائرين: |
ـ أين هو الشيطان؟ |
ـ قلت له: وإلى أين أنت ذاهب الآن؟! |
ـ قال: معك.. نرمي الشيطان! |
ـ قلت له: إن خطواتك هذه من أجل رمي الجمرات.. إنها جمرات هذه التي في يدك، وليست شيطاناً! |
ـ قال: أنا أعرف أن الشيطان ليس في يدي، وإلا لما كنت بجانبك الآن!.. لكني أيضاً لا أبصره أمامي. |
ـ قلت: إسمع يا صديقي.. لقد قال ((مارك توين)) مرة: (شكسبير والشيطان أعظم مجهولين - وبالتثنية -) ويخيل لي أن المرة الثانية سأقولها أنا بدلاً عن مارك توين لك أنت! |
ـ قال: لكنني لست مجهولاً.. إنني أبحث عن معنى لهذا العمل الذي نؤديه؟ |
ـ قلت: وتستغفر الله بعد أن تعرف؟! |
ـ قال: وهل ألحدت؟.. إن الله ربي ومحمد نبي.. غير أنني أبحث عن مزيد من المعرفة! |
ـ قلت: إن هذه الأبنية الثلاث التي تقف أمامها وتقذفها بالحجارة اسمها ((الجمرات)).. ليست هنا شياطين بمعالم بارزة ملموسة.. هنا رمز أقيم للشر ليتوافد عليه المسلمون في لحظات واحدة ذات توقيت.. في أيام ثابتة.. في هدف واحد ينحصر في مهاجمة أصل واحد. هنا وحدة هدف اجتمعنا بها، واستقطاب لمشاعرنا التي تتجه كلها نحو عدو واحد معروف مشترك! |
ـ قال: وماذا أيضاً؟ |
ـ قلت: ألا تحس الآن أن هنا وحدة هدف تجمع هؤلاء المسلمين كلهم للاتجاه نحو عدو مشترك تقذفه بالحجارة؟. هذا الاتجاه هو - في مفهومه - فلسفة كاملة رائعة، عن التقاء المسلمين في عمل واحد، وتخطيط واحد، ونتيجة واحدة! |
ـ قال: أحس ((برد)) الاقتناع يملأ جوانب نفسي هذه اللحظة، لكن.. ألم تقرأ كلمة أخرى ((لمارك توين)) الذي ذكرته.. يفلسف فيها عمليات الشيطان؟! |
ـ قلت: لنناقشها في هذا الجو. |
ـ قال: مارك توين كتب جملة على لسان الشيطان تقول كلماتها: ((إن الإنسان مصنوع من تراب، أما أنا فلست من تراب! الإنسان متحف للأمراض والأقذار.. فهو يأتي اليوم ويرحل غداً، ويبدأ كتراب، وينتهي كشيء نتن.. إنني من الأرستقراطيين الذين لا يفنون!)). |
ـ قلت: هذا بحث آخر دعني أناقشك من آخر كلمة في جملة شيطان ((توين)).. إن شيطانه يقول: ((إنني من الأرستقراطيين الذين لا يفنون)).. مع أن الفناء نتيجة حتمية واقعة بلا شك.. كل الطبقات، وكل العالم باتجاهاته وألوانه، ولغاته سينحدر إلى فناء، وساعتها لن يبقى مخلوق.. فناء عام ينهي كل ذرات الشيطان، ويعطل أعماله ووظيفته.. لكن ((مارك توين)) كما فهمته لم يكن يهدف إلى فلسفة وجود الشيطان.. بقدر ما كان يريد إيضاح الصورة التي تبرز حقيقة ((الإنسان)) الذي يملأ الوجود طولاً وعرضاً وهو قذر (!) |
إن الشيطان - يا صديقي - حقيقة معروفة، وقصة رواها لنا القرآن الكريم، وعنصر شك يفتك بكل ما يستطيع.. غير أن الإنسان ذاته لم يعرف - فيما يبدو - قيمة الحياة التي يعيشها.. فالحياة في تفكيره ونظراته مضطربة مشوشة كما خطوط القلب المضطرب تحت عملية جراحية.. لا يرى فيها وجوده.. إنما يخاف وجوده في هؤلاء الذين من حوله! |
إن الإنسان يعيش وحوله الآخرون يمارسون نفس المهنة، ويساقون إلى مصير، ومع هذا فإنه لا يفكر إلا في الأقذار التي حوله، ويصم، ويعمى عن الجمال، والطبيعة !.. عندما قال ((توين)) إن الإنسان متحف أمراض وأقذار فهذه هي الحقيقة!.. وإذا كنت تخالفني فاحمل معي مشعلك، وأبحث عن الأخلاق.. أين هي الأخلاق فيما حولك؟!.. سأرغمك على إطلاق نظراتك من حولك لتقدم لي دليلاً واحداً.. تستله من تصرف إنساني يتصف بالحب من إنسان شغلك كثيراً بصوته وكلماته التي يردد بها معاني الحب.. إبحث جيداً؟! |
ستجد أن الأخلاق في دنيا الإنسان تمر بأزمة حادة.. أزمة تمخضت عنها حرب يونيو ونتائجها. وارتفعت كثيراً عن مستوى أزمة ((بروفيومو)) وتميزت كثيراً عن الأزمة التي عانتها أمريكا أثناء اغتيال إبراهام لنكولن محرر العبيد في أمريكا، وأثناء اغتيال كيندي ذبيحة الصهيونية، وأزمة الأخلاق في اغتيال غاندي! |
إن هذا مستوى الأخلاق في تاريخ معاصر وقريب! |
إن الشفاه التي تنفرج كثيراً بابتسامة تدلقها على وجهك.. ليست سوى شفاه مطلية بالروج الذي يزال بالماء.. لتظهر من تحتها التكشيرة! |
إن أقنعة ((البلياتشو)) قد ارتفع ثمنها بسبب الإقبال الكبير نحوها من الناس! |
وليس هذا تشاؤماً وامتهاناً لإنسانيتي، وإنسانية كل البشر.. إذ لا يمكن أن كون أكثر من إنسان! |
وأعود بك إلى موضوع الشيطان الذي بحثت عنه في خطواتك.. إنك كنت تبحث لحظتها عن نفسك.. فقد كان الشيطان مواطناً أصيلاً في داخلها! |
ـ قال: ماذا تعني؟! |
ـ قلت: أعني أن يعطي كل واحد منا للآخر سبع حصوات، ويطلب منه أن يقذفه بها! |
ـ قال: لكني لا أقبل أن ترجمني بحصاة! |
ـ قلت: حتى الشيطان لا يقبل ذلك! |
|