كلماته.. تموت وهي حبلى! |
من أجران الحزن والنزيف والتأوه.. يمتح أفراح التاريخ المسكوبة في الكلام الذي له عروق. |
ترتجف السكينة في صدره وهو يتخطى الزمن ويجتاح المسافات، ويسمع (صوت الزمن القصيدة، وترجع الدنيا إلى الشفافة)! |
يتشرد في الدروب المعادة وهو أصداء ((كلمات تموت وهي حبلى))! |
إنه ينادي شرارة الحجر.. ينادي صداقة العصفور.. ينادي ((قاسيون))، وقمر الغوطة في آن واحد.. ينادي ((صلاح الدين)) في ذكرى الفتك الصليبي، وازدهار القهر الاستعماري. |
إنه ينادي من الخرافة، ويتمرجح في ساحة الأساطير معلقاً في جدائل أنثى من هذا الشرق البخوري.. أنثى كان قد (سامرها.. غنى لها حتى غفا لها الكلام. لف عليها زنده وغطى.. ونام)! |
إنه شاعر استوطن الغرابة، وزرع فيها حدائق زمن لم يأت! |
عاشر التشرد النفسي، وعاصر قسوة الخواء الضارب في أفكار جيل ما مات لكنه لم يحيَ، وأنطلق بعد ذلك يحصد نجوم السماء في الظهيرة ويبعثر أشعة الشمس بحدقاته، حتى استطاع أن يجد صوت نفسه، وصوت فكره، وصوت إحساسه.. مجتمعة هذه الأصوات في بوح عشق يستشرف الأرض، والأنثى، والزمن، والوعي! |
ومن سنوات.. ارتقى ((دونيس)) صهوة الشواهد القائدة إلى إدراك ملامح الإنسان الجديدة الذي تصهره اليوم أحداث ((تغير بنية المجتمع))! |
ولدت شاعريته في صهد الإدراك.. في حرارة الشواهد، وأخذ يبحث عن رسالة الشعر الجديدة.. عن دوره في تغيير الواقع، وقال حينئذ: |
ـ ((إذا أدركنا أن ليس هناك انفصال بين اللغة والحياة.. يتضح لنا أن دور الشاعر لا يقتصر على تنقية اللغة وغسلها، وإنما يتجاوز ذلك إلى تنقية الفكر وبالتالي الإنسان والمجتمع)). |
وبهذا الإحساس أعطى ((أدونيس)) الكثير من فكره، ونبضه، ووجدانه ليسهم في إيجاد الكلمة المفتقدة والمطلوبة، وليجعل صوت الزمن هو القصيدة. |
وبحث عن الإطار الذي يضع في داخله أفكاره ودعوته، واحتجاجه.. فكان ((الرمز)) هو ذلك الإطار، وقد رسم في داخله أبعاد وخطوط الألم الإنساني، وألوان النزيف، وتفاؤل الفرح الفجائي العابر شروخ النفس! |
وربما قيل إن ((بدر السياب)).. هو أصدق متألم، وهو أتعس إحساس مات بسبب نضجه الشعوري، وقد تسنَّم السياب كل معاناته وسقط فوقها بعد أن هزمته ماديات الحياة، فلم يجد ملجأ للتعبير والإفصاح عن صدق روحه سوى الرمز، والخرافة، والأساطير، وقبل أن يتوقف نبضه قال السياب: |
ـ ((هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث هو اللجوء إلى الخرافة والأسطورة والرموز، ولم تكن الحاجة إلى الرمز.. إلى الأسطورة أمسُّ مما هي اليوم، فنحن نعيش في عالم تسوده قيم لا شعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح، وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها.. أن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحداً فواحداً، أو تنسحب إلى هامش الحياة)). |
و ((أدونيس)) يؤمن بهذا، وقد التجأ إلى الرموز، والخرافة، والأساطير. وضج ديوانه الذي أسماه (المسرح والمرايا) بالكثير من التصوير الرمزي، وبالكلام المنسق أسطورياً، وارتقى بالخرافة حتى الدهشة!! |
إنه يعتني بمخاطبة النهر في داخله، وصوته ينساب في أحشاء ليل مدلهم، وصاغ شعره أحياناً في قالب تمثيلي، أو ديالوجي .. يحكي الخرافة التي تنوح الحقيقة في دمها، وصاغ شعره بالرؤيا المعاصرة التي شرحها ((فوزي كريم)) فقال عنها: |
ـ ((إن الإضافة الرائعة للشعر الجديد تمثلت دون شك بالرؤيا المعاصرة للعالم، وبتشكيل هذه الرؤيا في الطرق الفنية المطروحة والتي تمثلت بالبديل الموضوعي أو الرمزي أو الأسطوري)). |
وهكذا ابتدأ ((أدونيس)) رحلته بتصوير متحرك إلى الجوانب والزوايا، وعمق الصورة الإنسانية فقال: |
(قشرة.. |
غاية المدنية، رمل |
حول رأسي، يداي، خاصرتي.. |
رمحان، والأرض فوهة، |
ويدي قبضة من الأرض |
لا تحمل غير الأكمام والأحلام |
غسلتها عيناي، لا ورق |
التاريخ فيها، |
ولا دروب الكلام. |
هي بيتي، وجسري الأخضر |
الطالع بين الأيام والأيام)! |
|
ويستطلع بعض النقاد ((الحدس)) في شعر أدونيس، إنه مرتبط أيضاً بالرموز، وبأسطورة ويتلمس شرائق الكلمات في لحظة انبهارات موضوعية حميمة ذات التصاق بالواقع الإنساني اليوم: ماذا أراد الشاعر.. كيف عبر.. ما هي أبعاد الصورة فيما أبرزه ورسمه؟! |
هناك ناقد عربي تتبع ارتحالات ((أدونيس)) واهتم بدراسة الحدس في الشعر، وقال عن الشاعر فيما بعد: |
ـ ((قدم أدونيس صياغات شعرية رائعة كمعطى لعملية الإضاءة الداخلية التي يمارسها في أعماقه الحسية، وحيث تومض الإشراقات الحدسية بنقلات سريعة ترسم طيفها المذهل أمام عيني المتلقي، بينما يسقط البعض من الشعراء في أحضان المخاطبة العقلية والتقريرية بفعل ارتباط شعرهم بالمناسبات. فالشعر الذي يتحجر فيه النبض الحدسي يكون أشبه بالسرد))!! |
وتتوافر الإضاءة الداخلية حينما يقول: |
(زمن يجري.. زمن يهرب مثل الماء |
وأنا أجري.. |
كل نهار سكين في أحشائي.. |
والليل حراب |
أشعر أن الشمس تعرى |
ترقد فوق سريري مثل امرأة |
حين يقال، قطعنا رأس)!! |
|
* * * |
واستطرد خلفه.. أجري لاهثاً مرة، ومتمشياً مرة أخرى ومتوقفاً أحياناً بدون تهيؤ. في صياغاته ابتكار الغرابة، وحنين الاستيطان في الزمن المشروخ.. المتسربة منه دفقات روحه، ومحسوس فكره. |
إنه يعيش مع الإنسان المعاصر في حاضره.. لكنه يستشرف برؤاه انطلاقات صعبة، ومنتصرة خوالجه.. إنه كما يقول: ((حتى تعيش في المستقبل من الصعب أن تكون مفهوماً في الحاضر.. خصوصاً إذا كان الناس جهلاء لا يفهمونك، ولا يقدرون أن يفهموك))!! |
وعندما تضيع نظرته بعيداً.. تفتش عن المستقبل.. يروي حكايته: |
(قلت: شعري هلة في جوف حوت |
وأنا خطى قمر يموت |
والشمس محبسي القديم |
الشمس محبسي الجديد |
والموت أغنية، وعيداً! |
أسمعتني؟! |
أنا غير هذ الليل.. |
غير سريره اللزج المضاء |
جسدي غطائي.. |
رقع مزركشة لففت خيوطها |
بدمي، وتهت، وكان في جسدي متاهي)!! |
|
إني أنتقل - بتذكر - إلى حياة شاعر إيطالياً الكبير ((أونجاريني)) وقد كان يؤكد (بضرورة الانتباه لمعرفة الوضع الإنساني)، وكان يصوغ بالرمز، والحكايا الأسطورية إشراق المعاني، ويهتم بتجديد اللغة لتكون الصوت الجديد والمعبر مثلما يدعو إليه ((أدونيس)).. أي أن المطلوب هو هدم الانفصال الملحوظ بين اللغة والحياة، وتنقية اللغة استهدافاً ((لتنقية الإنسان والمجتمع))، وقبل أن يموت ((أونجاريني)) قال عبارته هذه: |
ـ ((يجب أن نقول بأن ما فعله، وما قد صمم على فعله الشعراء والفنانون من الرومانتيكية إلى أيامنا الحاضرة واسع عظيم. لقد شعروا بعجز وتقادم عهد اللغة، أي بثقل آلاف السنين التي تجري في دمائهم.. كما أنهم أعادوا للذاكرة مقياس المعاناة، وفي الوقت نفسه وعبر جهود قاسية عنيدة امتلكوا قوة وهبتها الحياة بشكل تستطيع معه عتق نفسها بطريقة تؤكدها وتبرزها)). |
والمرأة في حياة ((أدونيس)) هي الطريق، وهي الوجه، وهي الأحلام. |
إن الرجل ما زال يحلم بأنثى لم يجدها.. ذلك أن كثيراً من الارتكاسات المتغلغلة في شرايين المجتمع الإنساني تجعل الرجل دوامة، وتجعل الأنثى دوائر تكبر على سطح الماء ثم تتلاشى كلما ازدادت مساحتها! |
والرجل يتطلب أنثى ذات سياج عاطفي معين له، وذات انطلاق فكري بلا حدود، وذات شاطئ يلم الموج ولا يكسره! |
إنه يقول في البدء: |
(الطريق امرأة.. |
وضعت راحة المسافر في راحة العشيق |
ملأت راحة العشيق |
بالحنين وأصدافه)! |
|
حتى إذا ما تراءت له حلماً، ووجهاً.. بات عليه أن يناضل لغسلها، وتنقيتها من شوائب الارتكاسات، إن الشاعر يبحث عن امرأة، وفي ظله يمشي موت. إن عليه أن يجد الأنثى التي تفهمه لتبلور وجدانه وتقدمه للأحياء حياة. لكنه ماذا قال؟! |
(سكنت وجه امرأة |
تسكن في موجة |
يقذفها المد إلى شاطئ |
ضيع في أصدافه مرفأه! |
سكنت وجه امرأة |
تميتني.. تحب أن تكون |
في دمي المبحر حتى آخر الجنون |
منارة مطفأة)!! |
|
إن اهتزازات نفسية تسبق هذا الانبلاج في رؤى الشاعر.. |
إنه يحول أشياءه كلها: الكلمات، والاقتتال، والانفعال، والطموح، والمرأة، والأرض، والزمن.. يحولها إلى عصارة رمز في كأس الخرافة.. باستكناه أسطوري. وقد قال - كونراد -: |
ـ ((إن الأدب كله بناء رمزي))!! |
لكن هذا الرمز قد تبلور في ذات ((أدونيس)) فأصبح لغة تخاطب يرتقي بها الشاعر انفعالاته، ويقد من الزمن جوانبه اللينة .. لينحت شكلاً حلم به وفتنه، وصاغت معطياته، كل اندهاشات الذهن، وتأمل الروح! |
إن ((أدونيس)) يغتسل في نهر الكلام ليموت كل يوم.. يموت لحظة، يطعم الجوع المستعر فيه!.. ولكنه في كل ذلك كان أيضاً يطعن اللغة العربية كتراث، وكقيمة من أجل الابتكار الأبكم!! |
لقد وجد نفسه أخيراً في أجران الحزن، والنزيف، والتأوه.. وانساب في سمعه صوت الأنثى التي تشهد موته كل ليلة - حتى آخر الجنون - ويحيا في عينيها نهاية الليل، وهو يمتح أفراح التاريخ المسكوبة في الكلام الذي له عروق. |
إنه يقدم واقعه.. واقع الإنسان العربي اليوم في هذه الصورة: |
جاءني جائعاً.. مددت له حبي |
رغيفاً، ودورقاً، وسريراً. |
وفتحت الأبواب للريح، والشمس |
وشاركته العشاء الأخيرا)!! |
|
إنه يتشرد في الدروب المعادة، وهو اصداء كلمات تموت وهي حبلى!! |
* * * |
|