شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدّمة
بقلم: رجَاء النقاش
عرفت عبد الله الجفري لأول مرة من خلال كتاباته في مجلة ((أكتوبر)) المصرية في أعدادها الأولى قبل أن تنقطع صلته بها، لأسباب لا مجال للحديث عنها هنا، ومنذ القراءة الأولى لهذا الكاتب شعرت بميل نفسي عميق إلى كتاباته، وحرصت على أن أعرف المزيد عنه وعن أدبه، فقد كان في كتابته ما يدعو إلى الحب والإعجاب.
إن عبد الله الجفري كاتب له ((شخصية))، وقد تبدو هذه الملاحظة مثيرة للتساؤل: فهل هناك كاتب بلا شخصية؟... وأقول: نعم، ما أكثر هؤلاء الذين يكتبون دون أن يحددوا لأنفسهم شخصية واضحة، فأنت تقرأ لهم وتشعر أنهم بلا ملامح وأنهم ضائعون في زحام الشخصيات الأدبية والفكرية الأخرى، وكلما التقيت بهم وجدتهم يلبسون قناعاً لكاتب مختلف، فهم ((عشرات الشخصيات)) في وقت واحد، ومن أصعب الأمور أن يحدد الكاتب لنفسه شخصية واحدة تجدها دائماً أمامك في كل اللحظات، في لحظة القوة ولحظة الضعف، في لحظة النضج ولحظة البحث عن هذا النضج، في الكتابة السياسية والكتابة الأدبية، في الخطأ والصواب. وصعوبة تحديد الشخصية تعود إلى ضرورة توفر عناصر أساسية للكاتب، فلا بد أن تجتمع الموهبة، بالصدق الكامل مع النفس، بالثقافة الدائمة التي بدونها يفقد الكاتب سرعة النبض، وتتحول دورته الدموية الروحية إلى الحركة البطيئة وما ينتج عنها من برود وافتعال في كل ما يصدر عن قلم الكاتب بعد ذلك.
وقد توفرت لعبد الله الجفري هذه العناصر الثلاثة: الموهبة الحقيقية، والصدق مع النفس، والمحاولة المستمرة لبناء ثقافته وتجديدها، ومن هنا استطاع أن يجعل لنفسه ككاتب له شخصية خاصة تعرفها حين تقرأ له بتوقيعه، وتعرفها حين تقرأ له بغير توقيع، فهو صاحب شخصية متميزة لا تختلط مع غيرها من الشخصيات.
على أن ظهور الملامح الواضحة المحددة لشخصية عبد الله الجفري فيما يكتب لا يكفي في مجال التحليل النقدي الصحيح لشخصية الكاتب، لأن ظهور الشخصية الواضحة للكاتب يكاد يكون أمراً بديهياً ينبغي أن يتوفر لكل كاتب له قيمة، وبدون هذه الشخصية الواحدة المحددة يفقد الكاتب قارئه ويفقد قيمته الدائمة المستمرة.
وهنا نتساءل: ما هي ملامح عبد الله الجفري ككاتب له شخصية؟... إن محاولتي للإجابة عن هذا السؤال لا تعتمد على قراءتي العابرة عندما التقيت بكتاباته لأول مرة منذ ما يقرب من ثماني سنوات، بل تعتمد على قراءتي المتصلة له منذ عرفت قلمه خلال هذه السنوات وحتى اليوم.
شخصية عبد الله الجفري الأدبية والفكرية تعتمد أول ما تعتمد على ((الوضوح)) فهي شخصية منبسطة لا تعقيد فيها، تستطيع وأنت تقرأ له أن تعرف تماماً أين تتفق معه وأين تختلف، وتحس أنه يخاطبك بكل ما في قلبه وعقله دون أي خفاء أو التواء أو مكر أو دهاء، وهذا الصفاء في العطاء، وهو ما أسميه بالوضوح، ليس مجرد ظاهرة في تعبير الكاتب وطريقته في كتابة جملته وتنظيم أفكاره، بل هو ((صفة نفسية)) عميقة في شخصية الكاتب، وهي صفة تشعرك دائماً بأنه كاتب لا يكذب عليك ولا يخدعك، ولا يستخدم الألاعيب والسحر في سبيل السيطرة عليك، ولا يسعى أبداً إلى وضعك في حالة ((تنويم مغناطيسي)) يعطيك بعدها ما يريد وأنت مسلوب الإرادة والعاطفة والفكر، وما أكثر الكتّاب المعاصرين الذين يخرجون على هذا الوضوح النفسي العميق، فيضعون فاصلاً روحياً عميقاً بينهم وبين من يقرأونهم، ويستخدمون سحر الألفاظ، أو يستخدمون ما يحصلون عليه من ثقافة لكي يشعر القارئ أمامهم بالخوف والرهبة، وبأنهم أعلى منه وأرقى وأكثر ذكاء وأكبر قدرة.
عبد الله الجفري يعطيك نفسه بسهولة ويسر، ويدعوك إلى عالمه بغير افتعال أو تكلف، فإذا كان بعض الكتّاب يحصلون على الإعجاب وبعضهم يحصل على التقدير، وبعضهم يحصل على الحب، فإن عبد الله الجفري من المحبوبين، فقارئه يشعر معه بكل ما يشعر به المحب من الأمان والاطمئنان ومعرفة كل شيء حتى الخفايا، بأبسط الأساليب وأكثرها وضوحاً ونصاعة وصفاء وسهولة.
هذا الوضوح بمعناه النفسي العميق، يقودنا إلى الصفة الأخرى التي تحدد شخصية عبد الله الجفري الفنية والفكرية وهي الصدق، فالقارئ لا يحس مع هذا الكاتب أبداً بأنه يكذب عليه، أو يقول له ما لا يعتقده، أو يحاول أن يفرض عليه رأيه، ومن هنا فعبد الله الجفري، يكتب بهدوء بعيداً عن أي صخب أو عنف، وهو يهمس دائماً ولا يصرخ، ومهما كانت الموضوعات التي يعالجها حادة أو ((ساخنة)) فإنه يؤثر على الدوام أن يعبر عنها ((بالحسنى)) فلا تكاد تشعر بأنه ((يحتد)) أو ((يشتد)) أو يضرب بيديه على ((الطاولة)) التي أمامه أو ((يخطب)) بصوت عالٍ وهو يمسك بقلمه. على الإطلاق.. إنه مثل الغدير النقي الصافي، وليس مثل الشلال الهادر الذي يكتسح ما أمامه في اندفاع لا يتيح لشيء أن يعترضه أو يقف في وجهه.
وفي كتابات عبد الله الجفري تطلُّع دائم إلى المعرفة. فهو يبحث ويقرأ ويناقش ويفتش هنا وهنا، في النور والظلام، وكأنه يحمل مصباح ((ديوجين)) الشهير بحثاً عن الحقيقة، وقد أشاع عبد الله الجفري عن نفسه في حديث صحفي له ((أنه لا يقرأ كثيراً)) في هذه المرحلة من حياته، ولكن كتاباته تنفي هذه الشائعة وترد عليها، ولعلّه أشاع ذلك لأنه مصاب بمرض ((عدم الرضا عن النفس)) وهو مرض يتعرض له كل الأدباء إحساساً بأنهم ليسوا على مستوى الأحلام التي بدأوا بها حياتهم، وهي في العادة أحلام ثقافية نهمة، تريد لأصحابها أن يعرفوا الكثير. وأن يقتربوا إلى أبعد الحدود من نار المعرفة، التي أقترب منها ((بروميثيوس)) في الأساطير اليونانية، حتى أحترق بهذه النار أو أحترق فيها.
فعبد الله الجفري مندفع إلى القراءة والبحث بصورة تنعكس على كتاباته المليئة بقلق المعرفة القاسي العنيف، وهذا النهم الذي عنده للمعرفة والقراءة كانت له انعكاسات واضحة في شخصيته، وأهم هذه الانعكاسات هو أنه واحد من أبرز الأدباء السعوديين الذين انفتحوا في موضوعاتهم على العروبة والعالمية معاً، وخرج من الحدود الإقليمية الضيقة التي ما زال عدد كبير من الأدباء السعوديين يحصرون أنفسهم فيها، فعندما تقرأ عبد الله الجفري قراءة دقيقة، تحس أنه قد كسر ((الصدفة)) المحلية، فهو يعرف ما يجري في العالم العربي كله ويشارك فيه ويعبر عنه، وليس لديه - عندما يكتب سواء تعمد ذلك أو لم يتعمده - أي إحساس بأنه يكتب للقارئ السعودي فقط، فهو يكتب دائماً وعينه على المساحة الفكرية للوطن العربي كله من الخليج إلى المحيط، وهذا سر من أسرار نجاح عبد الله الجفري، وسر من أسرار نجاح أي كاتب عربي في هذا العصر وهذا الجيل، وأنا أشعر للأسف أن هذه نقطة غائبة عن عدد غير قليل من الكتّاب والأدباء في السعودية. إنهم يكتبون وعينهم على القارئ السعودي وحده، مما جعل صوتهم - على موهبتهم - خافتاً خارج الجزيرة، وجعل كتابهم أشبه بدار كبيرة جميلة مغلقة النوافذ والستائر والأبواب، فهي في داخلها تعاني من العتمة والهواء القليل.
ولا بأس من أن أستطرد هنا قليلاً في الحديث عن هذه الملاحظة، فأقول إن طبيعة الجزيرة العربية تاريخياً وحضارياً لا تسمح أبداً بإغلاق النوافذ والأبواب. فقبل الرسالة الإسلامية كانت الجزيرة العربية ممراً للحضارات، وكانت مفتوحة عن طريق التجارة لكل التيارات الوافدة من الحضارات الكبرى التي كانت قائمة في ذلك العصر: في فارس والهند ومصر والشام وبيزنطة. ولم يكن العربي في الجزيرة قادراً ولا راغباً في أن يعيش وراء أسوار تمنع عنه التأثر بالآخرين أو التأثير فيهم. لم يكن العربي، ابن الجزيرة، من أصحاب الحضارات التي يمكن أن تنعزل وتغلق أبوابها الخاصة على نفسها، كما حدث في بعض الحضارات القديمة مثل الحضارة الصينية، التي كان لديها من الأسباب الكثيرة ما يساعدها على العزلة ويدفعها إليها. ولذلك فقد بنت الصين سورها العظيم، لا من أجل الحماية العسكرية فقط وإنما من أجل الحماية الحضارية أيضاً، فقد كانت الصين مكتفية بنفسها وخائفة على نفسها معاً، فاختارت العزلة الحضارية في عالمها القديم. أما العربي فكان بحكم الظروف والتكوين محتاجاً إلى الآخرين وراغباً في الاتصال بهم وتبادل الأخذ والعطاء معهم.
وعندما ظهرت الرسالة الإسلامية، كانت منذ لحظاتها الأولى ذات طبيعة عالمية، أي أنها لم تكن رسالة محلية خاصة بالجزيرة وحدها، ولم تكن هذه الطبيعة العالمية للرسالة الإسلامية من الظواهر التي كشفت عن نفسها في مرحلة متأخرة، بل كانت من الظواهر المبكرة التي صاحبت إعلان الرسالة، فكانت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الروم والفرس والمصريين والأحباش، وقد كانوا في ذلك الحين هم أبرز القوى الموجودة على المسرح العالمي، وبعد وفاة الرسول، حمل العربي السلاح لينشر الرسالة الإسلامية في شتى أنحاء الأرض، فانتشرت الدعوة والفتوحات في كل مكان.
هذه هي الطبيعة ((الانفتاحية)) للجزيرة العربية، على ((العالم)) من حولها، بل وعلى العالم كله أينما كان. ومن هنا لا أستطيع أن أفسر تفسيراً كافياً ((انكماش)) طائفة كبيرة من الأدباء السعوديين على أنفسهم مخالفين بذلك طبيعة مجتمعهم، وطبيعة حضارتهم، خاصة بعد أن استطاعت الرسالة الإسلامية أن توحد منطقة كبرى وحساسة من العالم هي ما نسميه الآن بالوطن العربي، وحولها دائرة أخرى أوسع هي دائرة العالم الإسلامي الكبير.
في ظني أن ((الاكتفاء المادي)) عند الأديب السعودي كان من العوامل الأساسية التي دفعته إلى الرضا بحالة ((الانكماش)) وعدم التفكير في الانطلاق خارج النطاق المحلي بتفكيره وتعبيره ومشاركته الروحية، وهذا خطأ كبير، فالاكتفاء المادي، في أي حياة ثقافية سليمة يدفع دائماً إلى كسر ((المحلية)) والحرص على خلق دائرة أوسع في مجال التفكير والتعبير والتأثير.
* * *
أعود إلى عبد الله الجفري بعد هذا الاستطراد الذي أرجو أن يكون موضع مناقشة ودراسة وتأمل، لأقول إن عبد الله كان واحداً من أبرز الأدباء السعوديين الذين كسروا طوق المحلية وأدركوا أنهم عرب يكتبون للقارئ العربي في كل مكان، مما جعل عالم عبد الله الجفري مفتوحاً ومضيئاً ومليئاً بالهواء النقي المتجدد، والصداقات الأدبية الغنية.
وإذا تركنا عبد الله الجفري ((كحالة أدبية عامة)) ومكررة في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وجدنا أنفسنا أمام ظواهر أكثر خصوصية من كل ما سبق أن ذكرناه، فلكل كاتب ناجح مدخله الخاص إلى قلب القارئ، فهذا كاتب يدخل إليك من باب الفكرة الجديدة، وهذا كاتب آخر يدخل إليك من باب الثقافة والمعلومات الغزيرة التي يملكها، وهذا كاتب ثالث يدخل إليك من باب الأسلوب الجميل.
ومدخل عبد الله الجفري إلى قلوبنا وعقولنا هو أجمل هذه المداخل جميعاً.. إنه يدخل إلينا من باب: الشعر. ولست أدري إذا كان عبد الله الجفري قد بدأ حياته شاعراً كما بدأ معظم الأدباء، أم لا. ولكن الذي لا شك فيه عندي أنه يملك الفطرة الشعرية الجميلة. فالروح الشعرية عنده واضحة في اهتمامه الذي لا افتعال فيه باختيار ألفاظ تقطر بالندى الشعري وفي حرصه على توفير جو من ((الموسيقى الداخلية)) لكتاباته حتى تبدو في معظمها وكأنها من ((الشعر المنثور)).
إن عبد الله الجفري يحمل قلماً، ولكن قلمه هو في نفس الوقت آلة موسيقية، وما قرأت له مقالاً قط، حتى مقالاته الصحفية القصيرة، إلا وشعرت بأن شيئاً يهتز في قلبي، من أثر الموجة العاطفية التي يثيرها الكاتب في القلب، حتى وهو يتكلم عن أكثر الأشياء موضوعية، أو أكثرها ارتباطاً بالحياة السياسية أو الحياة اليومية. هناك دائماً هزة عاطفية، مثل الهزة الكهربائية، يخلقها في النفس هذا الكاتب الحساس.
إن تكوين المقال - عند عبد الله الجفري، كما يشهد هذا الكتاب الذي بين يديك - يعتمد على الروح الشعرية، أو على ما يمكن أن نسميه ((بالغنائية)). فهو لا يفكر فقط ولا يكتفي بتقديم آرائه، وإنما هو إلى جانب ذلك كله ((يتأمل)) و ((يعزف)) تأملاته على وتر عاطفي محسوب، وليس في هذا العزف مبالغة أو إفراط يسيئان دائماً إلى الأدب، ويجعلان منه ما يسمى بالمصطلح المسرحي نوعاً من ((الميلودراما)) التي هي ((فن)) التطرف والإسراف في الحزن والحرص على إسالة الدموع. ولقد كان لهذه ((الميلودراما الأدبية)) عصرها ومجدها في ثقافتنا العربية في بدايات هذا القرن، نجدها في نثر المنفلوطي الذي لم يكن يكتفي من قارئه بإثارة دموعه، بل لا بد أن يظل وراءه: يؤلمه ويوجعه، حتى يعوي ويولول ويصرخ، وهنا يشعر المنفلوطي أنه أدى رسالة الكاتب وحقق هدف الفنان. كذلك نجد هذه ((الميلودرامية الأدبية)) على درجة أخف وأعذب في شعر ((الشابي)) الذي كان إذا تحدث عن الموت أو عن قلب الأم التي فقدت إبنها، جمع كل ما في الكون من مظاهر الحزن واللوعة في الطبيعة أو حياة الإنسان، ليجعل المأساة قائمة في كل ركن ومكان حول العين والقلب، ومن هنا كانت قصائد الشابي تقطر أسى، وتمطر حزناً ولوعة، بصورة عنيفة حادة.
ولكن عبد الله جفري في شاعريته وغنائيته فنان عصري، يمتلك ذلك ((الانضباط العاطفي)) الضروري لمنع عواطفه وأحاسيسه من التحول إلى ((ميلودراما أدبية)) لم يعد يحتملها الذوق العربي، منذ نهايات عصر الرومانسية بعد الحرب العالمية الثانية. ولا شك أن عنصر ((الانضباط العاطفي)) من أثمن العناصر التي يمكن أن يملكها الكاتب أو الفنان، والتي تعطي للكتابة والفن أثراً أعمق وأقوى وأكثر قدرة على البقاء، ذلك لأن العاطفة الحادة غير المنضبطة تؤدي إلى الصراخ والاندفاع، مما يفقد الكتابة أي قدرة على التأثير والإقناع.
