شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
واحد إنسان... جداً
وحده كان.. تختبئ نظراته في رمادية السماء وهي تغتسل بأنفاس الليل القادم!
هناك.. حيث كان يتمنى، ويحلم، ويحيا ببعده الرابع!
وهناك.. حيث مات!!
بقي - وحده - يغزل آهاته.. يصنعها مثل شبكة الصياد، لتلتف حوله كله..
بجانبي كان ((وحده)) لا أنا، ولا حركة الناس على امتداد الشارع ولا الأضواء التي أخذت تتناثر وتعم وتتضح مع أولى خطوات المساء.. كلها لا توقظ معنى الحياة في وجدانه.. لا تهزه بعنفها وحقيقتها في تلك اللحظات التي يبدو فيها مرئياً وهو شيء ميت.. ميت!!
هناك.. حيث مات واستمر يمشي بين الناس في الشوارع المزدحمة وهو نعش يتحرك.. يرى ويسمع ويبتسم ويتصرف لكنه لا يبكي، فقد مات..
الأموات لا يبكون.. الأحياء فقط هم الذين يغسلون وجوههم بالدموع، فالدمعة حياة وإحساس، والأموات لا يحسون... لا تعنيهم ومضة تلوح من اهتمامات الناس.. لأن الموت أقوى من الدموع..
مات.. وهذه نتيجة!!
لكن لمن يعطي هذه النتيجة؟!
كان قد خفض بصره إلى الأرض، وكان يرغب أن يمارس موته بكل أبعاد الحياة التي يعيشها اليوم، وهو يرى ويسمع ويبتسم ويتحرك ولا يبكي!
وتكلم بعد هذا الإصغاء يحادث ((وحدته)).. فقال لها:
ـ عندما يكون الموت نتيجة، فلمن تعطى هذه النتيجة؟.. لقد تعودنا في حياتنا أن نعطي كل نتائجنا للموت!
ـ كيف هذا؟!
ـ أنت حينما تنجز عملاً وتنهيه.. ماذا تفعل بعد ذلك؟
ـ أفكر في عمل آخر..
ـ معنى هذا أن العمل الذي أنجزته انتهى.. خلصت منه... معناه أنه مات في نفسك، مات في اهتمامك. مات في نشاطك وحرصك!!
ـ لكني فعلت به شيئاً.. كسبت من ورائه.. جعلته على الأقل مقدمة لخطوة أخرى.. لعمل آخر أكبر، وأوسع..
ـ مبتسماً: تماماً.. تماماً هذا ما قصدته. كثيرة هي الأشياء التي نقصدها ونفعلها ولكنا لا نوضحها.. تماماً بهذا القياس عندما تكد وتشقى، وتتعب، ولهذه الأشياء أنت تستخدم حيويتك، وزمنك، وعمرك... تصنع وتنجز، وتنتهي.. تموت في نهاية عملك.. وفي نهاية كفاحك في الحياة، وأحياناً لا تملك النهاية الكبرى.. تموت في المنتصف.. في النهايات الصغرى مثل أن تعمل ويقتطعون من راتبك - كتقاعد - تتركه لأطفالك.. مثل أن تبني بيتاً وتخرج منه ليأخذه غيرك ممن لا زالوا أحياء لأنك انتهيت.. مت، وهذه نتيجة!!
ـ لكن.. هناك عملك الذي يخلد بمقدار عظمته، وأهميته، وجدواه لحياة غيرك، فلا تكن مغرقاً في الأنانية.
ـ ساخراً: صدقني لست أنانياً.. إن ما أسميته بالعمل الخالد - ذلك الذي يطلقون عليه خلفك - أي ما خلفته وراءك.. هو لا أكثر من بقايا طموحك.. بقايا جريك وركضك على أرصفة الحياة!
ـ والمشاعر كيف تنظر إليها هي الأخرى!
ـ إنها حقيقة الإنسان دون ريب، لا تثريب عليك إن جعلتني أتوقف - الآن - لحظة عندها.. إنها عزيزة، وغالية.. لكن.. هل تعرف المشاعر أين تكمن؟!
ـ مكانها الوجدان!
ـ هذا مكانها.. أما صوتها فهو الدموع!
ـ ولماذا لا يكون صوتها الفرحة.. الابتسامة؟!
ـ دعني أسألك.. لقد ضحكت، أو ابتسمت اليوم أكثر من عشر مرات.. هل كانت كلها تعبيراً أصيلاً لمشاعرك؟.. في إمكاننا أن نضحك.. أن نقهقه بيسر، فالإنسان مغرور، ويغفل.. لكنك لم تبك منذ أيام على الأقل!!
ـ إذا كنت فرحاً.. لا داعي لأن أستحلب دمعي!!
ـ لا يقدر أحد أن يستحلب دمعه.. التماسيح فقط هي التي تخدع.. أما الإنسان فتعز عليه دمعته.. لهذا كان الشعور دائماً صادقاً وكان الشعور قوياً.. لأن صوته الدموع!!
ـ لكن العواطف تنخذل أحياناً وبالدموع!
ـ لئلا نموت على أية صورة أو أي شكل يجب أن نكون أقوياء في مشاعرنا وعواطفنا، فلا نذرف الدمع أينما كنا، ولأي حالة، إن الدمع عزيز.. لأنه صدقنا وشعورنا.
ـ ومتى نبكي إذا كنا نكبح الدمع، ونمارس قوة إحساسنا به.. متى نبكي إذن؟
ـ لا زلت أحفظ آخر عبارة قالتها لي.
ـ من هي؟!
ـ تلك التي مارست قوة حياتها - لا قوة شعورها - بتجفيف وتحجير الدمعة.. من أجل أن تواكب معاشي على وجه الأرض.. تعيش مثلي، ولا تحيا، وتدير وجهها لئلا ترى ((النتيجة)) بمنتهى السخرية!
ـ ماذا قالت؟
ـ عبارة لا تغنيني اليوم بقْدر ما ((تهمني)) - أي تغرقني هما.. عبارة تقول: ((حينما تكون منابع الألم التي تفجر الدموع في النفس أقوى من كل قوة نمتلكها.. فنحن نبكي))!!
ـ كانت تخالفك فيما يلوح؟!
ـ فيما يلوح كانت مخالفة، كانت تلوي عنق الجواد الذي ركضت عليه ليقطع بها مسافة الزمن، ويعطيها أحد وجوه الاستيطان الاجتماعي!! غير أن الألم.. هو ذروة الإنسان!
ـ ولماذا لوت عنق الجواد؟!
ـ أرادت أن تؤكد - فقط - مقدرتها على لوي عنق الجواد!
ـ وإنسانيتها؟!
ـ عظيمة هي.. عظيمة بإنسانيتها، وربما كانت عظيمة حينما استطاعت أن تقطع مسافة الزمن، وتنال أحد وجوه الاستيطان الاجتماعي!
ـ أنت تحبها.. رغم أنك ميت!!
ـ وهبتها - ما تبقى - من الشعور بالحياة عندي.. فهي كانت تبحث في اللحظة التي كنت فيها قد انزلقت.. انزلقت بسبب ضحكات أو ابتسامات استنفدتها سريعاً، وقبل أن أتمكن من ذرف دمعة، حتى إذا وجدتها.. بهتت ضحكاتي، وتثلجت، وذرفت غزير الدمع.. علّه يتحول إلى مشرط يجرح أيامي، لكنه أصبح نتيجة.. بكل العنف، و... الرضا!
ـ نسيتك إذن؟!
ـ الذكرى مقدودة من الشعور.. لكنها تبدو من الأشياء التي ينتصر عليها الرماد، فيغطيها!
ـ وهل هذا هو النسيان؟!
ـ لم أقل ذلك.. إنه رماد يخفي الذكرى، وأنا لا أحب أن أجعلها تسمعني دائماً لئلا تتذكر أنها ((إنسانة)) معي. أحرص فقط - وبكل أنانية - أن أبقى معها أنا الإنسان!
ـ ألا يمكن أن تكون حقيقة شعورك هذا.. مجرد انقباض نفسي لا أكثر؟!
ـ تعني أنني نسيتها، وطمرتها تحت رماد الذكرى؟!
