خطوات.. في الغربة! |
جيل القلق.. جيل الغربة، وافتقاد الشطآن! |
جيل الزعزعة، والحيرة، والتشرد النفسي! |
إنه جيل هذا العصر الذي نعيشه.. شبابه يعانون.. شبابه يستيقظون على كارثة.. على انغمار أماني.. شبابه ينامون بنكسة! |
إنه جيل كل هذا العالم: جيل القلق، والحيرة، والانتقال الحضاري من مرحلة إلى مرحلة! |
إنه جيل كل هذه المنطقة العربية: جيل الغربة، والنكسة، والازدراع على الشوك، وتحويل الأرض المزروعة إلى بركان يفجر نفسه، ويحرق بعد ذلك نفسه.. جيل ((الممارسة)) على الماء .. دون تقدير للعمق! |
ولقد اتسعت الخطوات.. |
لقد كثرت الخطوات.. |
خطوات شابة تسقط بالعراقيل.. طموح تتعثر وتتكئ على وجهها بالمعوقات.. مغذة تفاجئها هوة.. لا تلبث أن تبتلعها، وتكفنها أغوارها! |
وكانت خطوات في هذه الغربة الأليمة.. |
غربة ولدت الإحساس بالكآبة.. خلفت الانطفاء النفسي، والرماد على وجه ((المخاض))! |
جيل.. غذاؤه مخاضه هو الرماد! |
أتعبه بريق الآل في مسراه.. أضنته وقدة الوجدان من حساسية المناخ النفسي.. فتعب حتى بعواطفه! |
الحب أيضاً غذاء.. لكنه مغشوش بذلك الرماد.. ملوث بالكآبة. تشرد به انفعالات وافدة.. تدفع الإنسان أحياناً أن يمزق ما في يده.. حتى لو كان ذلك رسالة حب.. حتى لو كان معنى (الاحتواء) انتهال لحظات.. إنه يبدو شروداً.. هارباً لا يريد أن يعود إلى يده، إلى نظراته، إلى أشيائه في الداخل! |
لكن هذا الذي يعطي صورة ((التشاؤم)) لحاضر جيل يعيش عصر قلق، وهزيمة وجدانية، وانفعالية قد لا يدري بواعثه.. هو الذي يعطي - كذلك - التفسير الصحيح للبواعث، ويخلص بنا إلى نتيجة.. هي الدراسة المضنية لنفسية شباب الحاضر هذا و((لظروف)) الحاضر نفسه التي أحاطت به.. فأعطته هذا المعنى (!) |
والتشاؤم هو نحت في الوجدان يصنع التفاؤل! |
عبارة تدعو للتحديق طويلاً في شيء بلا ملامح.. مع أننا نقتنع جداً أن كل شيء لا يخلو من الملامح! |
غير أنني هضمت هذا المعنى شريطة ألا نغالي في احترام تشاؤمنا دائماً! |
إن التفاؤل دائماً وباستمرار يخلق الشعور بالاستهانة، وبالدعوة إلى التفريط، والخديعة الذاتية.. فهو بهذا التناول الحياتي يذيب الجهد، ويتفه الأماني، ويسلب الانتظار ما فيه! |
لكن جيل هذا العصر.. لم يصل بعد إلى ذروة التشاؤم.. فيرفض كل شيء.. حتى تحقيق أمانيه، وهو أيضاً قد مل المزيد من التفاؤل.. إنه يشرئب إلى حقائق تنتزع من ذات قضية العصر، فسقط بهذا السبب في قلق يفنيه.. يذره رماداً، واستلبت الحيرة منه كل أبوابه المفتوحة.. فهو بلا أبواب.. شيء محاصر بالأبعاد فقط، وبالزوايا، وبالظلال (!) |
وهو أيضاً خلف الأبواب.. راح يعدو في متاهات.. عكست عليه الملل، والكآبة، والقتام.. زرعت في نفسيته المعاناة الرافضة لكل شيء.. حتى لرغباتها.. لنبضها.. لملامح البهجة المرادة حياة! |
إن إنسان العصر - في كل العالم - يذرع دربه بخطوات مبتورة حيناً.. معلقة حيناً. إنه يشيح عن نفسه.. يلوي عنق فكرة ((الاستيطان)) داخلياً!.. غريب هو.. في عالم لا يعرفه! |
وهذه المعاناة.. تناولها بالتصوير، والتعبير، والبوح شعراء هذا العصر بطريقة موغلة.. كأنها دقات مطرقة على رأس مسمار صلب. |
إن المطرقة هي انفعالاتهم، ومعاناتهم، وقلقهم.. |
والمسمار تعبيرهم، وكلماتهم، وحروفهم.. تنفذ إلى أعماقهم .. تحت ضربات أعماقهم!! |
ومن أولئك الشعراء.. شاعر عراقي شهير.. من رعيل: بدر السياب، والبياتي، والفيتوري، وأدونيس، ونازك الملائكة .. ممن استهوتهم حجارة المقبرة البيضاء.. باعتبار أن المقبرة هي الحقيقة الأكيدة التي لا تحتمل اللغط، والقلق والغربة.. يقترب منها الواحد فيهم بكل قشعريرة، وهو يغني لها في ذات الوقت!! |
ذلك الشاعر هو ((بلند الحيدري)).. الذي استهواني - في البداية - اسمه، وتساءلت: |
ـ هل هذه الكلمة: ((بلند)) عربية أم أنها أعجمية.. ركبت وأصبحت فيما بعد ((بطاقة)) تعرف الناس بإنسان عربي؟! |
وبحثت.. وعرفت أنها عربية.. من كلمة ((بلندي)) والبلندي: العريض، والبلندي، - والملندي: الكثير لحم الجنبين! |
إذن اسمه: العريض الحيدري! |
وحينما قرأت شعره تأكد عندي أنه متين التعبير، عريض .. شامخ المعاني، والثقافة! |
تلقيت ديواناً شعرياً لهذا الشاعر من صديق حبيب إلى نفسي .. في ذاته وأعماقه هو شاعر بالناس أكثر من شعوره بذاته.. هو قارئ ذكي يشرب المعاني، والثقافة ليرتوي بها، وينضح بعد ذلك عبقاً! |
وكان الديوان هدية لوقتي.. رغم أنه ((بالإعارة!)).. أمضيت رحلة عبر سطوره مدتها ثلاث ليالٍ، واستشفيت الكثير .. حتى جذبني وقع الخطوات.. فقد كان اسم الديوان: خطوات .. في الغربة!! |
وقد كان وقع الخطوات يقول: |
((أريد أن أغور في شوارع مزدحمة. |
حكاية أو غنوة أو ملحمة.. |
أريد أن أسأل من يحلم: عن أحلامه.. |
أريد أن أسأل من يألم: عن آلامه |
أريد أن أوقظ دنيا مظلمة. |
أهتز مصباحاً هنا.. هناك |
ملء نوره منى.. |
تنير ربوة، ومنحنى))! |
|
وهذه الصورة التي تنقل زخم القلق في نفس الشاعر إلى تصور المتلقي لهذا الشعر، هي نفسها حكاية الجيل الصامت.. يستخدم صمته بالبوح الزافر المختنق.. مثل هذا البوح أيضاً: |
((نسأل من أين ستأتي المنى |
من أين؟.. لن تأتي! |
ما قيمة إنسان يفنى.. |
ما قيمة آلاف تفنى.. |
ما قيمة روعة إنسان.. |
في زحمة أقدام تمشي؟! |
ما قيمة لوعة إنسان))؟! |
|
أما ((فؤاد الخشن)) فقال: |
ـ ((القصيدة عند بلند ثورة ألم مكبوت.. سيمفونية قلقة غريبة تصور ضجر العصر))! |
إن ذلك الضجر يتلوّن.. فهو تارة يتحدى، وينفعل، ويغضب، ويمزق كل الأكفان.. وتارة أخرى يستسلم.. ينخذل بالدعة واليأس، لكن.. لا تبقى نفسية الشاعر على حالة واحدة، أو لون واحد.. إن أمواجاً في داخله تتكسر.. تتعالى.. تتهدم ،، وتترقرق عند الشط في نفسه.. إنه يقول: |
((أتحداك.. لن تعود |
فضجت كبريائي |
وغمغت: مسكينة! |
وتحسست ملء ذاتي |
عملاقاً.. تهاوت |
عواطف الناس دونه |
مر بالمجد.. |
فاستهان ذراه |
ورأى فجره فداس جبينه))! |
|
خطوط لوحة اسمها: الانسحاق! |
إنسان تتوازعه كل الأشياء بين التحدي، والاستهانة بذرى المجد.. ثم يستطرد في كيان القصيدة، ووحدة موضوعها.. فيقول بعد ذلك: |
((ها هنا تلفت وجه |
حملته السنون روحاً لئيمة |
وهنا.. |
تبعث الظلال خريفاً |
وبقايا من أمنيات عقيمة |
وغداً.. يسرق الجدار هوانا |
صحوه النابض السنا.. وغيومه))! |
|
إن عنوان هذه القصيدة هو: ((مدفن الظل)) وقد عدا الشاعر بظله، فلم يخذله.. فأخذه مع كل شيء.. جعل له مدفناً.. وكل الانسحاق حقاً أن نختار مدفناً حتى لظلنا (!!) |
* * * |
لقد أطلق ((أبو محمد)) مارون عبود صفة على هذا الشاعر ((بلند الحيدري)) فقال بروعة الروعة: |
ـ ((أشهد أن ديوان بلند الحيدري - خفقة الطين - أحفل ما رأيت من دواوين الشباب بالشعر، ولعلّه الشاعر الذي تحلم به بغداد!)). |
إن ((بلند)) في صحوه، ومنامه كان يحلم ببغداد.. كان يتركها ويعود إليها، وفي روحاته، وأوبته لا يفتأ يغنيها.. وذلك الصمت الذي اتشح به.. لم يكن اغتراباً عن حاضره.. بقدر ما كان استغراقاً فيه.. إن مارون عبود يطرح عبارة أخرى فيقول: ((ليس فينا من قدر الصمت، واستوحاه.. كما استوحاه هذا الشاعر، وقل في الأدب العربي من أوحت إليه الطريق ما أوحت إلى بلند الحيدري)). وعندما يقول مارون عبود رأياً.. فهو دراسة، واستكناهاً، وتجربة بالاستقراء! |
ثم يأتي دارس آخر.. تعمق نفسية هذ الشاعر، وفهم خطوط قصائده.. هو الدكتور ((داود سلوم)).. فقال عنه في كتابه - تطور الفكر والأسلوب في الشعر العراقي: |
ـ ((إن تغييرات نفسية كثيرة حدثت في دخيلة الشاعر خلال هذه السنوات))! |
وبلند.. أول ما سطع كفنان يحترم حرفه، وكلمته.. كان يميل في صوره الشعرية، وتعبيراته إلى الرومانسية الحالمة، وصاغ شعراً نابضاً.. غير أن الشاعر في رحلته الثقافية، وفي مراحل نضجه.. قد تأثر بشعر ((عمر أبو ريشة)) ثم استهواه شعر ((الياس أبو شبكة)) وكان ديوان ((أفاعي الفردوس)) لأبي شبكة فتنة الحيدري فترة من حياته الفكرية والوجدانية! |
ثم برز ((الحيدري)) كانطباع لجيل شاب معاصر.. يصوغ وجده ومجده، ويترجم انفعالاته بأسلوبه الجديد، وبكل الزخم في نفسه، وفكره، وتحدث الشاعر نفسه عن هذا الانتقال، أو التطور في الشعر.. فكتب مرة يقول: |
ـ ((إن الشعر الحديث كان تجربة لتطور شعرنا القديم على ضوء المفاهيم الأدبية العالمية التي أطلع عليها غالبية شعرائنا المحدثون عن كثب، والاستعانة بما يجد هنا، وهناك من مقاييس أدبية لتقييم القصيدة))! |
إن ذلك التطوير نلمسه - فعلاً - في قصائد ((بلند)) من حيث البناء لشكل القصيدة.. نفس ((الترسم)) الذي برز أترابه به .. شعراء عصره: السياب، والبياتي، ونازك، والفيتوري وصلاح عبد الصبور! |
وقد بدأ اهتمام هذا الرعيل بانعكاس التحديق في الواقع.. ليعطي صورة صارخة.. لا تحتمل الديباجة؛ أو المدخل.. إن الاهتمام ينصب كله على التفاصيل.. على القسمات.. وتأتي بعد ذلك ظلال اللوحة.. التي توضح الزوايا، وتجعل ((الرمز)) فهماً عالياً تكتمل به الصورة الشعرية.. كهذه الظلال في قصيدته ((سميراميس)): |
ورأى الليل شمعة |
تتلاشى.. |
في دموع تمرغت بالنور!! |
|
وفي صورة أخرى يرسمها هكذا: |
كم تمنت.. |
لو أن تلك اللآلي.. |
وهي في صدرها: |
شهادة زور))!! |
وفي صورة ثالثة: |
((وجحيماً.. يطل من كوة العين. |
ويحبو.. في الغرفة الصماء! |
هيه.. ماذا!؟ |
أراك تخشى رياحاً |
أنا قطرت روحها من دمائي!!)). |
|
إن هذه الصورة المحلقة.. دلل بها أديب عراقي اسمه: ((عبد الجبار عباس)) على انعزالية ((بلند الحيدري)) وسلخ هذه الملامسة في الشاعر من الخضوع لفلسفة فكرية، وإنها ((تخضع لمسببات اجتماعية)).. لكن هذ - في رأيي - ينأى كثيراً.. فقصيدته عن ((سميراميس)) فيها استشراف تاريخي أسطوري ممزوج بملامح اجتماعية إنسانية.. فيها عمق الصورة المدروسة من كل جوانبها وألوانها القاتمة، والفاتحة. |
إن الشاعر لم يحاول أن يفصل معاناته النفسية المتأثرة بمناخ اجتماعي عن إلمامه، وتشبعه بالفلسفة الفكرية.. التي تعبر به فواصل التاريخ، ويكون بعد ذلك قادراً على متعة مزج المعاناة بالفهم، والإحساس بالعقل، والواقع المعاش.. الذي يعتبر استطراداً لتاريخ طويل (!!) |
إن ((بلند)) لا يفصل التاريخ - كفلسفة فكرية - عن المعايشة، والاندماج الآني، والمعاناة كحاضر يصرخ في وجهه، ويقوده إلى تأمل جو المقبرة.. كما صور ذلك في قصيدته ((في الليل)) فقال: |
((في الليل.. إذ تدفن الموتى لياليها |
وتتكئ الأنفس التعبي على أيد |
لم يدر أي يد حاكت مآسيها |
من كل ما فيها.. |
وإنني في سكون الليل اسيان |
يصيح بي هاجس كالعقل مشدوهاً |
يا رب: لم كانوا؟؟ |
لم كان للأرض تاريخ وأزمان؟!))
|
|
إن هذا الانفعال، والغضب على واقع.. لا يمكن أن نرصده في زاوية تخضع لمسببات اجتماعية بحتة، وإنما تشمل أيضاً السؤال الهام.. ذلك الذي يهز ((محاولة)) تستهدف انبعاث التاريخ.. بتساؤل قلق.. يعكس الحالة الخاضعة للمسببات الاجتماعية!! |
* * * |
وبعد... |
إن في شعر ((بلند الحيدري)) مرارة داكنة.. والتجارب العديدة التي عبرت به.. صاغت منه صانع كلمة، وفنان ألم، وشاعراً لم تستنفده تجاربه، ومعاناته، ومعايشته، وإنما كل ذلك جعل منه الشاعر ((الذي تحلم به بغداد)) كما قال شيخ النقاد مارون عبود! |
((بلند حيدري)) هو عبير القلق.. إن كان للقلق عبق!! |
ولكن... |
هل استمر ((بلند)) خاصة بعد ديوانه ((أغاني الحارس المتعب))؟! |
يلوح لي أنه تعب، فترك حراسة الشعر، وحراسة القلق العربي ونام!! |
* * * |
|