البحث عن قضية!! |
أبحث عن ((قضية)) تستقطب أوجاع، وأوهام، وانخذال، وتعثر إنسان هذا العصر! |
أبحث.. فمن يدل هذا الإنسان، المطحون بين رحى الحروب الصغيرة، والاعتداءات التعسفية، والمد التبعي.. هذا الذي يركز على سطحية المجتمع العربي، ويعمل هدماً في أعماق نفسية الإنسان، وفي جذور التراث واللغة؟! |
إنه هذا المد الخطير.. الذي يستخدم الانبهار اللفظي، ويتسلل عبر تسليات عاطفية.. تسدد إلى ضمير الإنسان وإيمانه وملامح انتمائه! |
إن الفكر العربي.. يتخبط الآن في تموجات غريبة ومتمردة .. أو سافلة ومتقاعسة!! |
لكن التمرد انفعال.. لا يدل على قضية، ولا يعكس فكرة أو رؤية.. |
لكن السفالة بالكلمة، والتقاعس في الفكرة.. لا يصنعان إلا مجتمعاً متخبطاً، متباغضاً، متنازعاً.. بمعنى إن المرء يحارب نفسه! |
إن التمرد يبدو ذاتياً، أو نفسياً، وليس فكرياً؛ ولو من واقع رؤية وهدف واضح.. وهو يفترش نفسية الكاتب العربي والمفكر والفنان؛ بقدر مساحته التي يحتلها من القلق؛ ومن فقدان الثقة في ربط النظرة المتفائلة بالمعايشة الباهتة! |
حتى معاناة الفكر.. أضحت خافتة، مليئة بالشرح.. لكنها منعدمة التأثير والفعالية والقدرة على التواصل! |
وربما كانت ((الرواية)) أو القصة.. هي التي تمثل الصمود أمام هذا السقم، وهذه الأزمات التي تحدث في الذهنية العربية، حتى حولتها إلى ما يشبه ((فاتورة)) تخضع الآن لحساب وتدقيق آلة حاسبة! |
وعندما كنت أفكر: كيف يخلص المفكر والكاتب إلى موقف يحدد به خطوته، ويعالج هذا الفراغ، أو هذا ((التفريغ)) لقضية عصره.. توقفت عند ((شرح)) أسهب فيه أحد المنظرين.. ممن تخبطوا فكرياً، وصهلوا بعض الوقت، وتمزقوا.. ثم ضاعوا، وما زال يتحدث عن مسار جديد للقضية العربية، وعن تناول مغاير للمخاطبة الثقافية.. التي ينبغي بالضرورة أن تتحول إلى رأي عام، وتبلغ فهم وإدراك سواد الناس، والتاثير فيهم! |
وقد قال ذلك الكاتب ((الشاعر)) قولاً طويل الشرح.. لمست فيه ترمد التحدي، وإن جاءت محاولته منصبة على إيجاد تعبير أخاذ، يستلهم قضية الإنسان اليوم! |
* * * |
حينئذ تساءلت: ما هي القضية.. بالنسبة للإنسان العربي والمسلم، وبالنسبة للإنسان الحضاري الذي تكثفت الصراعات في داخله، وبالنسبة للموجه بالكتابة وبالرأي؟! |
هل القضية.. هي الأرض!! |
هل القضية.. هي العقيدة، والزيغ الفكري؟! |
هل القضية.. هي الضعف من داخل الإنسان؟! |
هل القضية.. هي التفكك والمحاور السياسية؟! |
هل القضية.. هي طعن المبادئ والفضائح الأخلاقية، واضطراب الضمائر؟! |
إن العالم كله.. تحزمه وحدة الاحتياج إلى الغذاء الصحي، وإلى الرأي الصحي أيضاً، وتحزمه وحدة الالتزم بالتماسك الاجتماعي في مطالب الرفاهية، والالتزام بالمحافظة على القواعد الحضارية في مسيرة منجزات العلم! |
كذلك.. إن العالم كله تخلخله أطماع القوة العسكرية والنووية.. ففي كل بقعة من العالم، يوجد ما يربط كثيراً من أشيائها باشياء بقعة أخرى.. والإنسان لا يتجزأ كعصر وكأدوات يستخدمها، وكتعاون على صعيد الخبرات والمؤهلات والأدوات الحضارية التي يبغى من ورائها تحسين الواقع الحضاري المطلوب! |
* * * |
وإذا كان الفلاسفة القدامى، قد أمسكوا بإذن الإنسان في ذلك الوقت ليعي من خلال ما يسمع ويتلقى، وشدوها حتى الأحمرار للانتباه إلى الأخطاء الفكرية وإلى الاضطراب الوجداني.. فإن إنسان اليوم يفتقر إلى فلسفة واضحة، أو إلى من يشد أذنه لتبصيره بأخطاء أفدح.. رغم تفاهتها وسقوطها، ولكنها تعني أخطاء السلوك، وأخطاء الوجدان المضطرب، وأخطاء النفس القلقة.. وانعدام الشعور النقي، الذي يمتلك المقدرة للعودة إلى الطبيعة الإنسانية! |
ويتضخم هذا كله حتى الهلع.. لأن الأرض تنتهك وتسلب .. ولأن الإنسان يتعذب في سجون ومطاردات الاستعماريين والغزاة .. ولأن العقيدة تواجه جولة جديدة من أرباب الصليبية بأيدي عملاء لها، وبتخريب من الضائعين والمتخبطين في قلق روحي بالغ التشوه. |
ولأن القيم ذاتها.. أصبحت معرضة للمتظاهرين فوق الأرصفة، ممن يسوقهم الخداع، وتضخيم المعاناة إلى أبعد من تصور التغلب عليه. فلا بد أن تحدث البراكين من داخل النفس ويحترق العقل وتتضخم العواطف!! |
ولقد كان المجتمع الصناعي في مقدمة المجتمعات التي أكلتها نيران هذا الاضطراب الخلقي والنفسي، وهذا التفكك الأسري.. ثم امتدت ألسنة اللهب حتى أتت على حوافز الإنسان النبيلة ذات الهدف والقيم! |
حتى المفكر والكاتب.. لم ينجحا في الابتعاد عن هذا ((السوق)) حتى لأفكارهما ولتطلعاتهما، والكتب التي تصدر في العالم لا تدل على عمق قضية الإنسان، والكتب التي صدرت في العالم العربي - كظاهرة - كانت مثل نشر الغسيل القذر.. مذكرات عن فترات سياسية، في الغالب لا يستطيع صناعها أن يجيبوا! |
وهذه الكتب ((تشرح)) فقط كيفية المعاناة، ومراحل السقوط بدون حلول، وحتى بدون قدرة على التأثير! |
وهناك عوامل أخرى غير مباشرة.. تنميها الصهيونية والشيوعية والاستعمار وتجار السلاح.. للقضاء على يقين الإنسان واستقراره المؤقت.. فشوهت الكثير من القيم، واعتدت على الفلسفات وعلى الرؤية الصحيحة.. لأن الإنسان يسقط في ممارسة الاحتياجات اليومية والمصلحية! |
ولا يمكن أن ننفي وجود ((قضية إنسانية)).. ولكننا نشك في إيجاد وعي لنصرتها، وفي تواجد إخلاص لتحقيق الحلول للقضاء على الامتهانات الموجهة إلى هذه القضية! |
إنه يوجد وعي ((احتياجي)).. لكنه لا يتخطى المعاناة المجزأة والعاجز.. أيضاً.. |
فالإنسان يشكو ولكنه عاجز.. |
والإنسان متعب ولكنه لا يقدر على توفير الراحة. |
والإنسان محتاج ولكنه لا يتنازل عن احتياجه الذاتي! |
ولقد فشل الإنسان أن يبدع خطوة جديدة تفك قيوده المصنوعة من مطالبه وضعفه ونزواته، وبلادته التي تعوَّد عليها!! |
* * * |
|