شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شهادة ميلاد ضائعة!!
من أين تبدأ خطوة الفهم..
ومتى يصل إلى الخطوة وعي الإنسان؟!
مناورة صعبة بين ذهن المرء، وبين معايشته.. والزمن صالح للمشاهدة، بينما صلاحية ((الفعل)) فيه تخضع في بعض الأحيان للأحلام!
((نوع من التمني العاجز.. الذي يقف قبل حدود الفعل))!
والأحلام - رغم اقتحام الماديات - ما زالت تتواصل، وتفترش وجدان المتعبين، الباحثين عن عبارة تطفئ في أعماقهم حرائق الإرهاق النفسي!
كل شيء له معنى.. بلا شك!
وكل المعاني أضحت عاجزة عن تفسير بعض الأشياء التي تحولت في حياة الناس إلى قاعدة سلوك، أو قاعدة مطامح، أو قاعدة فهم، أو قاعدة شعور!
فأين تستقر النقطة الضئيلة، لتعطي المعنى في كلمة؟!
إلى أين يا كلماتنا التي تزاحمت على شفاهنا، وفي حلوقنا، وعبر نظراتنا؟!
إلى النقاط.. وإلى اللغة الناطقة تحت جلد الأشياء المرفوضة!
هنا التراجيديا الباحثة عن ضياء الحقيقة في تبادل الأسماء والنعوت، وأحياناً: الملامح!
لن تتضح نقاط الكلمات التي تتدفق كأنهر فوق صفحات الجرائد اليومية، والكتب المكدسة.. لأنها تتآكل بفعل زيف المعاني!
ولعلّني واحد ممن يكتبون في انتظار أن يقولوا عبارة جيدة، وذات معنى أعمق، وخالية من الإجهاد وحافلة بالتفهم لها من الآخرين .. ذلك أن الاتهام الذي أضحى شائعاً: إن العبارة أصبحت غامضة وضبابية، ومحشورة بالمعاني المغلقة!
ولا زالت الأحلام باقية، ومفترشة.. والناس كما أبطال مسرحية ((الخدعة)) التي كتبها المسرحي العالمي ((آرتور اداموف)) .. وقال فيها:
ـ ((إنهم يتبادلون السؤال عن الزمن. السائل لا ينتظر الإجابة، والمسؤول لا يعرفها.. وحركة الزمن متجسدة في الضيق التدريجي للأمكنة))!
لقد تحول كاتب هذا العصر إلى: متفرد!
إنه متهم بالكتابة لنفسه، وبالغموض.. ومتهم بالسلبية ضد الوضوح وبالانغمار في كثافة الأشجان! متهم - أيضاً - بالإرهاق النفسي.. فلم يعد قادراً على تحريك الوضوح، وتناوله لخدمة بساطة الإنسان، التواق إلى المعرفة المشاعة.. المعرفة الماخوذة، قبل أن تكون آخذة!
والكاتب في نظر القارئ البسيط، والقارئ المتحفز لتلقي المعرفة.. ينبغي أن تكون مهمته كما وصفها أحد الكتّاب: ((أن يحك كل الجلد الميت والمتآكل.. حتى يبدو الإنسان متألقاً في عريه الكامل))!!
وجلست أتأمل هذه الإرهاصات..
بدت في رؤايَ كأنها مشهد من مسرحية يصعب تكرار عرضها!
وعندما مات المفكر والمسرحي ((آرتور أداموف)) في فرنسا.. شيعوه بضجة جديرة بالعظماء، لكنهم وظفوا الكلمة دثاراً من الشتائم له ومن اللوم.. لأنه عانى الكثير من التذبذب بين ((العبث والالتزام))!
إن ((آرتور)) نشر في عام 1945 مذكراته - بعد اعترافات جان جاك روسو المشهورة بزمن طويل - غير أنه أصبح بعيداً عن تقبل القارئ، وفي ذات الوقت كان يمتلك أحاسيس هذا القارئ .. ذلك لأن المشكلة تكمن في الحيرة بين التقبل والرفض.. بين واجهة السلوك، وحقيقة الشعور!
وفي تلك الاعترافات التي كنت أقرأ فصولاً منها قبل عدة ليالٍ: ((عبر آرتور عن إحساس قاهر بالاغتراب.. منفصم عن شيء كلي لا يعرفه، ولكنه يحسه.. لا مهرب إلا في الكتابة، ولا خلاص إلا في الأحلام.. لتبقى الأحلام فقط دعوة متجددة إلى الارتباط بالحياة))!
مناورة هي إذن.. يتعذب فيها الذهن، وتتموه المعايشة!
ولقد أراد هذا الكاتب أن يئد تلك المناورة في عمل مسرحي ناجح.. أستخلصه بعد انطباع عميق كسبه من مشهد حقيقي.. وصفه هكذا:
ـ ((رأيت متسولاً ضريراً يعبر الطريق، وفتاتين جميلتين تمران من أمامه وهماً ترددان مقطعاً من أغنية ذائغة، تقول كلماتها: حين أغمضت عيني، بدا لي العالم رائعاً))!
فهذه الصورة حافلة بالمعايشة.. غنية بالإحساس، فكيف تتآكل من فوق حروفها النقاط؟!
البعض من الناس يفعل، وينكر دائماً.. لأن ((الخدعة)) في يوم الإنسان اضطرته أن يعتبرها نوعاً من ((السيكلوجية الخفية))!
إن كل ما هو زائف.. هو تجريد للارتطامات التي حدثت من قبل في ذات الإنسان.
وخلصت من قراءة تلك الفصول، ومن قراءة بعض ما كتب عن فكر ومعاني وأسلوب هذا الكاتب المسرحي الذي رحل قبل أكثر من عشر سنوات، والذي تحول من قوقازي إلى باريسي.. ورغم ذلك فقد كان شعوره بالاغتراب لا يحد.. وكانت الكلمات الحيارى في ضميره قد أضاعت شهادة ميلادها، وفقدت جواز سفرها إلى التعبير والحقيقة.. أثناء رحلتها في ذهن كل من قرأ لهذا المسرحي وحاول أن يفهمه!
ورجعت بعد هذا إلى رأي قديم للأديب ((علي أدهم)) نشره منذ سنوات في مجلة ((العربي)).. استعرض فيه ما قيل من آراء وحوار حول الوضوح والغموض في الأديب وأعماله، وارتكز على آراء مختلفة ومتناقضة، لكي يستخلص في النهاية ((اقتناعاً)) يريحه ويريح القارئ القلق المتسائل دوماً: هل هذا غموض.. أم فن؟!
ولكنه هو الآخر لم يصل إلى نتيجة!.. أو لعلّه لم يرد قفل الباب نهائياً، لأن الحوار كما الكلمات المتقاطعة!
ووجدت في إثره عبارة للناقد البريطاني ((إيفور براون)) قال فيها:
ـ ((إن الشائع في هذه الأيام - في عالم الأدب - هو أن لا تعرف ماذا تعني، فإذا تحداك إنسان فما عليك إلا أن تهز كتفك غير حافل وتقول: إنك تكتب ما تكتب وعلى القارئ أن يتبين المعنى، وأن ما يبديه الكاتب من الملحوظات يحمل الكثير من المعاني، والقارئ يقوم مقام القابلة التي تستولد هذه المعاني وليس من عمل المفكر والأديب أن يجعلا كلامهما واضحاً ومفهوماً))!
وحتى هذه العبارة للناقد البريطاني، في غمرة الارتكاسات الفكرية، تبدو دفاعاً من وجهة نظر القارئ.. لا يحمله على الاقتناع؛ فالقارئ يقول: ليس عندي الوقت لأسبر أغوار كل كاتب وأفتش سطوره بطريقة متتبع الأثر، فمن المريح لي أن أحل الكلمات المتقاطعة بدلاً من هذا الإرهاق الذهني!
غير أنه في الجانب الآخر الذي يقف فيه الكاتب.. تتمثل رؤية جديرة بالوقوف والالتفات، وهي: أن الكاتب يعاني وفي الوقت نفسه مطلوب منه أن يعالج وأن يطرد المعاناة من نفسيته ونفوس الناس، وهذا يقحمه لتحدي الخدعة في يوم الإنسان.. تلك الخدعة التي اضطرته أن يعتبرها نوعاً من ((السيكلوجية الخفية))!
ذلك ما تناوله وأحتفل به ((الرافعي)) في كتابه ((السحاب الأحمر)) وذلك ما عاناه وحاول تفتيته ((السياب)) وهو يصوغ بعض قصائده وأكثرها، وذلك ما واجهه بجرأة.. الشاعر ((ت.س. إليوت)) عندما قال:
ـ ((ليس هناك ما يوجب على الفنان أن يكون واضحاً.. فإن شأنه أن يبرز أفكاره ومشاعره وتخيلاته.. وعلى جمهور القراء أن يبذل جهده ويكد ذهنه في استبانة معانيه واستيضاح أهدافه))!
ولكن هذه العبارة لا تقدم - بالضرورة - تبريراً للذين يزاولون رصف الكلمات الغامضة بدون خلفية لمعنى يقوم بين السطور، ولا للذين يمارسون الكلمة مضاجعة بالإكراه، ولا للذين يصبغون قوس قزح كله باللون الأسود ليثبتوا أن الحياة جريمة، وأن الأحياء أشرار!!
فما أروع الكلمات إذن.. لكن هناك شفاه لا تحسن التقبيل .. وهناك أقلام لم تمتلئ بالحبر، بل بالصديد!
وما زالت النقطة الضئيلة جداً.. هي النطق لكثير من الحروف العديدة!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1049  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 353 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج