قليل من الشمس.. في الماء البارد! |
تمددت زرقة عينيها وجيدها متلع.. مشرئب نحو السماء. |
اتحدت زرقة العينين الواسعتين. الحائرتين.. بزرقة هذ المدى الرحب. |
تموّجت الرؤية لثوانٍ، ثم بدأت رحلتها الطويلة اللانهائية.. تبحث عن صدى شارد.. تطرد خلف غيمات متناثرة! |
ومنذ ذلك اليوم.. قبل أعوام طويلة، لم تتوقف الرحلة الطويلة، ولم تعثر على الشارد المطارد.. المكثف في نفسها حزناً، ورغبة، ومجهولاً معشوقاً!! |
إن السماء - وحدها - تعطي رحابة المسرى لهذه النظرات من ((نن)) أزرق.. نظرات موغلة في زرقة أخرى لانهائية.. فالضيق في النفس مما تكثف.. يتناوله انفراج باسم عبر السماء.. ذلك الانفراج كان حافز الاستمرار في الحياة على وتيرة لا تعترف بها، ولا تملك أن ترفضها.. |
ذات يوم - قبل أعوام طويلة - كان ميلاد النضج الذاتي.. ميلاد شمس الذهن حينما تفتحت شرانقه على فكرة.. |
كان إلهامها من وضوح العالم الصغير الذي نمت فيه، ووعت، وترعرع خفق قلبها.. وليس هناك في التعبير الإنساني أوضح من الحزن.. دلالة، ورهافة حس، وزخم امتلاك لما تعطيه الحياة بالسلب!! |
وعرفها الأدب العالمي يومها. فتاة أرادت أن تنهض بلا رتابة.. |
وأن تقول للناس: قد يكون الهمس صرخة مسموعة ذات صدى يبحث عن قرار.. وإن ((العملة الذهبية من المشاعر)) أثمن من العملة الصعبة المنصهرة بالحاجة الوقتية، وأن الثمن في التعامل الإنساني ينبغي أن يخضع لنكران البحث عنه!! |
كانت الساحة يومها مليئة بالأقدام، وبالسيقان، وبالرؤوس، وكان النبض قد جمدته معركة المصارعة بدعوى انتظار القيم، والمثل، والركائز الإنسانية.. فسقط ((سارتر)) مضرجاً بقلقه، وإلحاده، ولعقت ((بوفوار)) ذلك سنوات طويلة، وقذف ((همنجواي)) بقامته من فوق سور الحياة بدوافع يأسه، وخيبته، وانتكاسة الانتظار الذي عاناه، ومهد له في رواياته، ومات ((سومرست موم)) بقضايا الأمل، والتفاؤل التي شيدها في رواياته الغرامية، واغتيل ((باسترناك)) بشفرة حادة صغيرة إسمها: دعوى الإنعاش الأممي، عن طريق استعباد الشيوعية للفكر وتكميمه، وخنقه بعد ذلك! |
وتاه توفيق الحكيم لحظة دخوله ((بنك القلق)).. أرد أن يقتحم ذلك المكان، ولكي يعطي أهمية اللصوص له.. أسماه - بنكاً - فدخله ولم يستطع أن يسرق منه شيئاً، ولم يستطع أن يخرج منه حتى الآن!! |
كان العالم يشهد زحف الافتئات، والقلق، والإلحاد، وإذابة الخفقة الإنسانية ليتكرس الإنسان لمادياته؛ ولتوسعه الجغرافي. |
* * * |
وكتبت روايتها الأولى التي اشتهرت بها: ((مرحباً أيها الحزن))! |
وكان الانبهار يتركز في البداية على إقدامها، أو اقتحامها لساحة الأدب.. تمشي في وسط تلك الأقدام، والسيقان والرؤوس، وتحاول أن تعثر على جزء مما فقدته كإنسانة في عالم جديد، غريب، مثير.. |
وكان النقاد يتناولون قبل فكرة الرواية، وقبل تحليل أشخاصها: فكرة ظهورها فجأة، وتحليل نفسيتها، وذهنيتها، وإلحاحها.. |
غير أن ناقداً واحداً فقط التقطها من هذا التيه الذي بادأها، وأبرز عبارة لها من روايتها الجديدة الأولى.. تقول فيها: |
ـ أريد أن أتصور شيئاً.. من يستطيع أن يحقق هذا الذي فشلت فيه؟! |