ـ لم أتوصل بعد إلى هذا اليقين.. ربما هو انقباض نفسي في صدرك فقط.. تتجرعه، فتظنه الموت!!
ـ مبتسماً: وماذا فعل الذين أحسوا بالانقباض النفسي؟
ـ كل أمرئ تعتريه لحظات من الانقباض النفسي، وهناك بعض المشاهير.. تحدثوا كيف كافحوه!
ـ من هم.. وكيف؟!
ـ الرئيس نيكسون - مثلاً يقول: ((إذا شعرت بانقباض نفسي جلست فوراً وراء البيانو، وعزفت بعض المقطوعات الموسيقية))، اليزابيث تايلور تقول: ((لدي وسيلة ناجحة لطرد الهموم والكآبة.. وهي أني آكل طعاماً مخلوطاً بتوابل حارة فيلتفت انتباهي إلى لساني!!)).
ـ تضحكني.. إن انقباض هؤلاء .. يرجع لأشياء ملموسة غالباً.. لأشياء مادية بحتة، فالأول انقباضه ليس في نفسه وإنما في أصابعه أو في سمعه، والثانية انقباضها في لسانها، أو في معدتها (!!).
ـ وما رأيك فيما قاله الفنان - انتوني كوين؟!
ـ ماذا نصح؟
ـ قال: ((أفكر بالزمان الذي كنت فيه أفقر الناس.. ثم أقارن بوضعي الحاضر، فأعترف لنفسي بأني تمتعت بحظ نادر، ويعود الفرح إلى نفسي))!!
ـ أتجاوز بك، وأعتبر كلام هذا الفنان معنوياً.. رغم حديثه عن الفقر، والغنى، وهذا لا يعتبر قضية ما دمت قادراً على العمل، وعلى إعطاء مزيد من عرقك المنداح.. لكني أتجاوز، وأقول لك إن ((أنتوني كوين)) إنتقل من زمن إلى زمن.. من حالة إلى حالة أخرى.. من حقيقة إلى حقيقة، لكني أنا تصلبت عند زمن معين يوم عرفت عطاء دمعتي، ولم أنتقل من حالة إلى أخرى.. فالحب ليس حالات.. إنه نقرة.. يقظة واحدة، ويبقى صداها، وصحوة من أحلام، وأماني، وتفاؤل مريح على حقيقة.. على ضرورة انطلاق جوادها حتى لو كانت عنقه ملتوية بعنادها هي!
ـ عش بالصداقة.. إن الفنان ((فاجنر)) له عبارة معناها: إن الصداقة أجدى علاج للحزن.. لقد كان ينادي أصدقاءه ويولم لهم في بيته كلما اهتم، وحزن!
ـ وبعد أن ينفض الاجتماع، أو الوليمة، ويعود كل واحد إلى مأواه، وتطفأ الأضواء القوية وتبقى أضواء الأباجورات والزوايا.. ماذا يحس لحظتها، وماذا يفعل؟.. ألا يعود إلى سيرته الأولى؟!!
ـ وما هي الأسباب التي أبعدتها عنك؟!
ـ لم تبعدها، وإنما أبعدتني أنا في البداية.. ثم ضيعتها بعد ذلك.. ضيعتها في صدى فرحة مشدودة على شفتين مبتسمتين!
ـ إحكي.. إطرح أوجاعك!
ـ لقد طرحتها.. إني حزين فقط، وهذا الحزن ألمسه حينما تطفر الدمعة من عيني. قد أعتقد أنني ميت للأبد.. غير أن الدمعة أحياناً تعطي فرصة التفكير.. التفكير على الأقل - في ماذا أحيا.. أو كيف أعيش!
ـ قنوط، وشقاء ويأس.. أنت معذب!
ـ أبداً.. العذاب لا أحس به، لأن ((الضرب في الميت حرام))!!
* * *
صمت. صمت آخر ثم استطرد يحادث ((وحده)):
ـ تريدني أن أحكي؟!!
ـ سأريحك بهذا البوح، وسأخلص منك حينما يعود مرحك إليك حتى نستطيع أن نقضي الليلة سهرة ((متعوب عليها))!
ـ البوح يريح لأول مرة، أما معي فلا جدوى.. إنني أبوح كلما تذكرت. فقل لي أين تريدنا أن نسهر الليلة؟!
ـ أنا هنا غريب في هذه المدينة الأوروبية، فهل تراني أجري وراء عيون المساء؟!
ـ المساء مغمض العينين دائماً.. عيوننا هي التي تشرع وترى في المساء!!
ـ أوه.. أرحني من استلهامات ذهنك.. أريد أن أسهر للصبح!..
ـ تسهر وسط صخب هذه المدينة، ونواديها الليلية، وزعيق موسيقى الجاز؟
ـ نعم.. ألديكم ما يمنعني أيها الأموات الأحياء؟!!
ـ بعض الموت حياة.. لا تضطرني أشعرك أنني أناقض نفسي فتتعبني في الشرح، والتوضيح!
ـ أنظر هناك.. إثنان يمشيان الهوينا.. مؤكد هما إلى سهرة!!
ـ سعداء.. إنهما في سهرة مستمرة.. ليس شرط أن تنحشر وسط الضائعين، أو المبذرين أو الفاقدين الهاربين بأوجاعهم بكل وكسة، وضيم.. أولئك الذين يصلبون جفون عيونهم فقط، يرقصون أحدث رقصة، ويدلكون أقدامهم بعد ذلك، أو ينامون ببدلة السهرة سكارى العقل والروح!
ـ اقتربت أنا من مرحلة الجنون بفضلك.. ماذا تريدني أن أفعل؟!
ـ تحس بإنسانيتك.. تعطي نفسك قيمة الراحة الحقة من وراء فكرة، ومفعول السهرة!
ـ كيف أشعر بإنسانيتي؟
ـ أن تتأثر بالصورة التي لفتّ نظري إليها قبل ثوان. أن يكون في مقدورك تحقيقها لزمنك.. لساعات ليلك، فالليل لا يحتمل إلا صوتين!
ـ أنت رومانسي.. خيالي!!
ـ أنا - فيك - إنسان عرفت الحب، ويؤلمني أن يضيع منك بسبب غرورك، وتفريطك، وشهواتك!
ـ لكن هذا ((سلوك)) يا صديقي، وأنا التزم بالسلوك طيلة النهار، وجزء من الليل، وأريد أن أتجرد من كل شيء يذكرني بالسلوك لمدة ساعة فقط.. لأحدث التغيير في نفسي.. لأستطيع أن أستكنهه، فالطعم الواحد يبلد!
ـ بعد الساعة.. سوف لا تعرف طعماً ولا ترى تغييراً.. سوف تنام بحثاً عن أقرب عطن!
ـ دعنا نسير في هذا الشارع.. تحت أضوائه الخافتة.. ربما.. ربما أضعتك، أو أضعتني، ويبقى اللقاء بعد ذلك - بعد الضياع - مؤثراً، وفعالاً وتغييراً!!
ـ هل لا زلت تذكر مفتاح حديثنا؟!
ـ جداً.. بدايته أنك مت، وهذه نتيجة!!
* * *
وقهقها هو، و... ((وحده)) يمزقان صمت الشارع الكبير!!
وأردف هو يقول:
ـ كنت أردد دائماً عبارة تقول: المهم أنني إنسان.
ـ وماذا كانت النتيجة؟!
ـ (يمسح دمعة تحدَّرت من مآقيه): ناقشت هذه العبارة شهوراً في ذهني.. ناقشتها وأنا ميت، وأنا نعش أعدو، وأتحرك، وابتسم، وأنا أحمل على كاهلي ((النتيجة)) .. ثم..
ـ ماذا كانت ((نتيجة)) النقاش؟!
ـ لا.. ليست نتيجة.. كانت العبارة تنمو في ذاتي، وتفكيري يوماً بعد يوم، وأقتنعت أن الحياة من أجل أن يؤكد الواحد إنسانيته تبدو حياة جديدة.
ـ ألسنا جديرين أيضاً بالانتصار على فكرة الموت؟!
ـ حينما نتمكن من ((المهم))!!
ـ المهم.. إنني إنسان!.. تلك النتيجة وحدها!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1180  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 369 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[حياته وآثاره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج