الآن... ما هو الثابت؟! |
((الآن))... |
كلمة كان يبحث عنها في الشروق، وفي الغروب.. |
ينبش الساعات، ويفتت الثواني ليخرجها - زمناً - يوحد فيه بين البشر، وعزلتهم.. بين عزلتهم، ومحسوساتهم.. بين محسوساتهم، ودهشاتهم، ونطاق عناصر الإنسانية!! |
كان يغوص في أعماقه ليمتح كل ما فيها، ويتحدث عن الحياة ونماذجها المدهشة، ويردد ((الحياة على الأرض غير مشروطة بالخلود))! |
لكنه كان يعشق خلوداً معيناً.. تشرق في تضاعيفه أفكار تحارب التحليلات الإجرامية التي يتعقبها الناس ليتورطوا فيها، وكان يحب ((خلوداً)) له وجهه الفلسفي المضيء باللمسات الإنسانية .. تلك التي تتكشف أحياناً في نفسه إلى درجة الإرهاق والغيبية!! |
وابتدأ ((فرانسوا مورياك)) رحلة طويلة في غابات البشر.. كان قد فتح نافذة كبيرة هي الرؤية الدقيقة، وعاش سنوات يكتب الرواية الطويلة، ويصوغ أشعاره المرهفة، ويكتب تحليلاته، وانطباعاته الصحفية. ويقف في داخل نفسه حائراً.. صارخاً.. يتواجد مرة، ويتشرد مرات في دروب شائكة، ومرعبة، وسئل عما في داخله، فأجاب: |
ـ ((أنا غيبي - ميتافيزيقي.. يشتغل في المحسوس))!! |
وأهتم ((مورياك)) بأشياء الإنسان الداخلية التي تشكل جوهره ويحاول إخفاءها.. فجوهر الإنسان ليس احتفالاً معلناً تتردد في جنباته الأصوات العالية. إن الإنسان منعزل ومجرد.. غير أن احتكاكاته، واصطداماته تجعل منه طغياناً جباراً من الماديات على أصائل النفس، وجوهرها. |
ومورياك يقول: ((إن البشر كثافة إنسانية، وهذه الكثافة تتطور، وتعتمل من تلقاء نفسها))، لكنها في تطورها، واعتمالها تتوازعها أدوار البطولة الشريرة في التعامل البشري، وتعتسفها ((مآسي الوصول للمستحيل)).. بينما هي تعتسف كل محصولها من العلم. |
إن الإنسان في غمرة هذا يعاني من عزلة النفس، وتواجد الروح!! |
* * * |
لقد مات ((فرانسوا مورياك)).. |
وكان قبل موته بأيام قليلة يترقب الموت.. الذي فلسفه في كلمته الأخيرة: ((الآن)). |
فكل امرئ يجري على طرقات الحياة ليموت.. إنه يعمل، ويشقى، ويحب، ويتعذب، ويفرح لأنه سيموت، والموت هو نتيجة تلك الكثافة، وذلك الاعتمال. |
وفي حياته الطويلة الحافلة.. قدم ((مورياك)) أعمالاً أدبية ضخمة، وكتب الرواية الفرنسية المعاصرة التي صورت اضطراب الإنسان وهو يتساءل: كيف يقدم تميزاً للأشياء المنتصبة، والأشياء المنعدمة؟! |
إن الإنسان مطحون باختلاط الانتصاب، والانعدام.. ومن خلال رؤية ((مورياك)) لهذا العالم المتفجع، والمنكفئ.. مارس حضوره، وغيبته، واستبقى في ذاته القلق الصاهر الذي انطلق كما جواد أصيل يرتاد به نفوس الآدميين، ويقتحمها، وقد قيل: |
ـ ((إن عالم مورياك كعالم بروست.. موجود فيما وراء وخارج روابطه.. مع عالم واقعي.. إنه التراب الذي تنبت فيه وترتفع مخلوقات لا تتوقف عليه فقط))!! |
وكان ((مورياك)) خلف، وفي غمار تلك المخلوقات لا يتوقف فوق التراب، ولا يرحل عنه.. إنه يستبدل الإنسان أحياناً بالوردة المتفتحة، وأحياناً يستبدله بالمستنقع الآسن المولِّد للجراثيم، والأمراض الفاتكة.. ذلك أن المخلوقات تقتل نفسها بحدودها، وبخيالاتها وبواقعيتها، وبرغائبها. |
إن الانعدام لا يبدو جزئياً كلما كان صوت الإنسان أعلى من مطالبه.. كذلك فإن المطالب الدنيوية تقسرك أن تصنع عملة توصلك إلى الخسارة!! |
* * * |
وهناك عبارة قالها - جاك روبيشون - الفرنسي عن أدب مورياك.. تقول:
|
ـ ((مورياك دجَّن الإنسان الآبد، وبأربعين سنة من التمرين. فإن الرواية المورياكية - نسبة إلى مورياك - هي الوحيدة في عصره التي تستطيع أن تحملك على القول: هذا من مورياك، كما كان يقال في السابق: هذا من بلزاك. وعالم مورياك مغلق.. بل الأكثر إغلاقاً والأكثر خصوبة بين جميع الأكوان المختلفة))!! |
إن ((مورياك)) أعطى في الرواية تعبيراً عن واقع، وحالة، ونفسية الإنسان.. ما بين الانغلاق، والخصوبة. وهو قد تسنم مكانة شامخة في الأدب العالمي المعاصر.. حتى منحوه عطاء بلزاك لحضارته وفكره. |
إن أعماله الروائية اهتمت - كما قال هنري سيمون: ((بجعل عالم الجسد محسوساً وواقعياً في كل مكان، ومتخلصاً من كل مقصد يشير إلى تصوير الوجود))... |
كان يعني ((مورياك)) بما قدمه: إن الأشياء المترابطة والدالة على الحياة، والمؤثرة فيها لا يمكن تجزئتها، وفصلها.. إن ما نستطيع أن نقرر أنه عيب هو أصل في نوازع البشر، وأن الجدل أحياناً ((يدوكر)) العيوب حتى يستسيغها الإنسان كتعامل، وكاستعارة مسلكية في واقع مضخم بالتطورات، وبالانبجاسات!! |
ولقد تأملت عبارات متعاقبة تنفس بها ((مورياك)) قبل أن يعلن عن قدوم موته.. فرأيته فيها: زوابع عصفت زمناً ثم انكسرت، وتلاشت بفعل السنين، ورأيته فيها: إحساساً غنياً أفرط في الإضافات الإنسانية نحو بشر استحقوا حماقة تكثفهم، ولكنه تشبث بالحب، والتزم بالمحاولات التي تبدأ بها الأنثى الداخلة حياة الذكر كأنما للمرة الأولى، ولا تعترف ولا يهمه فيها سوى الوقفة الفريدة التي تستمر طالما تواجد إحساس الرجل بعيداً عن انعداميته، وغيبته!! |
رأيت ((مورياك)) الذي عاش طفولة حزينة، ومنعزلة، وتربى تحت وقع الصرامة.. وهو يتطلع من حوله، وكأنه يتساءل: هل كل الناس مثلي؟! |
وإذا لم يكن كل الناس مثله.. فلأن المرء وحده لا يرى في غيره إلا نفسه، بالصورة المعاشة، وبالصورة المأمولة، والتي يحلم بها. ولأن ((مورياك)) هو ذلك الفنان الأصيل، والمأساوي، والضاج بالاحتجاج والرفض، فقد تناول ما حوله لحظة بحث مضنٍ عن الحب، والفرح.. لحظة فقدان عدمي.. لا يبدو ((الوصول)) فيه مشروطاً بالتحقق، ومن ثم بالخلود. |
لذلك.. فقد تحدث ((ناقد)) عن هذا الجانب الصميمي في معاناة، وتفكير ((مورياك)) فقال يصفه: |
ـ ((يستطيع - مورياك - أن يفتخر بأنه وصف عشرين مرة - دون تطاول غيبي - مأساة الوصول المستحيل للنفوس خلال الأجسام، وبأنه وضع في قلب مبتدعاته العطش الذي لا يرتوي لقفر الحب))!! |
وعبر هذه الرحلة الطويلة من الحياة، والتأمل، والتفكير، والاقتناع.. أعطى مورياك أدباً حياً، وأديباً مسعداً من تضاعيف التعاسة فيه، وأبدع في استنطاق مضامين الإنسان. واستشرافاته، وارتطاماته. |
وفي النهاية، وقبل أن يتوقف نبض هذا الإنسان قال: ((كل شيء مر كما لو أن الباب قد أقفل إلى الأبد في داخلي. الآن - في الساعة الأخيرة - لا أحد يستطيع أن يتكهن.. حتى التظاهر بالاستسلام للموت لا يثبت شيئاً))!! |
((الآن))... هذه الكلمة المتفاعلة، والمتحركة: ماذا تعني.. ماذا تثبت؟! |
إن الإنسان لا يقدر أن يمتلك ((الآن)).. |
إن كل شيء في ((الآن)) هو محكوم لما يأتي بعده ف ((الآن)) وقفة دهشة، وانشغال مؤقت.. ثم لا يبقى بعد ذلك شيء!! |
* * * |
|