ـ وقال الناقد: هذه العبارة تعكس ضعف شخصية البطلة في رواية ((مرحبا أيها الحزن)).. هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً، وهو: أن الضعف يكون في القوة أحياناً، وإن القوة ليست دائماً أخذ كل شيء، المنطلق في بناء الشخصية: أن نعترف باشيائنا أولاً، ثم نعالجها. |
وإن كانت ((فرانسواز ساجان)) ضعيفة في البناء اللغوي يوم أصدرت ((مرحبا أيها الحزن)) لكن تحديقها أصاب أهدافاً يؤكد أن الرؤية ناضجة، ومبصرة، وواضحة!! |
لقد كانت ترحب بالحزن، وهي لا تؤكد الاقتناع به - بالضرورة - بقدر ما كانت تعطي قدرة المراس على رؤية الأبعاد، ومعايشتها، وأن تستلب منها بعد ذلك نظرة خاصة بها تعني الامتلاء الداخلي. |
ثم جاءت، وفسرت ذلك في روايتها الثانية ((ابتسامة ما)).. فهي تكتب على لسان بطلة الرواية قائلة: |
ـ ((لم يحدث ما يستحق البكاء))! |
والحزن ليس بكاء.. البكاء هو لحظة ضعف، والحزن اصطبار وكبح للضعف، وإذن الاتهام الذي واجهته، والقائل بأن أبطال رواياتها يتميزون بشخصية ضعيفة.. هو اتهام كان بناؤه محكوماً بالنظرة المادية إلى سنهار، وتوالى عمرها الأدبي.. وقد سألتها ذات يوم كاتبة فرنسية تقول لها: |
ـ ((تعالى نتحدث عن الرجال في رواياتك، جميع أبطالك يتميزون بشخصية ضعيفة))! |
ـ فقالت تجيب: ((جيل لا يشبههم.. له شخصية ممتعة)). |
وعادت الكاتبة تحاورها قائلة: |
ـ ((ماذا يعني الرجل بالنسبة لك))؟! |
ـ فأجابت: ((صوت آلة الحلاقة في الصباح، وإنسان يقود السيارة، ويفتح الباب، و.. وجود نحتاجه))!! |
لقد حاولت في البداية أن ترفض، وأن تهمل، وأن تمتهن أنوثتها بكلمات قد تكون مستقاة من ساحة الانتظار الذي اضطر ((سيمون دي بوفوار)) أن تلعق، وهمنجواي أن يندفع إلى يابسة.. لكنها تحاول أيضاً أن تتذكر معنى الإفاقة النفسية، واستشراف الوجود.. فأردفت تقول عن الرجل: ((إنه وجود نحتاجه))!! |
هذا أيضاً لا يقلل من قيمتها كأنثى تعرف جيداً هذه القيمة في عالم الرجل.. لكنها فزعة، مذهولة وهي تشاهد في عالمها اليوم مدى ابتعاد الرجل عن أنثاه.. أبعدته الماديات وارتباطات الحياة وارتباكها أيضاً، وخطواتها العاجلة التي تضطره في زحامها أن يساير، وأن يفعل كما غيره، وإلا تحول إلى فقير هندي متألم، وبالتالي تهرول الأنثى إلى طريق معاكس.. تلوح لرجلها في بداية اليوم قائلة: باي.. باي، وتلوح له في نهاية اليوم قائلة: ((هاي))، ويفتح كتاباً ليقرأه، وتفتح التلفاز لتنام متعبة في منتصف برامجه!! |
هذا واقع الأسرة في الغرب، وفي أجزاء كثيرة أيضاً من الشرق اليوم.. حتى أن الأنثى أصبحت تقول العبارة التي نقلتها - ساجان - بهذا النص: |
ـ ((الزواج.. مراسم من أجل راحة الرجل. النساء متزوجات بطبيعتهن))!! |
وهذه العبارة قالتها - ساجان - وعلى شفتيها ابتسامة باهتة .. فقد تزوجت، وأنجبت طفلين أشعراها أنها ((أم))، وهذا ما تلح الأنثى على تأكيده بكل حرص، ومحبة، واستعطاف، واقتناع!! |
و ((فرانسوز ساجان)) كانت قد بدأت محاولة أولى للنقاش في قضايا تهم المرأة المعاصرة في جيلها هذا المسور بالخوف.. الخوف الذي قالت عنه إن كل الناس تشعر به، وهي تقاومه بالمرح! |
فهل كانت - ساجان - مرحة يوماً ما؟!! |
* * * |
في روايتها الأولى عكست الرغبة الأصيلة عندها في ((كسب)) المرح، والسعادة، فالذي لا يعرف الحزن.. لا يستكنه الفرح، والمسرة تأتي دائماً خلف الحزن.. ليست هناك فرحة مستنبطة، أو مأخوذة من فرحة قبلها.. فهي تستقبل الحزن لأنها تود أن تشعر بقيمة اللحظة الآتية التي تفرح فيها، وتمرح!! |
وفي روايتها الثانية: ((ابتسامة ما)) أرادت أن تطرد نفسها من داخلها.. أن تتناسى ما يشدها، وما يبلورها كإنسانة، وما يصيغ مفهوم الحياة في عالمها الصغير ذاك.. فتراءت لها وحدتها.. أرادت أن تخرج.. أن تصطدم.. أن ترتطم.. أن تقول للتجربة: أنا جاهزة.. سأحتمل.. سأبتسم - أي ابتسامة - لأرى الناس، لأذوب في أشيائهم، وفعلت كل ذلك في لحظة.. فالمرأة تقدر على ((تصنيع)) لحظتها بإغماضة خاطفة من عينيها وفتحها.. لترى أشياء أخرى. وترسبت في قاع نفسها كل التساؤلات التي كانت تضج، وقالت بعد ذلك هذه العبارة: |
ـ ((حتى يشعر الإنسان بالوحدة، لا بد له من التفكير في نفسه.. ولا وقت لدي لذلك))! |
أرادت أن تقول: إن نفسها لم تعد قضية، أو تفكيراً - على الأقل - وهذا الرأي يقضم راياً سابقاً قالته من زمن، وهي تتحدث عن السعادة.. يوم كانت ترى الحزن قضية، وفكرة جديرة بالتأمل.. وكان بحثها يخلو من الملل الذي أحسته هذه الأيام.. ذلك أن الحزن يرفض الملل.. يغمره، ويطوعه بعد ذلك.. يوم سألوها: |
ـ ((إن أبطال قصصك يحاولون تعريف السعادة، أو يبحثون عنها.. ما هي السعادة في رأيك أنت.. كيف تجدينها، أو تتصورينها في حياتك))؟! |
ـ فأجابت: ((السعادة عندي نوعان.. نوع يصيب المرء فجأة، كالحادث، كأصيص زرع يسقط على رأسك من إحدى الشرفات مثلاً، ومن هذا النوع: الحب، والحب لا يسعد إلا إذا كان متبادلاً.. أما النوع الثاني من السعادة، فمصدره هو نظرة الإنسان إلى الحياة.. أنا - مثلاً - أقبل على الحياة بحب ولكني لا ألتهم فاكهتها إلا بقدر الاقتصاد، والقناعة هنا حكمة))!! |
هذا الرأي تخلت عنه.. ربما تعبت.. ربما شعرت أن الجيد المتلع المشرئب إلى السماء يرتقب، ويتأمل، يكاد أن يتصلب .. فانكفأت زرقة عينيها، ورأت البشر حولها، وخلفها، وأمامها، وقالوا لها: هذه هي الحياة.. فالحوادث التي تقع في هذا الزمن كلها من تدبيرنا.. قد تكون فيها فجائية، ولكنها فجائية يعلم عنها غيرنا. وليست هناك أصص زرع تسقط فجأة.. لا بد أن يداً تقذفها، وتترصد قبل قذفها.. لا بد أن الإصابة أيضاً قد عرف مبلغها، ومداها.. ولم يعد هناك على هذه الأرض من يمشي ويشرئب بعنقه إلى السماء.. الزحام قد اشتد.. والرؤوس تساوت بمقدار ارتفاع السيقان، والساحة لم تزل ملآى، والرؤوس فيها لا تتشابه مع رأس همنجواي، أو سومرست موم، أو فولتير، أو جورج صاند (!!). |
إن عبارة أخرى حفظتها، واستظهرتها من رسالة جاءتني من أنثى مجلوة بالحزن.. ناصعة بالإحساس.. جعلتني أتأملها أياماً، وأخبئها شهوراً، وأتذكرها الآن عند الحديث عن السعادة في رأي ((ساجان)). |
تقول العبارة: |
ـ ((لا أزال أبحث عن السعادة؛ ولا أتمنى أن أجدها.. لأنني لو تملكتها لأهان التملك غموضاً، ولأماتت بوجودها لذة الضياع في البحث عنها))!! |
هذه العبارة في رأيي أكثر دسامة من خلخلة الرؤية عند ((فرانسواز ساجان)).. وبرغم احتفاظ ساجان بالشهرة العالمية .. لكن المعنى يستقطب اهتمام المتأمل، والباحث.. المشارك في لذة الضياع.. ولا أزكي العبارة هنا بدافع من نفاق عاطفة.. فالفكر لا يمتهنه النبض، ولا تتسلط عليه الأحاسيس إلا في حالة واحدة فقط: حالة التزاوج بين الفكرة، وبين فهمها!! |
* * * |
إن ((فرانسواز ساجان)) قد فقدت الكثير مما استخلصته في وحدتها، وفي تأملها، وفي نقدها لعالم الضياع من حولها!! |
لقد تأثرت بعد حادث السيارة ((الذي اقعدها فترة، وأصيبت فيه بمرض عصبي، حتى أن روائية فرنسية أخرى اسمها ((كلير جالوا)) وصفتها، فقالت: ((كانت تعوي وحيدة - بعد الحادث - ولا تجد من يشاركها الصراخ.. شعرت كأنها مطرودة من عالم الناس.. تسير في دروب الجنون، وليس في مثل هذه الحالة أي شيء إنساني))!! |
وقرأت هذا الوصف، فوقفت عنده طويلاً.. |
ربما إننا نظلم بعضنا البعض في أزمات التفوق، والطموح، والمنافسة.. فكلتاهما تكتب الرواية، وتريد المعاني، والتقييم لما تكتبه.. لكني قرأت بعد ذلك أحدث عبارة قالتها ((فرانسواز ساجان)) عن نفسها بهذا النص: |
ـ ((بإمكاني أن أكتب غداً - قصة عصرية - .. أحب الأحمر، والذهب، الوحدة. الأساليب التي تلجأ إليها لكسر الوحدة. نعم.. حكايات الوحدة.. حكايات الحب لن أتعدى حدودها))! |
استنبطت - هنا - قلقاً وافداً إلى نفسيتها.. إلى زرقة عينيها. أصبحت هذه الزرقة كما السماء لحظة دكنتها بالغيوم، فهي تحب الذهب.. تحب الوحدة.. لا.. تلجأ إلى الأساليب التي تكسر الوحدة.. تعود فتحب الوحدة، وحكايات الحب.. |
هنا.. عنف العصر الذي ترفضه، وتعيشه طولاً وعرضاً!! |
وكان مخاض هذا الإحساس الوافد إليها.. الجديد فيها .. كتبت أحدث رواياتها بعنوان: ((قليل من الشمس.. في الماء البارد))!! |
هذه التي كانت بدايتها.. بداية نضوجها الذهني والشعوري وقفة طويلة بلا ملل.. تراقب إشراق الشمس.. تغوص في زرقة السماء.. فتتحد زرقة عينيها بزرقة السماء.. وتنسى تعب الجيد المشرئب، وتقوى على كبح الدمعة الحائرة، فتصدها.. تبكي اليوم.. تزرع دربها بالشك.. تقول في روايتها الجديدة: |
ـ ((من يقاسي الوحدة أكثر من رجل لازم المرح والسعادة واعتنق الشك في كل شيء))!! |
لقد كانت تفلسف حزنها فتصفه ((بالرجل))، وأنه ملازمة للمرح والسعادة!! |
ثم أرخت أهداب عينيها، وتطلعت إلى زرقة البحر - في محاولة لمزج جديد - لم تقو على رفع راسها طويلاً.. كانت تحب الشمس.. كل رقعتها اللانهائية الممتدة، وأتعبتها المحاولة المضنية، واستقرت آخر الأمر على رأي: |
قليل من الشمس - قليل فقط منها - في الماء البارد، وبهذا المعنى أصبحت حياة ساجان (!!) |
إن ((فرانسواز ساجان)) في روايتها الأخيرة.. في نظرتها الجديدة هي كما وصفها أحد النقاد: |
ـ (تعيش حياتها نصف يقظة، ثم تزهد في الدنيا عندما تجد أن الفشل هو نهاية نواياها الطيبة)!! |
* * * |
|