وإذا كنا لا نعلم هل بدأ عبد الله الجفري حياته بالشعر أو لا، فإن من الثابت أنه كاتب قصة يقف بين الطليعة من كتّاب القصة السعودية. وإذا كانت الروح الشعرية التي يملكها - سواء - كان قد كتب الشعر أو لم يكتبه - قد أكسبت كتاباته تلك الغنائية التي وفرت لهذه الكتابات إطاراً عاطفياً رقيقاً، وجمالاً في التعبير وخلفية موسيقية هادئة، فقد اكتسب عبد الله الجفري من ((القصة)) ذلك ((البناء الفني)) الواضح الذي يتوفر لكل مقال يكتبه، فالمقال عند عبد الله الجفري ((فن)) - كما يشهد هذا الكتاب الذي بين يديك - وليس نوعاً من البحث المجرد وطرح المعلومات المباشرة، أو التعبير عن أفكار جافة خالية من الروح أو نضارة الحياة.
لقد سقط ((فن المقال)) في الأدب العربي المعاصر، ولولا عدد من كتابنا الموهوبين - وبينهم عبد الله الجفري - لأصبح المقال عندنا تعليقاً صحفياً سريعاً، أو بحثاً ودراسة ((جافة)) تعتمد على التقرير والمقدمات والنتائج والمعلومات مثلها في ذلك مثل بيانات وزارات الاقتصاد والشؤون الاجتماعية والبترول.
لقد كان الجيل الماضي يدرك الأهمية القصوى لجعل المقال فناً له أصوله وله تركيبه الخاص وبناؤه المستقل، وهذا ما نجده بدرجات متفاوتة وأساليب متغايرة عند المازني والزيات وزكي مبارك وطه حسين والعقاد والرافعي، حتى الذين كانوا يكتبون في مجال العلوم مثل أحمد زكي، كانوا يدركون هذه الحقيقة، فالمقال عندهم فن له ((بناء)) مثل القصيدة واللوحة والقطعة الموسيقية والقصة. ولقد كان هذا الحرص على ((البناء الفني)) للمقال عنصراً أساسياً عند كتاب هذا الجيل، مما ضمن لهم التأثير الواسع والبقاء الطويل في جيلهم وبعد جيلهم، وسوف يضمن لهم هذا البقاء أجيالاً بعد أجيال.
ولكن المرحلة الراهنة في حياتنا الأدبية العربية، شهدت ((انهياراً)) في ((فن المقال)) لا شك فيه، فقد اندفع الكثيرون إلى الكتابة المباشرة التي تقوم على عرض الآراء والمعلومات المجردة الخالية من الروح، ودخل دنيا الكتابة الأدبية من لا يفرقون بين بحث في ((الجغرافيا)) وتأملات في النفس الإنسانية، وامتلأت الساحة بهؤلاء الذين يكتبون المقالات في شكل البيانات والتقارير الرسمية.
وهذه ظاهرة من الظواهر ((السيئة)) في الأدب العربي المعاصر، لأنها تفقد الكثيرين من الكتّاب أي قدرة على التأثير الفكري والنفسي والوجداني... وبدون هذا التأثير لا يكون للأدب قيمته وجدواه.
وقد استطاع عبد الله الجفري أن يدخل الميدان الأدبي معتمداً على هذ الفهم الصحيح لفن المقال، فتجنب كل ما يجعل من مقالاته لوناً من ألوان التقرير المباشر وحرص كل الحرص على أن يوفر لمقاله بناء فنياً يقوم أحياناً على الحوار، ويقوم أحياناً أخرى على تجسيد الأفكار في شخصيات محددة يعلن الكاتب من خلالها آراءه وأفكاره، ويقوم مرة ثالثة على التعبير الشعري الغنائي، الذي لا يغرق أبداً في الزخرف اللفظي المجرد، ولا في العواطف الحادة الصارخة التي تسكت صوت العقل.
ولولا أن عبد الله جفري يميل إلى ((الأسى والشجن)) دون أن يمزج ذلك بلمسة من لمسات المرح والسخرية لقلت إنه امتداد في شخصيته الأدبية لشخصية من أبدع الشخصيات التي عرفها أدبنا الحديث وهي شخصية ((المازني)). فهناك كثير من ألوان التشابه في بناء المقال بين المازني وعبد الله الجفري، لولا أن المازني كان يميل رغم حزنه وأساه إلى السخرية والتهكُّم. كما كان يميل إلى تعرية نفسه والبوح بأسرارها، حتى لو كانت أسراراً لا تليق من وجهة نظر الفضائل المزيفة مثل ((التكبر)) و ((التظاهر)) وما إلى ذلك مما يخفي حقيقة النفوس، ويعطي للناس صورة مختلفة ومغايرة للحقيقة.
وعبد الله الجفري يختلف عن المازني في ابتعاده عن النظرة الساخرة للحياة، وفي ميله إلى التأمل الذاتي، وميله إلى عدم البوح وتعرية النفس، ولعلّ ذلك يعود إلى تاثره بالبيئة المحافظة التي نشأ فيها.
ولا أدري إذا كان عبد الله الجفري يدرك وجه الشبه بينه وبين المازني أو لا يدركه، ولكنه لو أدرك هذا التشابه لحقق لنفسه خطوات أدبية أخرى تفوق ما حققه حتى الآن من تألق ونجاح وتأثير على القراء.
بقي أن نقول إن الكاتب مهما كانت قدرته الفنية على التعبير قوية وأصيلة، فإنه لا يحقق شيئاً له قيمة إذا لم تكن له أفكار أساسية يدافع عنها ويؤمن بها ويدعو إليها. وفي هذا الكتاب الذي بين يديك نلتقي بعبد الله الجفري الكاتب الفنان، ونلتقي إلى جانب ذلك بعبد الله الجفري صاحب النظرة الخاصة للحياة والإنسان، وهذه النظرة الخاصة من أثمن ما يحتاج إليه الكاتب لكي يقدم شيئاً له قيمة وأثر، وبدون هذه النظرة الخاصة يتحول الكاتب إلى رفيق عابر ثرثار قد يفيد في قتل وقت القارئ، ولكنه لا يضيف شيئاً إلى نفس الإنسان وعقله ووجدانه. وفي مجال النظرة الخاصة نلتقي في هذا الكتاب بعبد الله الجفري، الداعية المؤمن إلى أبعد حد بأن يكون المنبع الأساسي في الحياة الصحيحة الراقية هو ((الإنسان)) وليس ((الأشياء))... الإنسان بقلبه وعاطفته وعقله وألمه وسجنه وأفراحه وصراعه مع تجارب الدنيا والأيام، وليس ((الأشياء)) بما تملكه من بريق وإغراء بالامتلاك، وهذه الأشياء في حقيقتها لا تكون ملكاً للإنسان، بقدر ما تصبح مالكة للإنسان.
ولم اقرأ في السنوات الأخيرة حملة أصدق ولا أنبل مما يقدمه هذا الكتاب الجديد من هجوم عنيف ضد امتلاك الأشياء للإنسان، ودفاعاً صادقاً عن سيادة الإنسان بعواطفه وأفكاره ومبادئه وقيمه..
إن عبد الله الجفري مع كل ما هو إنساني، مجسداً في عازف البيانو والشعر وكاتب القصة وحارس الحديقة بما فيها من زهور وهواء نقي جميل، وما تؤكده هذه الحديقة من ارتباط بالغ العمق والعذوبة بين الإنسان والطبيعة.
إن الإنسان الذي يتحدث عنه عبد الله الجفري ويحلم به ويدعو إليه هو ((الإنسان الوجداني)) على حد تعبيره.. إنه الإنسان الذي ينظر إلى الحياة بوجدانه ويتعامل مع حقائق الواقع بهذا الوجدان.
ومن خلال صفحات هذا الكتاب وسطوره العذبة الجميلة، نشعر أننا أمام كاتب فنان تعيش في خياله مدينة فاضلة، هي مدينة القوة والصدق والإقبال على الحياة ورفض القوى الشيطانية المدمرة في روح الإنسان وواقعه. كما أنها المدينة التي تقوم على ((الحوار)) وليس على الصراع الدموي العنيف.. وما أكثر ما يمتلئ به هذا الكتاب من محاورات وما أقل ما يفرضه عن غير طريق الحوار من رأي ووجهة نظر.
* * *
وبعد.. فهذه رحلة سريعة مع الكاتب والكتاب، وأرجو ألا أكون قد أطلت فحرمت القارئ من الالتقاء بكاتبه الفنان في تأملاته الصادقة، العذبة الجميلة، وفي دعوته القوية إلى أن يصبح الإنسان سيداً لكل الأشياء لا أن تصبح الأشياء قيداً على الإنسان وعلى ما فيه - إذا تحرر وانتصر - من ينابيع الخير والجمال.
رجاء النقاش
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1908  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 365 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.