عندما تصبح الأشياء.. عادية! |
هناك لحظة معرفة لماحة كومض البرق.. تضيء النفس حينما يغمر ظلام الخوف، والصدأ، والملل جوانب النفس.. |
في هذه اللحظة نحصي خسائر الأماني، وقتلى الرغبة الإنسانية التي كانت تملأ النفس، وخنقتها التعاسة، أو سوء الطالع، أو المظاهر الجوفاء! |
* * * |
وحينئذ.. |
في عمق الناس.. في كلماتهم، ورؤيتهم، وخفقهم.. |
في مسافات يومهم.. ارتحالهم، وتوقفهم، وحيرتهم.. |
حينئذ.. تتداعى حدود النفس.. تتهاوى الحواجز التي بنيناها عندما أردنا تقدير مسافات الأيام!! |
تتضح دوافع الجري اللاهث الذي يفعله المرء.. |
يعرف الإنسان أنه كان ((يتحمل مجاعة نفسه من أجل الحقيقة))!! |
يعرف أنه كان يبحث عن فضيلة الروح، وشرف الوجدان، وطهارة القلب.. وإن منتهى شقائه يتركز في طمس تلك الفضيلة، وفي انحراف الوجدان، وفي تلوث القلب!! |
إنه يردد صرخة نيتشه: ((يا لشقاء الواهبين))! |
لقد وهب عشقه لسأمه.. |
ووهب حبه لألمه. |
ووهب ألمه للتنازلات التي يفرضها منطق التعايش مع الآدميين لتستطيل أيامه، ويعرض اسمه، وتتضخم مخلفاته على وجه هذه الأرض التي تواريه في النهاية!! |
أين الوجهة إذن؟؟ |
لم تعد شيئاً مهماً في عمق الكلمات الخرساء، والرؤية المتجمدة، والخفق العادي! |
لم تعد شيئاً ثميناً في مسافة كل يوم تشرق شمسه.. فخطوات الارتحال بلا ظل، والتوقف بلا توقيت.. بلا محطة، والحيرة تبدو آنذاك جمال الشوق الأبكم!! |
الحديث عن الحب يخلو من بهجة القلب.. |
والقلب قد دثره خوف غامض، أو مرتقب، أو حتمي! |
والخوف.. ليس مأساة، وليس أحيانياً.. الخوف يصبح ((غالباً))، وسمة!! |
ويتبلور النداء الداخلي.. من النفس إلى دخائلها: |
ـ ماذا حدث؟ |
وكان هذا سؤال مرعب.. مرهق.. مفاجئ.. |
سؤال لاحقني - بالصدفة أولاً، وبالترسيخ بعد ذلك - كالحتميات المتعاقبة التي تبدو رؤوساً مجسدة لثمن الأشياء، ولملامح المعاني!! |
سؤال بالصدفة.. اعترضني، فكان أولاً! |
توقفت عنده وأنا أقرأ دراسة مضغوطة لأدب ((جان كرواك)) أديب الغضب كما أسموه، وهو من كتاب أمريكاً في هذا العصر، ومات فجأة.. كالسؤال المعترض!.. مات ومعه خمسة وأربعون عاماً لم يكن كلها حافلاً.. وقليل منها كان تافهاً، ومعلقاً بلا قاعدة!! |
و ((جان كرواك)) أشعل مفاهيم الشباب في أمريكا.. وكان يخاطبهم من داخل أعماقهم.. من اللاحدود في نفوسهم.. فكان بمثابة (حينئذ) في معنى الكلمة نفسها.. عباراته غاضبة .. احتجاجه عار بلا تفسخ (!!) |
كان كرواك ((يتحمل مجاعة نفسه من أجل الحقيقة)).. وكانت الحقيقة في ذات الوقت متوقفة! |
إنها حالة.. تعكس وصول الخطوة الإنسانية إلى الإحساس بأن كل شيء أضحى عادياً.. |
كل شيء مليء بالخوف.. وكل الخوف هو في محاولة اتقاء طوفان المأساة القادم ليغمر إنسانية العالم.. روحاً، ووجداناً وقلباً! |
إن التعامل بين الناس أصبح تعاملاً ب ((اللاشيء)).. |
و ((اللاشيء)) هذا.. هو تفسير ((العادي)).. |
لقد اعتاد العالم كله على لعبة صراع الديكة، وبعد هذا اعتاد على ((التعود)) ذاته، وكل الصراخ، وكل النداء، وكل الضوء ينبغي أن لا يتخطى هذا التعود!! |
وأقام ((جان كرواك)) جزيرة نائية بين دفتي كتاب، ودعا الناس أن يسكنوها، وكانت الدعوة بأسلوب انفعالي.. أخذ المفجوئين به، وصلب الذين قدموا متأخرين! (ووصفه الكثير من النقاد بأنه كاتب ((لا اعتباري)).. إنه لا يقيم وزناً لطبيعة ((التعود)) .. فصدم مشاعر الناس)! |
ولم يعط ((كرواك)) حيثيات دعوته، ولم يأخذ شيئاً.. |
كان يقف في وسط زمن.. كل شيء فيه يخضع للتعود.. كل شيء فيه تحول إلى ((عادي))! رحل ((كرواك)).. |
وبعد رحيله.. قذفت المطابع كتاباً له بعنوان: من أنت أيها الإنسان اليوم؟ |
وبعد أن فرغت من قراءة الدراسة المضغوطة عنه.. كتبت عبارة شهيرة أحفظها لنيتشه، وخبأتها بين أوراق الدراسة.. عبارة تقول: |
ـ (ويل لكل محب.. ليس في محبته ربوة)!! |
* * * |
ولاحقني السؤال القائل: ماذا حدث!! |
لاحقني ثانية.. إذ اكتشفته ضمن رسالة حملها إلى البريد ذات يوم إليَّ من إنسان بلغت غلاوته في نفسي أكثر من نفسي!! |
جاءتني الرسالة في لحظة معرفة لماحة كومض البرق.. كنت فيها أحصي خسائر أماني، وقتلي رغبتي الإنسانية التي كانت تملأ نفسي.. |
كنت إنساناً أتوق إلى تفسير حيرتي، وإلى التقاط عشقي من سأمي، وتخليص حبي من ألمي، وإنقاذ ألمي من التنازلات التي فرضها منطق التعايش، والرضوخ لضرورة لا نعرفها، ولا نفهمها، ونحني لها الهامة امتثالاً.. لأنها وليدة زمن ((اللاشيء)).. وليدة ال ((كل شيء عادي))!! |
وقرأت الرسالة: |
ـ ((لم تحدث لي مأساة، لكن كل شيء عادي.. عادي.. عادي بدرجة مرعبة. كنت دائماً أشكو السأم.. لكن في حالة - العادية - هذه أصبح السأم، أو الزهق حقيقياً. أنا أخاف منه الآن.. أحس أنه سيقتلني.. إنني أخاف أحياناً كما عرفت عني .. أما الآن أصبح الخوف عندي غالباً))!! |
هذا يعني أن الأشياء عندما تعيش بالسالب، ويتعطل فيها الموجب.. تبقى عادية.. يشيع حولها الخوف، تتسربل بالرهبة .. يبقى الإنسان في داخلها يتوقع ولا يحصل.. أو يحصل على ما لا يهمه!! |
إنه حس ((أن أشواقه حرام عليه!)).. غير أن أشواق الإنسان هي الموجب فيه.. هي الحرارة التي تؤثر في حيوية فؤاده، وذهنه، وموهبته! |
إن أشواق الإنسان هي صحوة جروحه، وصدى ضحكاته، وإصغاء اللقاء الدائم في أعماقه! |
والعالم يعيش اليوم بلا أشواق. والأشواق هي ريح الحنايا، لكن... (ما تهمني الريح المناسبة، وقل لمن لا يعرف وجهته أن يراقب مهب الريح)؟!! |
وهي عبارة لا تصلح أن نجعلها تتفرس معاناة إنسان واحد.. بل هي عبارة إنسانية شاملة! |
إن الصديق الذي خاطب لحظتي بسطوره.. موجود في لحظة كل واحد.. إنه يمثل إشراقة الحب في الحياة، ويذكر بالاحتراق بنار الحيرة، والسأم، والمضي في (مدن واسعة الحيلة)!! |
إن حدود العالم مسورة بالغضب وبالرفض، وبالسأم، والحيرة.. |
إن مسافات الأيام داخل هذا السور تنتهي إلى حيث تبدأ.. تعني أن كل شيء عادي.. عادي.. عادي حتى الرعب.. وإن على مشارف الصدى صوت شاعر يقول: |
(شمس تضحك فوقك.. |
ليل يبكي فوقي.. |
فلماذا حين مضيت.. |
لم تأخذ ذاكرتي.. |
ولماذا تتركني.. |
أتمدد محترقاً.. |
تأكلني أسماك البحر الميت)!! |
|
وبعد الاحتراق.. بعد المدن - واسعة الحيلة ! - تتراكض الأشياء كلها دفعة واحدة.. وتتحول بعد لحظات إلى منظر عادي - عادي.. كاعلان في الشارع عن فيلم جنسي مضى على بقائه عام بكامله!! |
ولقد عايش الناس ((عاديتهم)) بكل التحديق.. بمنتهى السخف؛ وهم اليوم يمارسونها بكل الأنانية!! |
* * * |
|