شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
متى كان موعد الرحيل؟!
عيناه رحلتا بالوميض، وبالحزن إلى الأبدية..
فمتى كان موعد الرحيل؟!
إنه لم يرحل.. بل كان يحاول أعماقه.. بعد أن احتشدت الكلمات الخرساء في عالمه العربي، فكان ينبش هذه الكلمات محاولاً أن ينطق بعضها.. أن يزين أضواء المدينة بتلك الأوراق الملونة التي نسميها شعراً!
لقد بدأ رحيل ((أمل دنقل)) .. منذ شعر أن الأرض العربية تتفلح وهي تشرب الظمأ..
بدأ رحيل ((أمل دنقل)) .. منذ أصبح كل شيء في المناخ العربي بارداً.. كل شيء في الكلمة العربية يغرق حتى يموت!
بدأ رحيله.. عندما اكتشف أن ((بيت الشعر)) تحول إلى حجر يدمي الأفئدة.. وإن ((النغم)) بيان انقلابي، يتحول إلى نشيد عسكري ينتظم النمل العربي في إيقاعاته!
((وكان يبكي وطناً.. وكنت أبكي وطناً.
نبكي إلى أن تنضب الأشعار..
نسألها: أين خطوط النار؟
وهل ترى الرصاصة الأولى هناك.. أم هنا))؟!
وظل يسأل الإشعار ويكتبها.. ولم تزل الرصاصة المنطلقة مجهولة المصدر، ولكن العربي وحده.. بقي هو المستهدف بتلك الرصاصة!
وكان يتلفت في اندلاع الغضب بعد توقيع اتفاقيتي الكامب، ويشاهد الوجوه المهدودة بالألم، والوجوه اللامعة بالزيف.. وجوه مرتفعة هابطة، أشبه بأوراق العملة في السوق السوداء!
وبدون أن يسأل.. فهم أن ذلك هو مبدأ التعامل الإنساني الجديد، وهو تعريف الحضارة الحديثة!
وبدون أن ينتظر الإجابة.. كان هو والقهر والشوق يقبعون في زنزانة الأسى على ضياع الحق العربي.. ضياع الأرض.. ضياع الإنسان.. ضياع لغة فقدت معانيها!
وبدون أن يطرح أسئلة جديدة.. كان يجاهد البكاء والحنين في زمن اغتيال القمر.. في زمن ((الأرض والجرح الذي لا ينفتح)) وانتقل به الهم من زاوية لأخرى، وكأنه المحكوم بالانفرادية والانطواء وإعياء الغربة!
واستمر يغني بالشعر.. يتواصل بمشاعره في ((بكائية الليل والظهيرة)) ويردد:
((ندم الغبار يلح فوق وجوهنا..
ونلوذ بالجدران، نحفر فوقها أسماءنا.. لكنها تتفتت!
الجدران وهم.. والرجال الملصقون على مساحة صفحة الإعلان..
والصور الثمينة في المعارض، والنقوش على المعابد..
والوسام العسكري لأنبل الشهداء..
والزهو الذي يندمس في رحم النساء..
تلك المرارة))!
واكتمل ((أمل دنقل)) شعرياً..
كانت عيونه - على وجهه، ومن أعماقه، وتفكيره - ترحل كل يوم ألف مرة، تتفرس شوق الأحبة..
تهجر الهجرة، وتكسر أسوار المنفى، ولم يكن يدري موعد الرحيل متى!
كان يحس بفجائية موعد الرحيل..
ولكنه الرحيل الذي لا يفزعه، فلم يكن يكتشف نبل الخطوة، ولم يعد يلتقي بصفاء الكلمة..
فكأنه يغازل الرحيل، فيراه انتقالاً من دنيا تضيق بالأحرار وبالشرفاء وبالوطن، لتتسع بالعبيد وبالمستعمرين وبالأقوياء المتسلطين على مقدرات الأمم!
وأتذكر في موعد رحيله الذي لم يفاجئنا به.. عبارة قديمة للرافعي، قال فيها:
ـ ((لا تتم فائدة الانتقال من مكان إلى آخر.. إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور، فإذا سافر الهم معك، فأنت مقيم لم تبرح))!
ولعلّ هذه العبارة تبلور في النفس حوافز الإخفاق في التكيف أو التأقلم حتى مع الأسى.. في عالم مزين بالأوراق الملونة التي لطختها آثار العدوان على الأرض، وبصمات القهر للإنسان المحاصر بالقوة المتسلطة على حريته واستقلاله!
لكن ((أمل دنقل)) الشاعر الذي شعر أن كل الأوراق قد بهتت ألوانها.. أخذ يصرخ محذراً من لعبة الاستعمار الجديد، فكان شعره يمثل قدرة الكلمة العربية المحدودة على تصوير هذا الانزلاق نحو هوة الصلح مع العدو المفترس..
وكانت قصيدته الأكثر شهرة وحداثة، بعنوان ((لا تصالح)) هي صوت الكلمة العربية النقي والمراهن عن العصافير والمطر والعشب..
واستمر يصرخ قائلاً:
((لا تصالح..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة.
النجوم لميقاتها.. والطيور لأصواتها..
والقتيل لطفلته الناظرة!
كل شيء تحطم في لحظة عابرة!
* * *
والذي اغتالني: مرضي لص
سرق الأرض من بين عيني
والصمت يطلق ضحكته الساخرة))!
* * *
واستقر الكيان الشعري ل أمل دنقل)) في هذا التوهج..
كأنه لن يقول قصيدة بعد هذه الصرخة المحذرة: (لا تصالح).. فقد تم الصلح، ودخل العدو الإسرائيلي إلى الفسطاط، وتجول أمام الأزهر، وصفق له ((عمرو بن العاص)).. فلا بد إذن أن يموت الشاعر وإن استعصى عليه الموت، فإنه يفكر بالانتحار!
أو كأن القصيدة في شعر ((أمل دنقل)) قد تحولت إلى خنجر يشبه تلك الأداة القاتلة التي يستعملها الياباني عندما ينتحر بطريقة ((الهاري كاري)).. فأصبحت كل قصيدة يكتبها ((أمل دنقل)) هي خنجر يسدد إلى نبض الإنسان فيه!!
وفقدت القصيدة العربية ذاكرتها القديمة.. ذاكرة الغزل والغنائية والمديح والصورة الوصفية، والتشكل من خفق القلب..
وأصبحت ذاكرة القصيدة العربية الجديدة تشتعل بهموم تطحن الإنسان، وتتلوّن بهذه ((الكيَّات)) العديدة كالوشم فوق جسد الأرض العربية!
وقبل أن تفقد القصيدة العربية ذاكرة الغزل والغناء.. كانت هناك عبارة قالها نزار قباني:
ـ ((الشعر خنجر ذهبي مدفون في لحمي.. أكره أن يتركني، ولا أكره أن يذبحني!
العمل الشعري لا يكتمل إلا بالآخرين، وبغير الاخرين تبقى التجربة الشعرية في جبين الشاعر كالعطر المحبوس في أحشاء البراعم، لا ينتفع به حقل، ولا تفرح به رابية))!!
وبعد أن فقدت القصيدة العربية ذاكرتها الأصيلة والقديمة.. تبدلت هذه الصورة التي رسمها ((نزار قباني)) فأصبحت تنغل في وريد الشاعر والقارئ معاً بهذا التبدل الماثل في هذه الصورة:
ـ الشعر اليوم خنجر قاتل مدفون في وجدان الشاعر.. يذبحه كل يوم آلاف المرات!
العمل الشعري الذي لا يكتمل إلا بالآخرين.. أصبح ينادي الآخرين، ويستصرخ أحلامهم وأمانيهم.. بعد أن تحولت التجربة الشعرية في جبين الشاعر إلى دم مراق فوق الأرض العربية.
وتحولت الحقول إلى مستعمرات جديدة يبنيها العدو.
وتحولت الروابي إلى ثكنات ومراصد لجيش العدو ينطلق منها إلى إحراق ما تبقى من البيادر والحقول العربية!
* * *
وهكذا يستشهد ((أمل دنقل)) بطلقة قصيدة.. تأتي أعنف من طلقة رصاصة!
وقبله.. وقف ((خليل حاوي)) وهو يلقي قصائده على الأرض التي تسيل بدماء عربية، فكانت كل قصيدة من قصائده جراب رصاصة.. يشبه وردة سحقتها أقدام الغزاة، فلم يحتمل هذا الموت في الحياة، وأطلق الرصاص على رأسه ليستريح هو، ولكن أمته لا تستريح.. لأن الموت هروب بالانتحار.. بينما الموت حياة بالاستشهاد وبالنضال!
أما ((أمل دنقل)).. فإن الموت ذاته هو الذي أطلق عليه الرصاص.. أو أنه لم يفعل مثل زميله ((خليل حاوي)) لينتحر بالحياة.. لكنه انتحر بالموت، فهو شاعر عربي آخر ينتحر بالموت في كثافة مشاعر القهر والأسى والغربة!
وقبله.. أقدم ((صلاح عبد الصبور)) على الانتحار بالموت في كثافة مشاعر القهر والغربة والأسى ايضاً.. فهنيئاً له بالموت الذي يحييه، وقد كان يعيش في الحياة التي تقتله!
* * *
وأخيراً.. رحل ذلك المنادي على ((زرقاء اليمامة)).. وعند رحيله، كان ما زال ينادي عليها، ومنطلقاً إليها، قائلاً:
- ((جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء..
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة..
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء))!
رحل الشاعر ((المقتول)) منذ أعوام: ساعده مقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكسة))!
رحل ((أمل دنقل)).. وهو ينعي الأمل في العصر ((الإسرائيلي))..
أتعبته صرخاته التي أطلقها في وجه الانكسار العربي.. في وجدان الإنسان العربي الذي تيبست الخفقات بين أضلعه!
رحل مهزوماً بأخبث مرض - السرطان - ومقهوراً يلعق صديد قدمه في ((قوافل الغبار))!
قتل القمر إذن.. بعد أن نزفت دماؤه أربعة دواوين من الشعر، أشهرها: ((البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، العهد الآتي، مقتل القمر)).. وعندما يغتال القمر في السماء العربية ينسحب الضياء، وتعم الحلكة. ويبدأ زمن الأقمار اللاسلكية التي ترفض ترديد قصائد الشعر!
رحل.. وقد شوهت النار عشقه، وأكل اللهب ضحكات الحب في عالمه وقال ملوحاً:
- ((لم يبق من شيء يقال..
يا أرض.. هل يلد الرجال))؟!
إنها - إذن - رحلة الصدى في هذه الحياة التي أنشد فيها الحزن.
وغنى لأطفال المستقبل العربي وهو يتأمل وجه ((بنلوب)) الحزينة.. وهو خلف دورة الهضاب.. وهو يبكي على تل الرماد، ((وتثنى الضوء من حد الحناجر))!
هذه الحناجر التي رثته، وقد كان نابضاً حياً يتمزق، ويتألم، ويبتسم لكلمة وفاء، وهو مسجى على السرير الأبيض في معهد السرطان بالقاهرة.. يرسل أشواقه من النيل إلى الفرات، إلى بردى، إلى الخليج.. يبتسم لكلمة وفاء، وقلبه يدمع نافراً صارخاً.. يردد: ((لا تصالح)).. فالعدو لن يتحول إلى صديق، وسيف العربي في غمده يأكله الصدأ، وقلبه مازال يلعن ((كافوراً))!
قتل القمر إذن..
فكأن الشعر ينتحر..
كأن الحرف الذي يؤبنه هو شظايا قمر!
إن ((أمل دنقل)) لم يمت بالسرطان وحده.. لكنه مات أيضاً بذلك الثقب الغائر في وجدان الإنسان فيه!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1875  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 356 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج