خرج من العين المفقودة؟! |
الوجود. عين مفقودة! |
كانت هذه العبارة.. تبدو كحصاد أخير من حديقة عمره. أو كأنها الزهرة التي غرسها وسقاها وشذبها.. منذ نشر الحزن وشاحه الرمادي على حياته عام 1970، عندما خسر جنونه الملهم، أو حبيبته التي أضاءت عمره حباً ووجوداً.. يوم ماتت ((إلزا))! |
بفقدها ذاك.. تحول الوجود في رؤاه ورؤيته إلى ((عين مفقودة))، أو أن ((إلزا)) كانت هي عين وجوده التي اختطفها الموت منه، وإذا هي في عمره المتبقي من بعدها: ((الحاضرة الجامدة)) التي تركته في هذه الصورة التي صاغها بشعره: |
((تركتني من كل الأبواب.. |
تركتني في كل الصحاري.. |
تركتني أيتها الحاضرة الجامدة.. |
في كل مكان.. تركتني بعينيك.. |
بالقلب.. بالأحلام؛ كجملة ناقصة))! |
|
ورغم أن ((لويس أراجون)) صاغ آلاف الجمل المشعة، والمتكاملة، والعبقرية.. لكن انسحاب هذه الأنثى من الحياة كلها، قد جعل الفرح ثلجاً، والضحكة غيمة، والذكرى - وحدها، هي الفردوس الذي يظلل عمره من هجير الوحدة والأسى! |
ولم يكن موت ((أراجون)) شيئاً مفزعاً له، ولا اغتصاباً لحياته من الوجود.. لكنه كان يرتقب هذه اللحظة الفرح منذ اثني عشر عاماً. |
كان يتكئ على الحصى البيضاء، ويتطلع إلى السماء الزرقاء، ويرقب موعده القادم مع ((إلزا)) في فجر يوم الجمعة من نهاية عام 82.. وكانت العصافير في بدء انطلاقاتها، ورذاذ المطر يخترق السحب والأمل، ليبلغ بـ ((أراجون)) إلى الحلم الأجمل.. نهاية انتظاره للموعد الذي يلتقي فيه بجنونه وبحبه ((إلزا))! |
إنها نهاية ((ديسمبر)): لوحة الخريف التي سقط القلب في ظلالها كورقة جافة.. هي ما تبقى من هذا الشاعر، الروائي، الناقد، الفنان. |
وكعادة الأحياء مع المبدعين الذي أعطوا حشاشة قلبهم وخلاصة تجاربهم الإنسانية.. تسابقت الصحف والمجلات تنعي وتؤبن هذا الفقيد، وتسلط أقوى إضاءاتها على أعماله و ((عظمته)) وإبداعاته! |
* * * |
ولكن ((أراجون)) مات سعيداً! |
ولعلّه كان يوسع من خطاه التي غادر بها العالم، بعد أن يئس من تحقيق أحلام الإنسان فيه. |
وبموته.. فقدت دعوة السلام واحداً من أنصارها ومحاربيها ودعاتها.. فقد كان واحداً من أعداء الحروب وتسلط القوة.. مثلما كان محارباً، مشاكساً، ومتألقاً، قلقاً، حائراً.. امتزجت في حسه ومداركه أضداد عديدة، جعلت منه ذلك الكاتب الواقعي، وهو في الوقت نفسه يأتي شاعراً رومانسياً يستغرق في البوح والإنشاد.. منغماً اسم ((إلزا)) الذي يشع في صدره إلهاماً، وراحة، وطفولة. |
ومات ((أراجون)) وبقي التعريف الأكثر التصاقاً به، وهو: مجنون إلزا!! |
وقيل عن هذه الأنثى التي استقطبت أجمل سنين عمره: ((إنها الأنثى التي دخلت حياته، فبعثت فيه الحلم والروح))! |
وهذا العشق الفريد في مجتمع الغرب.. جعل من ((أراجون)) ذلك الشاعر المتفرد، والمميز عن سائر الرجال الغربيين - وفي باريس بالذات - وإخلاصه والتصاقه بزوجته ((إلزا)) كانا بمثابة الظاهرة في مجتمع تغرب كثيراً عن مثل هذا الالتزام في العاطفة لأنثى واحدة.. لا يرى في النساء من تضاهيها أو تقدر على سرقة عواطفه من ((إلزا)) إليها.. فأطلقوا عليه صفة ((المجنون)) كما مجنون ليلى، وقالوا: |
ـ لقد تأثر أراجون بالشرق.. حتى في العاطفة! |
وتأثره بالشرق ثابت من خلال جولاته التي قام بها إلى هذا العالم المختلف عن طبيعة الغرب. وقارن بين ((مجموعة شعراء الطربادور في فرنسا أثناء القرون الوسطى وبين الشعراء العرب، وقال: شدتني إلى أشعارهم ما وجدته من قرابة روحية وشبه في المحتوى))!! |
ولكن هذه اللمحة التاريخية عن الشاعر الراحل، تبدو ((تقريرية)).. تتفوق عليها طبيعة النفس، والروح في البناء الإنساني للشاعر، وترتفع بعطائه إلى فلسفة الفن المتاح لتعبير النفس، ولتصوير أعماق هذه النفس المثقلة بهموم العصر، وبضغوط الماديات، وبتحديات البقاء والوجود! |
* * * |
لقد كان ((أراجون)) في فترة من إدراكه ورؤيته.. أديباً يتخبط في شعارات.. ظن أنه بمناصرتها يخوض قضايا المعدمين والفقراء والموجوعين، ثم ما لبث أن اكتشف ((عدمية)) تلك الشعارات، وسقوطها في اللجاجة والغوغائية، فقال جملته التي كتبها عنواناً لواحد من كتبه: ((لا بد أن نعرف الأشياء بمسمياتها))! |
ثم هدأت صولاته في مضمار الفكر السياسي.. ليستقر في سؤاله الذي كان يحاوره عن: الوجود، وعن منطق الحياة.. فتحولت فلسفاته الفكرية إلى رؤى من الشعر الناضج، والأعمق. |
عاد ذلك الشاعر المفتون بعطاء الشرق. |
وكان منطلق عطائه المتبلور.. ينبع من ((عيون إلزا)): الأنثى التي حفرت أصداء صوتها كل ضلع من ضلوعه، وسكنت همساتها كل خفقة من خفقات قلبه.. فكأنه هو ذاك المتيم بموعد اللقاء مع الحبيبة التي تركته في شوارع العمر.. يشاهد الناس وهم يصطادون العصافير.. ويحرقون الأشجار، ويسفكون الدماء باسم الحضارة والتاريخ والمستقبل! |
وبعد موت ((إلزا)) فقدت الفراشات ألوانها، واندفعت إلى اللهب المتأجج في العالم لتحترق.. |
ومع احتراق العصافير والفراشات.. في هذا اللهب المندلع، كان ((أراجون)) يسترخي في لحظة تأملية، تعتاده ذكريات الحبيبة، وأصداء معاركه ومشاكساته، وحصيلة من العطاء بالكلمة النافذة إلى سر الوجود؛ وطبيعة النفس الإنسانية. |
فكأن ما تبقى من العمر - بعد إلزا - أصبح هو الفراغ؛ وهو ((قبض الريح)).. ذلك أن ما فقده كان يشكل في عمره قيمة تلك ((العين)) التي كان يبصر بها جمال الحياة، ويتأمل عمقها، فيرى إطلالة الصدق الذي يستخدم الصمت بوحاً يفسر معنى الوجود! |
إنها تلك ((العين)) المفقودة.. التي رحلت عنه، وأخذته في أعماقها معها تحت الجفن! |
أو كأنه في تأمله الأخير.. كان يرى العالم من حوله، هو هذا الوجود الذي فقد عينيه!! |
* * * |
|