| الرسالة الثامنة عشرة |
| ـ ((يا قناديل الشوارع.. ساعديني. |
| إجعلي الماضي مضارع.. اطفئيني))!! |
|
| ـ سيدتي: |
| أغسل أحداق الليل من الآهات، والتوجّع، والنوى.. |
| تبدو الدنيا من حولي في صحوة النسيان، والناس يصنعون أيامهم لذكرياتهم، ويتولّد ذلك النسيان اليومي، ويتكثف في البعد ارتحال.. لعلّنا نسميه ((التغيير)) تارة، ونسميه الملل تارة أخرى! |
| في مشوار النسيان تنهزم الأفئدة.. فهل انهزم فؤادك؟!! |
| فلماذا - إذن - تطرحين سؤالك الفولاذي: عجباً، أو صحوة، أو حنيناً.. فتقولين: |
| ـ هل يقدر القلب أن يحب بُعد مشوار النسيان، أو بُعد الارتحال إلى ((بُعد))، أو بُعد التغيير، أو بُعد الملل؟!! |
| ليس المهم من طرح السؤال: أنت أم أنا... لكن الإجابة، والنتيجة، وردّ الفعل.. يدفقون ذلك الشعور الصادق، بالقدرة.. أم بالتعب! |
| عندما تتعب المشاعر.. يتكدر نبض القلب. |
| عندما يشيخ الإحساس.. يسترخي القلب، وينسى، وينهزم! |
| كنا - معاً - نغازل الحياة من حولنا.. نسمع همس الوردة، وغناء الطبيعة، وابتهاج الأرض بالقمر، وبالمطر، وبالعشب، وبعطر الليل، وبنجوى الوجدان. |
| لم يكن حبك يمثل عزلتي عن الناس.. بل كنت أحيا بهؤلاء الناس. في صخبهم، وعراكهم، وجريهم، وعطائهم، وخوفهم، وأمانيهم. |
| حتى عندما لاحت تلك الشعرة البيضاء اليتيمة على مفرق شعرك، وحاولت إخفاءها بالحناء!... رأيتها نجمة باهرة تلمع في دكنة سواد شعرك الليلي! |
| وضحكت في ((سر)) ليالينا... وسألتك: |
| ـ هل تخافين الشيخوخة؟؟! |
| ـ وسمعتك تجيبين: طالما أنت بجانبي، فلن أخاف الشيخوخة ولا العمر، ولا التعب.. لأن بقاء كل منا بجانب الآخر: تجديد للحياة، وللعمر. |
| كانت كفك دافئة في ذلك المساء.. أخذتها بين كفّي، وقبّلتها، وفي أبعاد ذلك الصمت.. رددت السؤال إلي، فقلت لي: |
| ـ وأنت.. ألا تخاف الشيخوخة؟! |
| ـ أجبتك: شيخوخة قلبي.. مرهونة بعطاء شباب روحك لي. |
| أعرف أن قلبي سيشيخ.. في اللحظة التي يتغير فيها نبض قلبك ويتحول عني.. في اللحظة التي يتكثف فيها ارتحالك بعيداً عني. |
| ترى... هل تأتي قرعات الشيخوخة، كما قرعات ((انكيدو))؟! |
| ما زلت أتذكر معك أسطورة ((جلجامش))، وقد عرفتك من داخلك، وعرفتني بكل أبعادي ومناخاتي، ونحن - معاً - عرفنا عبر مشوارنا: سقوط ((الجدار الرابع))، وضحكات القسوة، والابتسامة التي تلوح هموماً.. فنصبغها بصفاء قلبينا، والدمعة التي تنزلق حبة لؤلؤ.. فتغسل خوفنا من الفراق، وخوفنا من الزمن، وخوفنا من الخوف! |
| كثيراً ما استفتيت عقلي.. كلما حذرني قلبي من الكراهية. |
| كثيراً ما سألت قلْبي.. كلما وقف عقلي مناقشاً: هل تندم؟! |
| لأنني لم أعرف الكراهية.. فإنني لم أعرف الندم! |
| لأن الحب ضوء من التفاؤل، والتسامح، والعطاء.. حتى إذا اصطدم بالجحود، وبالنكران، وبارتحال من نحب إلى الملل و النسيان.. فلا بد أن يخفت ذلك الضوء! |
| * * * |
| إنك - يا سيدتي - لم تكوني في حياتي: ((تجربة)).. أتحدث عن ما قبلها، وأتهيأ لما بعدها: |
| أبداً.. لقد كنت وما زلت: أنت الضياء، والمعنى، والقيمة، والخفقة. |
| فانظريني - يا سيدتي - بكل القدرة، والمضي، والتواصل، والرومانسية أيضاً: ((فارساً)) أطرد بـ ((مهرتي)) ميمّماً نحو - ختم الزمان - كما قال شاعر حسبناه يوماً ما: مجنوناً!! |
| انظريني - يا حبيبة - بحّاراً.. يخوض عتوّ الموج، ويلعق ملح الشواطئ، ويغني: ((الحدري)).. بكثافة ذلك الحزن الذي ((توهناه)) على امتداد الشارع الواحد الذي حدثتك عنه.. كل عمرنا! |
| فأية شيخوخة تعنين؟! |
| اليأس، التراجع. العزلة. الخوف. الشك. الحذر؟! |
| برغم موجات الغضب والخصام والنوى.. تلك التي تقاذفتنا، وطوحت بصفائنا، وبصدقنا، وبجنوننا.. فإنني لم أعرف اليأس معك، ولم أعرف اليأس في طريق مشيته بقناعاتي، وبأشواقي، وبعطائي، وبأحلامي. |
| لو يئست منك، أو يئست مني.. لو تراجعنا، فذلك يعني أن حبنا قد أصيب بالشيخوخة! |
| أما عزلتي.. فإنها تشيخ وتكبر، عندما تبعثرين كل الذكريات في النسيان. |
| إن قصدت - يا سيدتي - شيخوخة الروح.. فدعيني أعلن عليك نبأ الروح: |
| ـ أنا لم أمت بعد.. وأنت لن تموتين بين أضلعي! |
| من شاخت روحه: مات، حتى إن لم يمت جسده. |
| إن قصدت شيخوخة العقل.. فإن معاناتنا المرهقة، تكمن في عصر لا يريد أهله أن يفهموا ما يريدون، ولا يريدون الذين يفهمونهم! |
| إن قصدت شيخوخة الجسم.. ففي هذا العصر: عصر الآلام النفسية، والإحباطات، والأمراض المفاجئة والقاتلة، والكربة.. لا بد أن يشيخ الجسم مبكراً! |
| * * * |
| ضحكت.. وأنا أتذكّر أمجاد وماضي ((البطل)): محمد علي كلاي.. ذلك الذي شاخ وهو في السابعة والعشرين، ولكن... هل شاخت روحه، وحوافزه، وعواطفه، وقدراته؟!! |
| وكم كتبت إليك أتحدّى أية شيخوخة من تلك التي تنال عقلي، أو روحي، أو حوافزي، أو أحلامي! |
| وكلما كتبت إليك.. كنت أؤكد لك أن الكتابة ليست عضل جسم، ولكنها ((عضل زهرة))، وكيان عصفور.. لأنها صوت قلبي إليك، ولأنها رؤية روحي ونفسي. |
| أما إن كنت قصدت شيخوخة القلب، فـ ((آه)) على القلب الذي يشيخ، و ((آه)) من القلب الذي لا يشيخ... كلاهما: موج وتيار! |
| القلب الذي يشيخ.. موج من الذكريات التي تتجنب تيار البحر، لئلا يصعقها الارتطام. |
| والقلب الذي ((لا)) يشيخ: موج من الابتسامات التي تمخض الهموم.. تندفع نحو تيار البحر ليحملها إلى الشاطئ، فترتطم تارة، وترتد مثل زجاج مهشّم تارة أخرى! |
| * * * |
| إن الليالي - يا حبيبة - ما زالت مضيئة، مليئة بالنبض.. مبصرة بالخفق. |
| لكن الليالي لا تطول بغدق الحب والعطاء.. إن الإنسان يعطيها رمادية انبلاج الفجر.. يعطيها نصف النظرة، ونصف اليقظة.. ليسقط وهجها على حفافي الشمس، فتتحول إلى ذكرى!! |
| إن الليالي تبدو في نهاياتها... مرتطمة بذلك الصباح، في ليلة راس السنة، ووداع سنة!! |
| وقبل هذا اليوم الذي أناديك، وأصغي فيه إلى فلسفتك للتجربة، وخوفك من الندم، ولهفتك على استطاعة استمرار الحب.. قبله: بكى ((ابن زيدون)) وقهقهت ((ولاَّدة))، وتسهّد ((نابليون)) وأغفت ((جوزفين))، وهجر النوم ((قيس)) في أصداء نداء صنعته الرغبة واضمحلت بعد ذلك.. بعد سقوط توهجها! |
| وخاطب ((طارق بن زياد)) الساعات الأخيرة من الليل، وهو على مشارف ((غرناطة))، وابتهج المدى بصرامته، وهي تتحد مع صوت ((فلوراندا)) الإسبانية التي كانت تنادي: ((ادخل الأبواب يا طارق.. حررنا من غفوة زماننا عنا))!! |
| كان الجميع يبحث عن: الإشراق، والوضوح، والأهداف... بالحب! |
| كان الجميع ((يناضل)) الحياة.. لصناعة لحظة الرؤية والعطاء الذي ليس له مقابل. |
| كان الجميع - بالحب وحده - يقف على ابتكار أمانيه.. ينزرع ((سنبلة)) في أعماق وجوده!! |
| * * * |
| والآن - يا حبيبتي - تحضرني عبارة، قالها الروائي الحديث ((جابرييل ماركيز))، تقول: |
| ـ ((الحب هو الحب في كل مكان، و... زمان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت))!. |
| آه يا حبيبة.. إن موتهم هناك للحضارة. أما موتنا هنا فللحب!! |
| الموت ليس في الشيخوخة، ولكنه في تغيير خارطة الإنسان... فهل عرفت أن القلب الآن هو هذه الجراحات؟! |
| هل أصدق أنك تغيرين خارطة نفسك.. خارطة قلبك؟! |
| ابلغوني أنك ركضت إلى ((فارس)) آخر، يجيد لعبة الانتباه.. فجاء التصاقك به من ناحية عقله وتفاعلاته مع النضال للحياة.. وليس النضال في الحياة!! |
| والآن - يا سيدتي - تحضرني - أيضاً - عبارة قديمة، كتبتها ((فرانسواز ساجان)) المرأة التي غرقت في الحزن من أجل شيء لم تعلن عنه، فقالت في روايتها ((مرحباً أيها الحزن)): |
| ـ ((أنت في العشرين.. تستطيع أن تحب! |
| وأنت في الثمانين.. تستطيع أن تحب! |
| وهناك دائماً مناسبة لاشتعال البرق))! |
| نعم - يا سيدتي - هناك دائماً مناسبة لاشتعال البرق، ولكن... متى. وكيف؟!! |
| إننا نبحث عن ((تعادل)) شيء.. ما بين الأخذ والعطاء! |
| أرجوك.. لا تدعي أعصابك تغضب، ولا أنانيتك تغضب، ولا صبرك يغضب، ولا ثقتك بنفسك تغضب! |
| ولكن... دعي موقفك يغضب، وكلماتك تغضب، وضميرك يغضب، ووجدانك يغضب! |
| إن ((الموقف)) حتى في العاطفة.. يتطلب الحكمة، والعقل، والتبصر! |
| والكلمة.. تتطلب الحوار، والمنطق، وحسن التعبير. |
| والضمير.. يتطلب الحق، والعدل، واليقين، والشرف! |
| والوجدان.. يتطلب الوضوح، والصدق، والنقاء، ورفض الكذب! |
| أما شيخوخة العمر.. فقد يطوحنا الخوف منها في حالة واحدة: إذا فرغ القلب من وجيبه، ومن ذكرياته!! |
|
|